يرجح أن تترتب على جلاء القوات الإسرائيلية من لبنان، في أعقاب نيف وعقدين من الاحتلال ومن المقاومة والرضوخ والتعاون، صياغة مختلفة للعلاقات الإقليمية المشرقية التي تصدرتها العلاقات السورية والإسرائيلية. ففي أثناء قرابة ربع قرن تولى المسرح اللبناني، ناساً وأرضاً ومجتمعاً ودولة، مهمة الحؤول دون انجرار القوتين الإقليميتين إلى حرب رأسية في بيئة سياسية وعسكرية تزخر بعوامل الانجرار، وتفتقر الى ضوابط الوقاية منه. فكان لبنان، على هذا، مسرحاً احتياطياً يسع القوتين المتقاتلتين شن معارك تكتيكية فيه وعليه، مباشرة أو بالوكالة والنيابة، ويسعهما اختبار نيات الواحدة بإزاء الأخرى، من غير أن يرتب ذلك نتائج وخيمة على الاثنتين، واحدة واحدة. والحق أن حاجة سورية الى المسرح الاحتياطي اللبناني، غداة حرب تشرين الأول اوكتوبر 1973، كانت ماسة. فالحرب العربية الإسرائيلية الرابعة انتهت على نحو خيب آمال القيادة السورية خيبة ثقيلة. فالشقيق والحليف المصري أزمع الخروج من الحرب العسكرية، ومن اختبار القوة المنهك، وحده، وحاول جر منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني" منذ 1974، إلى سياسته، من غير أن تفلح محاولته. ولم يكن من نتيجة الاختبار العسكري، والأداء المصري والسوري فيه، ما يحمل المملكة الأردنية الهاشمية على العودة عن تحفظ أورثتها إياه هزيمة 1967. ولا شك في أن النازع الفلسطيني إلى الاستقلال فاقم التحفظ الأردني عن الإسهام في سياسة عربية جامعة، لم تلبث ذيول تشرين الأول 1973 السياسية والديبلوماسية، والخلاف المصري السوري، أن وأدت وعودها واحتمالاتها. وكان لبنان، من وجه آخر مستقل بعض الشيء عن حرب 1973، تحول إلى "خزان" المنظمات الفلسطينية المسلحة، على قول صلاح خلف أبو أياد. وأقامت هذه فيه، منذ خريف 1969 وإملاء "اتفاق القاهرة" عليه، ميداناً عسكرياً وسياسياً واجتماعياً يتهدد حدود الدولة العبرية وسكان شمالها، وينافس السياسة السورية، والسياسة المصرية، على نفوذهما في السياسة اللبنانية عموماً، وفي تجنيد العروبيين اللبنانيين وتأليبهم على الدولة المختلطة خصوصاً. وإلى الدورين هذين اضطلعت المنظمات الفلسطينية المسلحة بدور ثالث هو تأجيج المنازعات الداخلية والأهلية العربية، واستقطاب القوى الأهلية والأجنحة السياسية أو الانضمام إليها والعمل على ترجيح كفة على كفة أخرى. فأتاح لها انتشارها في لبنان، وتعاظم دورها في حياته السياسية، واتخاذها من الجماعات العروبية ومعظمها من المسلمين وجماعاتهم وطوائفهم خندقاً ومتراساً، لا سيما بعد إخراجها من الأراضي الأردنية، أتاح لها الانخراط في الخلافات السورية السياسية انخراطاً متعاظماً. ولما كانت السياسة الفلسطينية المشتركة تقضي بتوريط الشطر الأكبر من الدول العربية في اشتباكات متصلة مع الدولة العبرية، على رجاء تتويجها بحرب فاصلة، اقتضى ضبط أصحاب هذه السياسة، وهم منظمات المنظمة الفلسطينية الأم، دخول الخزان اللبناني والتحكم في مياهه. ولم تتعذر ذريعة الدخول على أقرب بلدان الجوار، وهو المكلّل بالمبادرة إلى حرب كبيرة مع العدو، وفي حوزته المباشرة منظمة فلسطينية تأتمر بأمره ويسعها، شأن غيرها من المنظمات، جرَّ الشراذم المسلحة إلى المبالغات كلها، وحملَ المتضررين العرب والدوليين على طلب دخول لبنان، والإلحاح فيه. وعلى مثال الاقتتال الفلسطيني، انتزعت تغذيةُ المنازعات اللبنانية، والنفخُ فيها بواسطة شراذم الحلفاء والموالي، من الدولة اللبنانية وهيئاتها الولايةَ على شعبها وأراضيها، وصدَّعت سيادَتها الشرعية عليهما. فلما تم تخزين المنظمات الفلسطينية، وأنجز تصديع الدولة اللبنانية، وفي الأثناء انكفأ القطب المصري ورتعت مجتمعات الدول المنتجة للنفط في الطفرة الناجمة عن أسعار 1973 ثم 1978، تصدت السياسة السورية، تؤيدها السياسة السوفياتية المظفرة يومذاك في أنغولا وأثيوبيا وزيمبابوي وأفغانستان...، للاضطلاع بدور إقليمي راجح وعريض. ووُسم هذا الدور، أو السعي فيه، بميسم "التوازن الاستراتيجي"، العسكري، على حين انصرفت سياسة هذا الدور إلى جمع فتات القوى السياسية المحلية في يدها، ورعاية تفتيتها واستحالة التحامها، وإلى درء المخاطر المترتبة عن ميزان عسكري شديد الاختلال. وبدا أن الدور الإقليمي الكبير والحائر عثر على بطله، بحسب استعارة ناصرية مشهورة نبه الناقد والكاتب المصري لويس عوض إلى زلة تذكر جمال عبدالناصر التي ولدت الاستعارة: فعنوان المسرحية الإيطالية موضوعٌ على شخوص أو أدوار مسرحية تبحث عن كاتب مؤلف. وكان شرطُ الدور المفترض هذا التصرفَ في القوة الفلسطينية الكثيرة الفروع والأغصان، والوصاية على لبنان الكثير الجماعات. والكثرة المزدوجة هذه كانت ذريعة معقولة إلى سياسة مزدوجة بدورها. فهي أي الكثرة ذريعة إلى الضبط، من وجه، ولكنها، من وجه آخر، عذر يُعتذر به عن طلب المزيد من الضبط. فلم يكن على القوة المولجة بضبط الشراذم الفلسطينية والاقتتال اللبناني، وهي القوّامة على شراذم وجماعات في الطرفين، إلا حمل من تقوم عليهم على اعتراض سياسة معتدلة وعرقلتها حتى يتجدد البحث في شروط "التلزيم" والانتداب، ويحصل الملتزم المنتدب على شروط أفضل وأكثر مؤاتاة لمصالحه ومطاليبه فينفرد بسوس الميدان وقواه بعد أن كان التكليف واقعاً على كثرة. وأثمر الازدواج هذا ثمرة ثانية ثمينة. فهو أخرج القوة العربية الإقليمية من دائرة الرد على الأعمال العسكرية التي تلحق الأذى ب"الأعداء"، وهم العدو وأصدقاؤه وحلفاؤه وأعداء الأصدقاء على اختلاف مراتبهم. وحُصر الرد الإسرائيلي المباشر في لبنان. فعاد هذا الحال على السياسة السورية بالغنم، وعاد على الفلسطينيين واللبنانيين بالغرم. فنُسبت الأعمال "المجيدة" إليها، وإلى رعايتها الضمنية وغير المباشرة. ووقع الانتقام العسكري على اللبنانيين والفلسطينيين، وعلى الأراضي اللبنانية والعرى السياسية اللبنانية الضعيفة. وسوغ هذه القسمة الظالمة السعي السوري في "التوازن الاستراتيجي"، وعسر هذا السعي الذي يؤخر بلوغَه غايته تلكؤ "الأنظمة" العربية وبخلها وتفرقها أقطاراً ومنازع، وخوفُ الاتحاد السوفياتي من التفريط بتعايشه السلمي مع الغرب الرأسمالي، وشراسة الصداقة بين الغرب وإسرائيل. وتواطأت القوى الإقليمية والدولية على هذه السياسة والتمكين لها. فهي أثمرت وقاية من تطاير شرر الأعمال الفلسطينية المتهورة في البلدان والملاجئ العربية، وضيقت على تطاول هذه الأعمال إلى بلدان ومرافق وجماعات غربية كثيرة، وحالت دون تكرار المصادمة العسكرية الرأسية بين القوة السورية والقوة الإسرائيلية. وهذا مكسب كبير. فتدني مستوى العنف، على ما تزعم اللغة الديبلوماسية الدولية، أي نقصانه عن المعركة الإقليمية، أو الحرب الإقليمية التقليدية، لا يحشر الدول كلها في سياسة واحدة، ولا يدعوها الى الاصطفاف صفاً واحداً وراء الدولة المحاربة، ويُحِلُّها من استجابة احتياجات هذه وخططها. فلا يسوغ، والحال هذه، لا قطع العلاقات الديبلوماسية مع أصدقاء العدو، ولا تخفيض إمدادات النفط، ولا الرقابة على الطرق البحرية الدولية. وتنطوي هذه كلها على مخاطر جموح إلى أقاصي العنف قد تعصى التحكيم والضبط في كل مرة. والحؤول دون المصادمة الرأسية مكسب كبير للدولة الضعيفة، أو لأضعف الدولتين المتحاربتين والمتعاديتين. فهو يرجئ الحرب المدمرة - وكانت خسائر حرب 1973 ثقلاً باهظاً على المرافق الحيوية السورية وعلى المالية السورية والسلاح السوري - ولكنه لا يمنع من التوسل بالإعداد لحيازة القوة الفصل إلى طلب دور سياسي يكافئ حيازة القوة الفصل، من غير تكلفتها السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. وهو مكسب كبير للدولة القوية، أو لأقوى الدولتين، لاسيما إذا كانت هذه تسعى، ولو على مضض، في الدخول في مجتمع إقليمي يرفضها رفضاً شديداً. فالانتصارات العسكرية المدوية لا تستميل المجتمعات المهزومة والمجروحة الكرامة، ولا تبعث عقلانيتَها الكامنة، ولا تدعوها إلى تقديم العقلانية الواقعية على غيرها من النوازع. والحؤول دون المناطحة العامة والمدمرة مكسب كبير، أخيراً، للقوى الدولية. فلا تُضطر هذه إلى الانحياز الحاد، ولا إلى خسارة حلفاء يحملهم على التحالف ألف عامل اضطراري ولا يحملهم عليه عامل واحد طوعي أو تلقائي. ولكن لجم الحرب الكبيرة لا يفضي إلى السلم، وقد لا يمهد له إلا التمهيد البطيء والمتعثر والبعيد. ولا يغني لجم الحرب عن تمهيد المسرح الاحتياطي والثانوي، إذا لم تؤدِّ الحرب إلى سلم. وعلى هذا النحو جرت الحملة الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية في ربيع 1982 وصيفه - وهي لم تكن "الحرب العربية الإسرائيلية الخامسة"، على خلاف زعم بعض المعلقين، والسبب في ذلك أن ميدانها كان الميدان الاحتياطي وحده. فلم تعمل السياسة، والقوات العسكرية الإسرائيلية على إجلاء القوات السورية، العزلاء من القوة الجوية والصاروخية منذ التاسع من حزيران يونيو، من شمال طريق بيروت إلى دمشق ولا من بعض جنوبه، و"اقتصرت" على إجلاء المسلحين الفلسطينيين. ومسوغ هذه السياسة ظاهر. فهو دعوة إلى تخفيض مستوى العنف، وإقرار بحق العدو في امتلاك قوة تكتيكية. وليس الإقرار هذا، ولا الدعوة، مكرمة يتكرم بهما العدو اللئيم على عدو يظن فيه لؤماً أشد وأقوى. بل هما من لوازم سياسة تنزل عن الأقل، أي عن شلل العدو مؤقتاً، في سبيل الأكثر، وهو تسليم الأعداء الكثر بدوام الدولة من غير حماية دولية ولا استعداءٍ على أصحاب الحماية ومصالحهم. فتجريد الدولة السورية من كل سلاح، ولو احتياطي، لكان مسوغاً معقولاً ومقبولاً لتعبئة عربية يحسن تحاشيها، ولكان ضربة قاسية تصيب شرعية الحكم السياسية وتتهدده بالسقوط. وكان الحكم السوري خارجاً لتوه في آذار/ مارس من أزمة سياسية وأهلية اختبرت متانته، بوجه الإسلاميين السياسيين، اختباراً قاسياً. ولم يكن في استيلاء الإسلاميين على سورية، ولم ينقضِ على الثورة الخمينية في إيران غير ثلاثة أعوام، مصلحة لقوة دولية أو إقليمية. ولعل الحماية من الحركات الإسلامية السياسية، في الشرق الأدنى خصوصاً، من ثوابت السياسات الدولية والإقليمية على اختلاف منازعها. ولكن ما عولت عليه السياسة الإسرائيلية جراء إجلاء القوات المسلحة الفلسطينية، ورد بعض القوام للدولة اللبنانية، وتجنب تجريد السياسة السورية في لبنان من كل سلاح، لم يثمر، ما خلا تبديد طيف الحرب العامة، الثمار التي رجتها السياسة الإسرائيلية. بل أتاح جلاء المنظمات الفلسطينية المسلحة غير السورية الولاء عن الأراضي اللبنانية انفراد السياسة السورية بتحريك الجماعات العروبية من غير شريك. فوسع السياسة السورية وراثة الوصاية الفلسطينية وملابستها الجماعات العروبية ملابسة حميمة، من وجه، ووسعها، من وجه آخر، اقتناص ولادة حركة خمينية صافية وتوظيفها في استعادة المسرح الاحتياطي اللبناني كله، من غير العراقيل "الوطنية" و"العرفاتية" الفوضوية، واستعمالها في إنشاء قوة عسكرية فاعلة. ومكّن انهيار الدولة اللبنانية، في العقد التاسع الثمانينات، وتواطؤ كل القوى على هذا الانهيار، مكن السياسةَ السورية من حضانة نشأة "حزب الله" من غير الخروج على ضوابط المناوشات الاحتياطية والفرعية، على رغم الشرود الذي طبع أعمال الحركةالخمينية في العقد التاسع - ولكن الشرود هذا تحملت الدولة الإيرانية معظم تبعاته. فلما وَلَدَت حرب الخليج الثانية والتصدع السوفياتي من بعدها، في أعقاب الحرب الأولى التي قيدت الثورة الخمينية بقيود ثقيلة، المفاوضات العربية والإسرائيلية، وأدت المفاوضات إلى نواة كيان فلسطيني ثم إلى سلم أردني إسرائيلي، ضَمُر الدور السوري واقتصر، عربياً، على المسرح اللبناني. وكان الانكفاء السوفياتي وأد "التوازن الإستراتيجي" علناً منذ أواخر العقد التاسع. ففقدَ التلويحُ بحرب عربية وإسرائيلية كبيرة جوازَه ومصدقه، وخسر التهديدُ بجبهة سياسية أو اقتصادية مساندة معقوليته. وفي الأثناء، تحول المسرح العسكري الاحتياطي إلى سند سياسي حيوي، وإلى مسوغ "قومي" متصدر. واغتذى الدور الحزب اللهي العسكري وتعاظمه من تآكل الأبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية. فأوقع الأمران، خسارةُ المسرح الاحتياطي مسوغَه وتعاظُمُ دور الجهاز العسكري والسياسي "اللبناني"، السياسةَ السورية في حيرة وتردد شديدين ومتعاظمين. وبدا كأن هذه السياسة، والمشهور عنها مراقبتها لأطوار موازين القوى وأحوالها المتقلبة، غفلت عن وضعها قوةً تكتيكية وثانوية موضعَ قوة الفصل الاستراتيجية. فهي تريد إحراز انتصار حاسم من طريق اشتباك فرعي على مسرح ثانوي واحتياطي، ومن طريق قوة مساندة لا تحل محل القوة الضاربة. والحق أن انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانيةالمحتلة، اليوم، وغداة اختبارين عسكريين شاءتهما مدمرين في 24 حزيران/ يونيو 1999، وفي 8 شباط / فبراير المنصرم، إنما يستخلص الخلاصات المترتبة على جملة الحوادث التي طرأت في أثناء العقد المنصرم على لبنان وسورية، وعلى العلاقات العربية والإسرائيلية. وهذا الاستخلاص هو "السر" في توقيت تنفيذ القرار 425، اليوم. فالمسرح الاحتياطي فقد دوره، والحاجة إليه مع أفول الحرب الفاصلة والكبيرة. وأصبحت هذه عسيرة المنال حين لم يبق من الاتحاد السوفياتي إلا روسيا يلتسن وبوتين، وحين المفاوضة مع السلطة الفلسطينية تتناول "الوضع النهائي" للدولة، وبينما تنتظر أكثر من دولة عربية نتائج المفاوضة هذه لتقر علاقات ديبلوماسية وتجارية وغيرها مع الدولة العبرية. وفي الأثناء نهضت من الركام والأنقاض دولة لبنانية قد يصح نعتها بكل النعوت، ويصح الانتقاص منها ما شاء المنتقصون. ويترتب على نهوض هذه الدولة، على علاتها الظاهرة، واجب القيام بتبعات الدولة، أو بعضها. وأولى التبعات الحؤول دون وقوع ضربات مدمرة على مرافقها، وعلى مواطنيها ورعاياها، جراء أعمال عسكرية يستحيل تسويغها بتحرير الأرض من المحتل، بينما المحتل جلا عن الأراضي الوطنية. وهذه الحال هي بعض من انقلاب السحر العروبي على "الساحر". فالمغامرة بالاستقرار اللبناني، ولو صنع على مقاس سوري، تعود على المغامر، وعلى مصالحه، بأفدح الضرر. والتذرع بالفوضى "الأهلية" اللبنانية، وبمسؤولية قوى أهلية متحاربة وغير مسؤولة، إلى تسويغ الأعمال العسكرية، هذا التذرع لم يبق ناجعاً وينطوي على قدر كبير من الرغبة في "مسّادا" عربية عامة. ولعل تعظيم دور "حزب الله" العسكري والعربي، ثم إخراج مسألة الحقوق الفلسطينية من الجعبة والتلويح بالفلسطينيين المسلحين على الحدود اللبنانية الجنوبية، قرينة دامغة على الحيرة التي يخلفها انتقال العلاقات الإقليمية إلى حال غير مسبوقة. وعلى الجهة الثانية من الحدود، الجغرافية والسياسية، ليس الترجح الإسرائيلي إلا نظير الحيرة السورية، على رغم الفرق الكبير بين الحسابين والعائدين. ولكن ضعف الحاجة الى مسرح احتياطي لا يعفي لا القوى الدولية ولا القوى العربية من بلورة إطار للعلاقات الإقليمية يحتسب زوال الحرب العامة أفقاً ماثلاً، على قدر ما يحتسب تأخر إتيان السلام ثمراته السياسية والاقتصادية المتوقعة. ففي الأثناء لم تضعف حاجة السياسة السورية إلى المطابقة بين دورها وبين البطولة الملحمية ومن نتائج هذه الحاجة تلقيب المفاوض السوري، السيد فاروق الشرع، بلقب "المفاوض - المحارب" والنصر العظيم. وقد لا تقتصر هذه الحاجة على السياسة السورية وحدها. وفي انتظار استعادة مبدأ الواقع غلبته على مبدأ الرغبة، ونزول الأمور مواضعها وعلى مراتبها، ينبغي ربما مخاطبة أصحاب الأدوار والأقنعة حيث يحسبون أنهم نازلون، على ما يدعو منهج علاجي معروف.