الشاي والقهوة يقللان الإصابة بالسرطان    المملكة توزع 2.100 حقيبة إيوائية في شمال قطاع غزة    لاعبو عمان: جمهورنا كان اللاعب رقم 11 بعد النقص العددي أمام السعودية    تعزيز التوسع العالمي لعلامة جايكو و أومودا مع إطلاق مركز توزيع قطع الغيار في الشرق الأوسط    غزة بين نيران الحرب وانهيار المستشفيات    انخفاض عدد سكان غزة بنحو 160 ألف نسمة في نهاية 2024    ضبط إثيوبيين في جازان لتهريبهما (87663) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «تعليم مكة» يُكرم 1000 طالب وطالبة لتفوقهم خلال العام الدراسي 1445 ه    أكثر من نصف مليون مستفيد من برامج "جمعية أجياد للدعوة" بمكة خلال عام 2024م    غارات أمريكية وبريطانية تستهدف صنعاء    ولي العهد يعزي رئيس وزراء بريطانيا في وفاة شقيقه    سعود بن نهار يلتقي العتيبي    أمطار وصقيع على الشمالية    أمير المدينة المنورة يرأس اجتماعاً لمناقشة استعدادات الجهات المعنية لاستقبال شهر رمضان    "الجاسر" يقف ميدانيًا على مشروع مطار جازان الجديد    أنجلينا جولي وبراد بيت يتوصلان إلى تسوية بشأن الطلاق بعد نزاع 8 سنوات    ضبط 7 سوريين في الرياض لارتكابهم حوادث احتجاز واعتداء واحتيال مالي    كونسيساو مدرب ميلان يتحدى ابنه في ظهوره الأول مع الفريق    مدير عام «مسام»: نجحنا في انتزاع 48,705 ألغام في عام 2024    أمير حائل يستقبل مدير الدفاع المدني    نائب أمير تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    سوق الأسهم السعودية ينهي آخر تعاملات عام 2024 باللون الأخضر    أصول الصناديق الاستثمارية العامة تتجاوز ال 160 مليار ريال بنهاية الربع الثالث 2024م .. 84% منها "محلية"    تطبيق "سهم" يتجاوز حاجز المليون مستخدم في عام واحد فقط    مجلس الوزراء يشيد بنجاحات القطاع غير الربحي    انتهاء مدة تسجيل العقارات لأحياء 3 مدن.. الخميس القادم    التعاونية وأمانة منطقة الرياض تطلقان "حديقة التعاونية"    «الإحصاء»: معدل مشاركة السعوديات في القوى العاملة يصل إلى 36.2%    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يبحث مع الرئيس الإماراتي التطورات الإقليمية والدولية    هل يكون 2025 عام التغيير في لبنان؟    الصحة: إيقاف طبيب أسنان مقيم لارتكابه عددًا من الأخطاء الطبية في الرياض وتبوك    صناعة المحتوى الإعلامي في ورشة بنادي الصحافة الرقمية بجدة    النصر بطلًا لكأس الاتحاد السعودي لقدم الصالات    ميزة لاكتشاف المحتوى المضلل ب «واتساب»    المملكة تواسي حكومة وشعب كوريا.. القيادة تعزي الرئيس الهندي    ابق مشغولاً    مداد من ذهب    هزل في الجِد    هل قمنا بدعمهم حقاً ؟    رحلات مباركة    في نصف نهائي خليجي 26.. الأخضر يواجه عمان.. والكويت تلاقي البحرين    التأكد من انتفاء الحمل    زهرة «سباديكس» برائحة السمك المتعفن    مركز مشاريع البنية التحتية بمنطقة الرياض يعلن تفعيل أعماله في 19 محافظة و47 بلدية    نائب أمير مكة يطلع على أبرز المشاريع المنجزة بمحافظات المنطقة    لغير أغراض التحميل والتنزيل.. منع مركبات توصيل الأسطوانات من التوقف في المناطق السكنية    «الصفراء» حرمتهم.. والمدرج مكانهم    مُحافظ جدة يُكرّم عدداً من ضباط وأفراد مكافحة المخدرات    القهوة والشوكولاتة.. كماليات الشتاء والمزاج    5 فوائد للشاي الأخضر مع الليمون    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    كلام البليهي !    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    13 ألف خريج وخريجة من برامج التخصصات الصحية    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على سبيل المشاركة الحيية والمتواضعة في "المجالس" الخمسينية الفلسطينية . حمل فلسطين على الكناية المعظّمة والواسطة اللازمة ... ما زال يحكم الافتتان في السياسة والثقافة العربيتين
نشر في الحياة يوم 16 - 05 - 1998

طوال نصف القرن العربي المنصرم توسطت مسألة فلسطين، وفروعها التي تفرعت عنها وعليها، كثيراً من المسائل العربية، الوطنية والإقليمية، الأخرى. فكانت "القضية" الفلسطينية - أي مصير الفلسطينيين الذين أُجلوا بالقوة والترهيب عن البلاد الواقعة بين البحر وبين سلسلة الهضاب النازلة من جنوب حرمون إلى النقب" والتبعات المترتبة عن إجلائهم وهجرتهم وإقامتهم في بلدان الجوار القريبة فالأبعد" ومعالجة بلدان الجوار ودوله هذه التبعات وتحميل الجماعات الحاكمة والمحكومة التبعات هذه بعضها لبعض" وأثر هذا كله في العلاقات العربية الإقليمية، وفي علاقات المجتمعات العربية ودولها بالمجتمع الدولي وأقطابه وقواه - كانت هذه "القضية" واسطة لازمة إلى تناول الدول والمجتمعات العربية القريبة، والبعيدة في بعض الأحيان، مسائلها الداخلية، مثل أنظمتها السياسية والإجتماعية وعلاقات جماعاتها وموازين هذه العلاقات، أو مسائلها الخارجية، مثل أحلافها الإقليمية والدولية.
فتصدرت "القضية"، وهي على هذا النحو من التشابك، القضايا الثلاث الأولى التي تعرضت لها المجتمعات العربية غداة الحرب الثانية، وما زالت تتعرض لها: روابطها بالدول النافذة في المجتمع الدولي، وبعض هذه الدول كان، إلى الأمس القريب، صاحب سلطة الوصاية والانتداب على المجتمعات العربية" وصلات هذه المجتمعات بعضها ببعض، حلفاً "جامعاً" ومنه جامعة الدول العربية قد ينزع إلى "وحدة" تلوح في الأفق، وترتيباً للدول على مراتب من القوة والمكانة والنفوذ، وتحصيناً للإستقلال الداخلي من رعاية ملحة وثقيلة يسبغها جار "قوي" على جار "ضعيف"" وأخيراً قضية "الإصلاح" السياسي والاجتماعي الداخلي والقادر على الإضطلاع بأعباء "المعركة" الآتية لا محالة.
والحق أن هذه القضايا الثلاث الكبيرة، المالئة المقالات العربية السياسية والثقافية بكلماتها وجلبتها، شغلت السياسات العربية، وسياسييها ومتكلميها، قبل أن تستقر مع الناصرية المصرية، ثم مع الناصريات المشرقية البعثية، على مصطلح ولغة ومعانٍ سائرة ومتبلورة وقد تصح زيادة صفة: متخيلة، ليس من قبيل الإنتساب إلى تيار ثقافي محدث بل من قبيل محاولة استيفاء نعت هذه المعاني الناظمة في كلٍّ متصلٍ غاياتِ السياسة، وطرائقَ التعبئة والجمع والتفريق، والأبنية المعبرة عن الغايات. فالجامعة العربية سبقت عام 1948 بثلاث سنوات، لكنها جاءت ثلاثة عقود، أو أقل بقليل، بعقب الحركة الحجازية، وثلاثة عقود ونصف العقد غداة تداول بعض الرئاسات العربية في 1912 ثم في 1913 الرأي في أفضل علاقات تقيمها فيما بينها.
وتعود نشأة بعض الجمعيات الإصلاحية العربية إلى أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وكانت اللامركزية، والحكم المحلي، والتمثيل الوطني والبلدي، وإشراك النخب الوطنية والجديدة في التدبير، والحكم من طريق دستور معلن ومعروف، والائتلاف بين الولايات والأقوام عوض الاتحاد المركزي، من مطاليبها الأولى والبارزة. وتستبق هذه المطاليب البرامج التي خلفتها وسعى أصحابها في إنجاز الإستقلال الوطني، وفي إرساء الحكم على مشاركة أهلية أوسع من الرئاسات العشائرية الموروثة، كما سعوا في إرساء السياسة كلها على الإرادات العامية وعلى احتكامها إلى مرجع حائز الإجماع. وأُوكل إلى هذه كلها رعاية الدخول في الحداثة والعصر، الأوروبيين، وقيادة خطو المجتمعات العربية، من هذا الطريق، إلى القوة والمساواة.
فلما ورثت الناصرية المصرية بعض هذا الإرث، غداة الخسارة الفلسطينية، لم تلبث أن صاغته، واستأنفت التكلم به في لغة حركات التحرر الوطني من الامبراطوريات الأوروبية المتبقية. وكانت لغة هذه الحركات، بدورها، مصطبغة بصبغة ماركسية ولينينية توسل بها القادة البلاشفة الأولى إلى تعبئة "شعوب الشرق" و"ريف العالم" على "المراكز الامبريالية" التي استثنوا روسيا وعمومها منها. فاستقرت القضايا الثلاث الأولى على "التحرر من الاستعمار وقوى الهيمنة الدولية"، و"الوحدة" القومية وراء الوحدة الوطنية، وعلى استتمام تجديد النخب الحاكمة وإحلال النخب العامية محل النخب القديمة في السياسة والإدارة والملكية الإقتصادية باسم "ديموقراطية" لم تبعد كثيراً من أن تكون "شعبية" على النمط السوفياتي العتيد.
وكان الإرث الفلسطيني جزءاً ثميناً من هذه القضايا وواسطة عقدها في أوقات التأزم، وهذه الأوقات هي السائر والعادي والشائع. فاختلطت روافد القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية والثقافية كلها في مياه "القضية" الفلسطينية. ورُفعت هذه بدورها علماً على كل القضايا والمسائل الأخرى، فكانت عنوانها الجامع والمدخل اللازم إليها. فهي، بديهة، قضية تحرر وطني من ضربين متشابكين ومتصلين من التسلط الأجنبي" وهي امتحان مرير وقاسٍ لرابطة قومية وإقليمية ودينية أخفقت إخفاقاً ذريعاً في رعاية بلد وأهل ينزلان من هذه الرابطة منزلة القلب أو أحد منازله" وهي أخيراً بيان صريح عن نكوص قيادة سياسية واجتماعية تتربع في سدة المجتمع والشعب عن الاضطلاع بتبعات الحرب الوطنية والانتصار فيها.
ولم تقتصر هذه الحال المزدوجة، حال اختلاط الروافد وحال الإرتفاع علماً، على الدلالات والاستعارات المعنوية والرمزية، ولا على مضمارها الواسع والفضفاض. ففلسطين الإنتداب، عشية انتصار الحركة اليهودية وإنشائها دولتها المستقلة، كانت ساحة سياسية وعسكرية عربية، على المعنى الذي ملأت به المنظمات الفلسطينية المسلحة لبنان طوال عقد ونصف العقد غداة عام 1967 وهزيمته الفادحة. وعلى حين كان الاستيطان اليهودي المنظم والمتماسك ينشئ، لبنة لبنة، نواة دولته ومبانيها السياسية والإدارية والعسكرية، مستفيداً من الإغضاء البريطاني تارة وفي الخفاء عن السلطة المنتدبة وضدها تارة، تعاور الردودَ الفلسطينية على الاستيطان والهجرة تعريبٌ متمادٍ، لا راد له ولا رادع لا من الفسطينيين أنفسهم، ولا من "الأشقاء" العرب.
فتحولت البلاد الفلسطينية، وهي أشبه بمرقَّعة الفقير وخرقته منها بالثوب المتصل والمناسب جسماً بعينه، تحولت إلى مختبر تصول فيه الجماعات والحركات والعصبيات العربية، المختلفة والمتنافرة، على هواها. فكان لكل جماعة، بل لكل مقدم عصبية أو ضابط رفيع الرتبة مسرَّح أو في الخدمة أو شيخ معمَّم، سياسة يتوجها، على زعم الجماعة أو المقدَّم أو الضابط أو الشيخ، تحرير فلسطين وتطهيرها من الأرجاس العائثة فيها فساداً.
فاختبرت جمعية الإخوان المسلمين المصرية قدراتها الدعاوية والتنظيمية، ثم العسكرية، في البلاد الفلسطينية والأهالي الفلسطينيين. وكانت مسألتا الاستيطان اليهودي، والهجرة اليهودية المتعاظمة في أواخر النصف الأول من العقد الرابع، مضمار بلاء السياسيين السوريين البارزين من ابراهيم هنانو إلى شكري القوتلي ومردم بك وبعض السياسيين اللبنانيين وأولهم رياض الصلح. وباشر الضباط، من أمثال أديب الشيشكلي وفوزي القاوقجي، السياسة القومية من هذا الباب. وكان من العسير على بنية سياسية واجتماعية رخوة مثل البنية الفلسطينية، وهي قد لا يصح فيها المفيد، أن تمتنع من مطامح أمارة شرق الأردن ورغبات أميرها الملحة والمستصغرة الضفة الشرقية قياساً على العراق الذي أعطي كله لفيصل وورثته.
ووقع هؤلاء كلهم، على اختلاف آرائهم ومشاربهم وأهوائهم، على مجيب فلسطيني ونظير. فالبلاد الفلسطينية، والأهالي الفلسطينيين من بعد، تنقاد إلى حملها على محامل متباينة ومختلفة من غير امتناع. فهي الضفة الغربية لنهر الأردن، وتُعقل وحدةٌ تجمعها إلى الضفة الشرقية إذا حكم هذه أمير قوي دانت له العشائر السارحة بين شمال الحجاز وحوران، وبعض أفخاذها استقرت في مدن الضفة الغربية منذ قرون. وهي، أو بعضها مثل سهل الحولة وضفاف طبريا وهضاب الجليل، سورية الجنوبية، على رواية أخرى. فإذا استولى على حكم السوريين، وعلى حكم سورية، زعيم عربيُّ المدى الحيوي كان ضم فلسطين كلها إلى جغرافيته السياسية، وإلى استراتيجيته، ولو "الهيكلية"، وضم الفلسطينيين، من بدائه هذه الاستراتيجية وسراباتها المنهكة.
بل إن لبنان نفسه لم يعدم منفذاً، مسيحياً، في الشمال الفلسطيني. فجمعت كتلة بدوية وفلاحية، مسيحية وشيعية، أطراف السكان في أمارة مستقلة في الربع الثالث من القرن الثامن عشر. وكانت سيناء على الدوام وصلة بين مصر وبين بلاد فلسطين. فهي فلسطينية مرة، ومصرية مرة أخرى.
أما الوجه البحري، المتوسطي، من هذه البلاد فيصل الثغر المصري بالموانئ التركية، والساحل التركي، على قدر ما يصل البلاد الداخلية، الفلسطينية والأردنية والحجازية والعراقية، بالتجارة المتوسطية، القريبة والبعيدة. وإذا كان أهلها مزيجاً مدينياً، مشرقياً وعثمانياً، من أصحاب التجارات والأعيان وأهل الحرف وأهل الطرق والمتعلمين، فالمكانة، ولو من غير ثراء وتدبير وتجريب، إنما تعود إلى أعيان مدن الداخل، المتحدرين، من البداوة العريقة بنابلس ورام الله والقدس.
وزاد الخرق اتساعاً، حتى امتنع على الراقع على ما تقول العربية، تنوع الفلاحين والمزارعين أنواعاً وفئات من غير جامع مشترك. فالسهل الشرقي الشمالي الخصب، شأن الأغوار كلها، يزرعه أهل فلاحة وزرع هم من سواقط القبائل والعشائر في حلها وترحالها بين شمال شبه جزيرة العرب وبين الجزيرة العراقية والجزيرة السورية. ولم يكن هؤلاء "الشاوية"، أي البدو المتوطنون والمتحولون إلى الزراعة، يرتضون حالهم هذه إلا على مضض. فهم فلاحون على رغمهم. والأرض ليست أرضهم، بل يقتسمها مشايخ العشائر وأعيان المدن البعيدة، الفلسطينية واللبنانية والسورية.
فكانوا، هم وملاكو الأرض، فريسة سهلة للمستوطنين اليهود، ولوكالتهم الساعية في امتلاك الأرض والسكن بجوارها. وكانت هذه الناحية من البلاد الفلسطينية، حول صفد التي يحفها سهلا الحولة وطبريا، معقل الاستيطان النشط ومختبره الاجتماعي في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين. ولم يكن يجمع هؤلاء الفلاحين والمزارعين "الفلسطينيين" والعرب بنظيرهم في الشمال والغرب، حيث عمل الأرض أقدم وأثبت ويزاول بعضه مسيحيون لهم باعٌ طويل في هذه الحرفة، رابط أو آصرة. أما الجنوب والجنوب الشرقي، الصحراويان على هذا القدر أو ذاك، فكانا ذريعة إلى صورة إعمار الأرض الموات والمتروكة التي تذرع بها المستوطنون الأوائل إلى تسويغ نزولهم، هم "الشعب من غير أرض"، "أرضاً من غير شعب".
ومهما كان من أمر الشرعية "التاريخية" التي يتنازعها الفلسطينيون، ومعهم العرب والأصح القول العروبة أو العصبية العروبية، والإسرائيليون، ويناظرون فيها، فالأحوال التي أفضت إلى الخسارة الفلسطينية، وإلى جلاء معظم الفلسطينيين عن البلاد الساحلية، وليس عن الضفة الغربية، إنما هي هذه الأحوال السياسية والأهلية والإجتماعية التي وصفت للتو على وجه الاختصار ولم تكن الممالأة البريطانية، على خلاف ما ذهب إليه مكسيم رودنسون في مقالته الشهيرة في "الواقعة الاستعمارية"، إلا وجهاً واحداً. وقد يصح إيجاز هذا الوصف بالقول إن الهجرة والإستيطان اليهوديين وقعا على أهالٍ وبلاد حالَ شتاتُهم الإجتماعي، وحالت سياستهم القائمة على رئاسات تتصدر الجماعات وعصبياتها وتستبطنها وتتكاثر بكثرة الجماعات وتتقاتل باقتتالها، حالا الشتات والسياسة دون اندراجهم في كيان وطني مجتمع ومتماسك.
فلم تعصم الهوية القومية، المركوزة في القوم والعصب، ولا عصمت الهوية الدينية الغالبة بأرض تنتسب إلى القدس أو القداسة، أهل الهوية المزدوجة هذه من التضعضع والتوزع، ولا من أيلولتهما إلى تبدد والتجاء أليميْن ومهينين. وعوض توسل الفلسطينيين بهذا الإختبار الحاسم إلى انكفاء يمهد لبلورة هوية وطنية، من غير التقليل من عسر مثل هذا الانكفاء في المهاجر والملاجئ التي اضطر الفلسطينيون إلى الهجرة والالتجاء إليها، أعملت فيهم الحركات القومية المزعومة تبديداً وتفريقاً. وماشت معظم نخبهم هذه الحركات وأخذت بمزاعمها.
فحسبت المنظمات الفلسطينية المسلحة، منذ 1965 - 1967، أن طلَبَها قيادة "حرب شعبية" عربية واحدة، "على امتداد الوطن العربي"، ينصبها طليعة سياسية، ويحررها من الوصايات العربية المتباينة، ويسلطها هي، ومعظمها وكالات عن جماعات حاكمة، رقيباً على الأنظمة و"الدول" وحسيباً. فكان عليها، والحال هذه، أن تبالغ في الاضطلاع بالدور الذي اضطلعت به "القضية" الفلسطينية قبل الخسارة وبعدها، وهو دور الكناية العظيمة عن المشكلات والمسائل العربية، الداخلية والخارجية، كلها، ودور الوسيط إلى تناول هذه المشكلات ومعالجتها العلاج الشافي.
فقامت على جذع الكناية والوساطة هاتين سياسات خطابية سائقها المبالغة في افتعال الكناية وفي اصطناع التوسيط. وتسابقت المنظمات السياسية والمسلحة على تعظيم التمثيل الفلسطيني، وهي أداته، على أمراض المجتمعات العربية وعلى أدويتها الناجعة. ولم يقتصر التمثيل على الشبه والمقايسة بل تعداهما إلى زعم الوحدة الثابتة والتامة. فكان على المجتمعات العربية، وكان على دولها وأهلها، القناعة بدور "هانوي" عربية، و"أكثر من فيتنام"، تحت لواء طليعة فلسطينية تتخذ من بيروت، أو عمان، أو القاهرة، أو الجزائر، أو دمشق، أو بغداد، قواعد ومخابئ ومطارات وجبهات وطرق تموين ومعاقل، إلخ.
وكان على المجتمعات ودولها وأهلها أن يعادوا "الإمبرياليات" الحواضر الرأسمالية الغربية الضالعة في ميل ميزان القوى العالمي على النحو الذي يميل عليه، وأن يصادقوا "المعسكر الاشتراكي" والسوفياتي، عدو "الأمبرياليات" العدوة. وجرى صوغ المشكلات والمنازعات الداخلية، بين طبقات حاكمة "كومبرادورية" وبين طبقات محكومة ومستلبة وطنية وأصيلة، على مثال يتفق مع الرسم الفلسطيني العتيد واحتياجاته الظرفية، وبمعزل عن اختبار المجتمعات الوطنية، وجماعاتها وأهاليها، وعن المشكلات والاحتياجات والحوادث التي اختبرتها في تواريخها المعاصرة والمستقلة.
بل نُسبت الاختبارات والتواريخ هذه إلى الإفتعال وإلى خداع التجزئة والقطرية الإستعماريتين والإمبرياليتين. وأُلزمت المجتمعات المختلفة، ونخبها الثقافية، بتأويل تواريخها وحوادثها وعلاقات جماعاتها بعضها ببعض في ضوء احتياجات الصدارة الفلسطينية ل"حرب الشعب" المفترضة هذه. وحملت العثرات على ضعف اعتبار الاحتياجات هذه، وعلى التمسك بالإرث القطري والتجزيئي، وبالمصالح الضيقة والفئوية، وعلى المهادنة المجرمة.
ونبتت حركات سياسية محلية وضعت برأس مطاليبها انصياع دولها للسياسات الفلسطينية، وشطر هذه السياسات الأكبر متحدر من سياسات "قيادات" مستولية على دولها وبلدانها وتتخبط في مآزم لا حصر لها ولا علاج من خارج المجتمعات والدول. وجاءت حوادث الأردن، من 1968 إلى 1971، والحروب الملبننة، من 1969 إلى 1982 وبعض ذيولها المستمرة إلى اليوم، تتويجاً مدمراً لسياسات فلسطينية وعربية تأخذ من الكناية والوساطة الفلسطينيتين بطرف عريض.
فكانت سياسات "القضية" الفلسطينية، أي سياسات الفلسطينيين والسياسات العربية التي وُضعت عليهم وتوسلت بهم، ضحية الأحوال السياسية والاجتماعية العصبية والعروبية، على نحو ما كانت عاملاً فاعلاً في تجديد هذه الأحوال وتثبيتها. فلا عجب إذا انقلبت السياسات العربية الموضوعة على الفلسطينيين عليهم، واسترجعت صدارتها ومزاعمها العروبية باسم المزاعم الفلسطينية إياها. فأسلمتهم، على نحو ما أسلموا أنفسهم، إلى حروب أهلية ومنازعات لا تحصى، وأحالت السياسة عليهم.
فإذا دخل الفلسطينيون منذ عام 1988 في طور جديد من تاريخهم، قد يكون ابتداء انكفائهم على أنفسهم وصوغهم كياناً سياسياً لأول مرة بقواهم الوطنية، أنكرت عليهم بعض "القيادات" والحركات السياسية العربية والإسلامية الخمينية والإيرانية وطنيتهم واستقلالهم المحدثين. فلسطت عليهم، منهم، جماعات إسلامية نبتت على أنقاض المجتمع الذي خلفه الاحتلال الإسرائيلي المتطاول والمدمر، وتوسلت بذيول "حكم" على قول السيد عرفات المنظمات الفلسطينية المسلحةِ لبنانَ إلى إضعاف الوطنية والاستقلال الفلسطينيين هذين. وفي كلتا الحالين لم تتغير الذريعة القومية والعروبية إياها، على رغم إفضائها إلى حرب عام 1967 وهزيمته، وإحيائها في الدولة العبرية نزعات خلاصية وميعادية لا تقيم أي اعتبار للسياسة أو لقصد الحلول المقتصدة من العنف وغلوائه وحُمّاه.
ففلسطين، "القضية" والمعنى، لم تنفك إلى اليوم، بعد سبعة عقود على اعتلائها المنصة التي اعتلتها، مرادفاً لتحكيم أمثلة المبالغة في "الجهالة" الثقافة السياسية العربية، وفي لغتها المتناسلة والثابتة على مبانٍ واحدة لا تزول عنها ولا تفارقها. وأدى إنزالها منزلة الصدارة من القضايا العربية الكثيرة، الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلى احتذاء تناول المشكلات الداخلية على مثال تناول المسألة الفلسطينية على وجهي الكناية العظيمة والوساطة.
فنجم عن تحكيم المثال هذا، وعن تحكيم وجهيه، تغليبُ الاستعارات، وجُمَلها القائمة بنفسها واللازمة، على الروايات المحبوكة والمتعدِّية إلى دوائر أوسع فأوسع. وعليه، رُذلت التواريخ والسياقات الموضعية والمفردة، وأهملت منازعها الفرعية، وقُدمت على هذه وتلك الصورُ والقرائن المستوفية الدلالة والمغتذية من ضغينة مستعرة ومحمومة لا يشفي غليلها إلا الموت والقتل، أو الكلام المسترسل عليهما وعلى ذاكرة مَعينها تكرارٌ يقيم على حال ماضية واحدة.
فغلبت الرموز على الأفعال، وعلى البشر والأشياء. واستحالت الأفعال، شأن البشر والأماكن، إلى علامات وشهادات بيِّنة على معانٍ قديمة ومحفوظة. وأجمع على هذا العلمانيون التاريخانيون والنقديون، وأشدُّ أهل التقليد حشوية وتزمتاً. فحُجز بين الناس الأحياء وبين مباشرة أفعالهم وأعمالهم على غير وجه التذكر والافتتان، وعلى غير وجه الذهول. وقُصر القول على المدائح واللِّعان، وصُرف إلى الخطابة والإقناع في النقائض والهُوِيّات. وحملت الأحوال المتوسطة، وألوانها "الرمادية" والمختلطة، على الأقاصي والأطراف. وأسلمت الأفهام إلى التصديق وحده. فإذا بالطريق إلى "فلسطين" ضرب في عماية جديدة، واستئسار مستمر لأصنام هوىً لا يتعبد لغير نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.