لا يأبه رجال السياسة و"نساؤها" وأهل حرفتها كثيراً لتعليل مبادراتهم ومواقفهم وخطبهم. فهم يفترضون أن دواعي الظرف تحملهم على ما يفعلون وما يقولون، وليسوا، هم وسياستهم، إلا الاستجابة المثلى لهذه الدواعي واستثمارها الأفضل في الظرف المتاح. ولا يخرج بطريرك الموارنة نصرالله صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن سنة ترك التعليل. وإذا تصدى الاثنان في يومين متواليين الى كشف حساب جزئي لدور القوات السورية في لبنان، غداة ربع قرن على دخولها الأراضي الاقليمية اللبنانية دخولاً ظاهراً، أغفل الاثنان تعليل تصديهما اليوم، أي وقت الكلام، واقتصرا على ما يشبه الإلماح الى وقوع تناولهما المسألة غداة جلاء القوات الاسرائىلية عن التسعمائة كلم المربعة التي كانت تحتلها منذ 1978. والحق أن اغفال تعليل الوقت تعليلاً شافياً، على رغم ملازمته العمل السياسي عموماً، يسوغ "تهمة" الانتهازية التي يسرع اليها خصوم السياسة المعلنة، وأهل السياسة المخالفة في كل مرة يعلن خصومهم، أو "أعداؤهم" على ما هي الحال في معظم الخلافات السياسية القومية والوطنية، رأياً أو موقفاً يخالف رأيهم أو موقفهم. فينسب رأي بطريرك الموارنة، وقبله رأي أساقفتهم ومطارنتهم، الى سفير أميركي أو الى إيعاز بابوي وفاتيكاني. ويحمل رأي وليد جنبلاط على منافع انتخابية درزية، وعلى عصبية مذهبية وشوفية حرتكها قوة "الدولة" الجديدة، أو تحمل على روابط عربية خليجية وفلسطينية تقلقها على الدوام انتصارات السياسة السورية وحظوتها الجماهيرية الثابتة. وذهبت أصوات برلمانية "مأذونة"، أي أَذِن لها أصحابها، الى أن السيد جنبلاط إنما يتوقع اجتياحاً اسرائيلياً وشيكاً ويريد بتناوله السيطرة السورية "تحييد" الجبل وإخراجه من البلاد المحتلة. ولكن تعليل الوقت، أو التوقيت على قول أنصار السياسة السورية العسكرية والمدنية في لبنان، وإن هو لا يسبق الموقف المعلن ولا يمشي بين يديه مؤذناً به، مضمَر على هذا النحو أو ذاك في ثنايا المقالتين، البطريركية والجنبلاطية. فصفير وجنبلاط يجريان "جردة"، أو كشف حساب عما أفضى اليه دخول القوات العسكرية السورية غداة ربع قرن على هذا الدخول. وعلى حين يستظهر رأس الكنيسة المارونية بأصول حقوقية وقانونية عامة توجب سيادة الدولة الوطنية على أراضيها وشعبها، وتنيط التدبير السياسي بإرادة المواطنين الحرة "فإما أن يكون بلد يحكم نفسه بنفسه أو لا يكون"، "يجب أن يتحمل لبنان مسؤوليته بنفسه وهذا حقنا"، على قوله في محاورته "أوربت" في 2 من الشهر الجاري، يتعقب رأس الجماعة الدرزية بعض نتائج السيطرة السورية العسكرية ومفاعيلها البارزة في المرافق الأمنية والادارية والقضائية والسياسية والاقتصادية. ولا يسكت البطريرك عن الحوادث المتعاقبة التي تسوغ مطالبته بجلاء القوات المسلحة السورية عن الأراضي اللبنانية. فهو يقول، على رسم سببي وعِلِّي: "خرجت اسرائيل، وحصلت انتخابات، وتألفت حكومة جديدة، وكان نظام جديد في سورية". وجاءت هذه الحوادث الواحدة بعقب الأخرى بينما استقرت حال لبنانية متداعية: "فهناك الهجرة، وهناك الفقر، ولبنان السائر الى التفكك والزوال" - هاجر نحو مليون لبناني في غضون عقد الطائف واتفاقه وميثاقه، و"نصف اللبنانيين يعيشون تحت عتبة الفقر"، والإحباط يبعث الناس على ترك وطن لا يملكون من قراره شيئاً. وهذه كلها عوامل متماسكة تؤدي كتلتها الى الإلحاح في الجلاء السوري، اليوم وقبل الغد. وأما السيد واليد جنبلاط فينهج نهجاً مختلفاً، وينتهي الى رأي آخر. فيقتفي رجل السياسة من غير أن يصرح أثر السيطرة السورية على لبنان في وجوه السياسة اللبنانية على ما هي عليه اليوم: عبث غرفة الأوضاع وهي هيئة عسكريين في رئاسة الجمهورية بالقضاء والإدارة، إطلاق يد القضاة وغير القضاة في التوقيف الاحتياطي، وصاية الأجهزة وتلازم المسارات على التعليم العالي اللبناني وحرفه عن الأكاديمية الى التزمت والمذهبية، تعاظم النفقات العسكرية والأمنية والسطو على الأملاك الخاصة، عبث "الأجهزة الأشباح" فساداً في الانتخابات النيابية وبعدها، انتشار التهريب الزراعي ومعه الفقر والجوع في البقاع المتاخم للحدود السورية واللبنانية، تحول وزارة الداخلية الى وقف عائلي ومعه الهيمنة والمصادرة والاستملاك، السكوت عن اتفاق الطائف "لجهة ضرورة تطبيقه أو تعديله أو شرحه في الشق العسكري"، الخلل في المعاهدات السورية - اللبنانية وفي المعاملة السياسية والاقتصادية والزراعية بين البلدين، التدخلات السورية "الجانبية أو الثانوية أو الفرعية" في ما لا علاقة له بمقتضيات الأمن القومي، زيادة الملاحقات الأمنية "خارج الأطر الدستورية" وداخلها، سيادة "كلام الخوف والحذر، كلام الغموض والترقب... كلام الأنظمة العربية..." كلام البيان الوزاري الذي ناقشه نائب الشوف في 3 من الشهر. وخلافاً للبطريرك الماروني، وخلوصه الى طلب انسحاب القوات السورية علاجاً لأعراض المرض المميت، يقصر الزعيم الدرزي علاجه على إلغاء غرفة الأوضاع، وتأديب الضباط والقضاة الفاسدين والمفسدين، وجعل الجامعة اللبنانية في "أيد مضمونة أكاديمية"، وإلغاء الخدمة العسكرية، وتسريح عسكريين، وشراء المحاصيل الزراعية، وحصر العلاقة الأمنية اللبنانية - السورية "بجهاز لبناني موثوق به برئاسة جهة سياسية..."، وتحقيق "التكافؤ والتوازن" في المعاهدات اللبنانية - السورية، وإعادة القيادة السورية النظر "في بعض نقاط تمركز الوحدات العسكرية التي لا علاقة لها... بالضرورات الاستراتيجية الدفاع عن الخاصرة السورية في لبنان"، واحترام قواعد اللجوء السياسي في لبنان، واحترام الحريات... وليس القول "يقصر" انتقاصاً من برنامج رئيس الكتلة البرلمانية "الديموقراطية"، أو تقليلاً من شأن مطاليبه ومقترحاته ومما يترتب عليها من نتائج ولو على سبيل التصور والتوقع. وليس القول هذا مفاضلة في الراديكالية بين الصوت الماروني وبين الصوت الدرزي، والمقايسة بين الصوتين ممتنعة. فالمقصود ب"القصر" إنما يتناول مبلغ "اليأس" الذي بلغه الرجلان، أو بلغه الدوران اللذان يؤديهما الصوتان أو بلغته الجماعتان اللتان يتصدرهما الرجلان على نحوين مختلفين. فبطريرك الموارنة قوّام على تاريخ، ماروني لبناني مشرقي في آن، يخالجه الشك في قوته على الدوام والمقاومة بينما تتحول معالمه الى أنقاض، ويهجر الموارنة وطناً كانوا نواته الأولى، وكانت لهم اليد الطولى في إنشائه على الشاكلة التي نشأ عليها. ولا يبدو "زوال" لبنان أو "بقاؤه"، على الصورة التاريخية التي يتعرفها شطر من مواطنيه وأهله قيمة وإنجازاً، من مشاغل الزعيم الدرزي الشاغلة أو المقلقة. فهو لا يبدو مشككاً في مسوغات السيطرة السورية، العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإدارية، على لبنان. فيذهب، شأن أنصار هذه السيطرة وصنائعها، الى تقرير أهداف استراتيجية سورية في لبنان "دفاعاً عن الخاصرة السورية"" وهو يعلم، شأن عامة الناس، أن الدفاع السوري، منذ "أزمة الصواريخ" البقاعية، ثم منذ العاشر من حزيران يونيو 1982 والموقعة الجوية التاعسة والخاطفة كفَّ عن حماية أي موضع من مواضع الجسم السوري، القوي في كل أجزائه الداخلية بين القنيطرة ودمشق، ومن محطة كهرباء حلب الى مرافق سد الطبقة على الفرات، وهذه أهداف ضربت ضرباً قاسياً من... الجولان وأجوائه، والضعيف في لبنان وحده. ولا يرى حيفاً، ولا انتهاكاً حقوقياً أو قانونياً في ذريعة الخاصرة هذه. والأغمض من هذا هو أن سليل البيت الجنبلاطي لا يرى رابطاً سببياً بين دخول الجيش والسياسة السوريين لبنان، على النحو الذي دخلاه متذرعين بحماية خارجية أخفقا في الاضطلاع بها في الداخل، وبين الطريقة التي تنتهجها السياسة السورية في جوارها القريب وحزامها المفترض. فكأن السياسة السورية في لبنان، ويسوقها سائق أول هو الحؤول دون تبلور مطالبة وطنية وجامعة بالسيادة والاستقلال، فكأن هذه السياسة، وما تتوسل به من ادارة العلاقات الأهلية على الولاء والعداء، لا تترتب على منطق السيطرة والاستتباع الحزبيين و"القوميين"، وكأنها لا تصدر عما استقر طوال نحو ثلاثة عقود ونصف العقد "نظاماً" متماسكاً ينهض على أركان بعينها. فالزعيم الدرزي يسترسل بعض الشيء مع ما يسميه نقاد أدبيون "الوهم المعياري". وهم يعنون بالوهم المعياري حسبان القارئ أن العمل الأدبي جاء على الشاكلة التي جاء عليها مصادفة، وكان في وسع الكاتب أن يغير بعض أجزاء العمل، فيقترب العمل من مثال أو من معيار يشترك القارئ والكاتب في تصوره والإقرار بتمامه وجماله. وعلى هذا فتوسع السيطرة العسكرية والأمنية السورية في لبنان تحت جناح المنظمات الفلسطينية المسلحة منذ 1966 حادثة جلال كعوش على أقرب تقدير وأظهره، ومع قرار 1971 بمنع النشاط الفلسطيني في سورية وتوجيهه الى البلد الشقيق لم ينحرف عن جادته القومية، المنزهة عن أي غرض "سياسي" وأمني وزراعي ومائي وطائفي و"عاملي" من يد عاملة ونقدي من نقد أجنبي، إلا اتفاقاً ومصادفة. ولكن استرجاع بعض المواد التي يندد بها السيد جنبلاط، والمقارنة بينها وبين مثالها المعياري المفترض، لا يؤيدان ما يذهب اليه الزعيم الجبلي والساحلي من فصل "الأهداف الاستراتيجية" الشريفة والعالية عن نثر "التدخلات الجانبية والثانوية والفرعية". فإذا لم يحكم السيد إميل لحود، رئيس الجمهورية، من طريق "غرفة الأوضاع"، وهو الآتي من حيث أتى وعلى النحو الذي أتى عليه والخالف من خَلَف وما خلف، فكيف يسعه أن يحكم؟ أمن طريق "كتلة تاريخية"، بحسب استعارة انشائية يرددها أحد أصدقاء الزعيم الشوفي، تجمع قوى المجتمع المنتجة و"المفكرة" وتنطوي على نواة دولة الغد؟ أم بواسطة حركات أهلية رجعت من نوازعها الانكفائية والانفصالية المدمرة الى رشد تعاقدي وائتلافي تأسيسي؟ وعلى منوال هذه الأسئلة يصح تناول المواد التي جرد خطيب المجلس النيابي بعضها. ومهما كان الأمر من تفصيل هذه الأسئلة فهي كلها ترد الى نواة أولى: على أي نحو يحكم الساسة السوريون "دولتهم"، أو تحكم "القيادة" السورية "دولتها"؟ وبموجب أي منطق أو علة يتوقع منها أن تحكم بعض ملحقاتها الجديدة، وهي تحسبها قديمة، على مثال يختلف عن مثال حكمها وسيطرتها الداخليين؟ ولماذا تقر القيادة العتيدة للتعليم العالي اللبناني بمعيار مستقل عن "المذهبية" والحزبية و"الخدمات الجلى" وهي انتهت بتعليمها العالي الوطني الى حيث انتهت به؟ فينبغي القول في السياسة السورية في لبنان ما كان يقوله جان جوريس، أحد رواد الحركة الاشتراكية الديموقراطية في فرنسا، في الثورة الفرنسية: إنها "كتلة مرصوصة" لا يصح لا تجزئتها، ولا نقض بعضها ببعضها الآخر أو قبول بعضها ورمي بعضها. فما تقوله هذه السياسة، على لسان أصحابها ووكلائها، في نفسها هو ما ينبغي تصديقه. وما تقوله في نفسها هو أنها "دولة" بينما لبنان طوائف. وهي تقول في نفسها أنها سياسة قومية، حرب العدو مهمتها الأولى، بينما السياسة اللبنانية منازعات طوائفية وأهواء ومنافع، ولا مهمة لها تالياً. ولعل تصديق هذا القول هو ما حمل بعض المثقفين المسيحيين، العلمانيين والتقدميين و"الكوسموبوليتيين" والعروبيين، على طلب مناصب الاستشارة والوزارة، ثم على احتمال الاخفاق المهين من غير تذمر، مسترشدين بحكمة وزير فرنسي مأثورة: "على الوزير أن يغلقه فمه أو أن يستقيل". وهم يجمعون المجد من طرفيه: الغلق والقعود عن الاستقالة. وييمم شطر من الزعيم الدرزي العروبي الى هذه الجهة. وما يقوله في السياسة الفلسطينية و"الغرب"، وفي "فتح الحدود" و"الجهاد" و"المجاهدين" و"الشعوب"، يذهب مذهب خطابة ثورية، سوفياتية وعالمثالثية مسترسلة. وعلى رسم هذه الخطابة يَغفل زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي عن استحالة الجمع بين جهاده وشعوبه وسلاحه وبين التقيد بقيود استقلال القضاء، ومراقبة "الأجهزة الأشباح"، وقصر الأمن على هيئة سياسية "موثوقة"، وتقليص "الألوية الجرارة"، واحترام حق اللجوء السياسي... فإما "الجهاد"، على الطريقة السورية والحزب اللهية والخمينية الإيرانية، وما يترتب عليه من إلزام المجتمع والناس و"الشعب" بقيادة تتولاه، أي تتولى الجهاد هذا، وتصنع "دولة" أهلية على شاكلته، وإما القبول بقيود السياسة اللبنانية، على صورتها التاريخية، أي بتخليص المشترك، والمُجمع عليه إجماعاً متحفظاً، من المتفرق والمتنازع والجزئي بواسطة انتخابات طائفية، وهيئات أهلية قوية، ومنظمات اجتماعية وسياسية ومهنية مشتركة و"عقلانية" الغايات. ويحسب الزعيم الدرزي العروبي أنه في حل من الاختيار، على حين يحسب بطريرك الموارنة أن الاختيار حسم مرة واحدة والى الأبد، ولا تبعة على اللبنانيين في إحيائه وتجديده. والحق اننا لسنا في حل من الاختيار، وتبعتنا عن إحيائه وتجديده عظيمة.