يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على سبيل المشاركة الحيية والمتواضعة في "المجالس" الخمسينية الفلسطينية . حمل فلسطين على الكناية المعظّمة والواسطة اللازمة ... ما زال يحكم الافتتان في السياسة والثقافة العربيتين
نشر في الحياة يوم 16 - 05 - 1998

طوال نصف القرن العربي المنصرم توسطت مسألة فلسطين، وفروعها التي تفرعت عنها وعليها، كثيراً من المسائل العربية، الوطنية والإقليمية، الأخرى. فكانت "القضية" الفلسطينية - أي مصير الفلسطينيين الذين أُجلوا بالقوة والترهيب عن البلاد الواقعة بين البحر وبين سلسلة الهضاب النازلة من جنوب حرمون إلى النقب" والتبعات المترتبة عن إجلائهم وهجرتهم وإقامتهم في بلدان الجوار القريبة فالأبعد" ومعالجة بلدان الجوار ودوله هذه التبعات وتحميل الجماعات الحاكمة والمحكومة التبعات هذه بعضها لبعض" وأثر هذا كله في العلاقات العربية الإقليمية، وفي علاقات المجتمعات العربية ودولها بالمجتمع الدولي وأقطابه وقواه - كانت هذه "القضية" واسطة لازمة إلى تناول الدول والمجتمعات العربية القريبة، والبعيدة في بعض الأحيان، مسائلها الداخلية، مثل أنظمتها السياسية والإجتماعية وعلاقات جماعاتها وموازين هذه العلاقات، أو مسائلها الخارجية، مثل أحلافها الإقليمية والدولية.
فتصدرت "القضية"، وهي على هذا النحو من التشابك، القضايا الثلاث الأولى التي تعرضت لها المجتمعات العربية غداة الحرب الثانية، وما زالت تتعرض لها: روابطها بالدول النافذة في المجتمع الدولي، وبعض هذه الدول كان، إلى الأمس القريب، صاحب سلطة الوصاية والانتداب على المجتمعات العربية" وصلات هذه المجتمعات بعضها ببعض، حلفاً "جامعاً" ومنه جامعة الدول العربية قد ينزع إلى "وحدة" تلوح في الأفق، وترتيباً للدول على مراتب من القوة والمكانة والنفوذ، وتحصيناً للإستقلال الداخلي من رعاية ملحة وثقيلة يسبغها جار "قوي" على جار "ضعيف"" وأخيراً قضية "الإصلاح" السياسي والاجتماعي الداخلي والقادر على الإضطلاع بأعباء "المعركة" الآتية لا محالة.
والحق أن هذه القضايا الثلاث الكبيرة، المالئة المقالات العربية السياسية والثقافية بكلماتها وجلبتها، شغلت السياسات العربية، وسياسييها ومتكلميها، قبل أن تستقر مع الناصرية المصرية، ثم مع الناصريات المشرقية البعثية، على مصطلح ولغة ومعانٍ سائرة ومتبلورة وقد تصح زيادة صفة: متخيلة، ليس من قبيل الإنتساب إلى تيار ثقافي محدث بل من قبيل محاولة استيفاء نعت هذه المعاني الناظمة في كلٍّ متصلٍ غاياتِ السياسة، وطرائقَ التعبئة والجمع والتفريق، والأبنية المعبرة عن الغايات. فالجامعة العربية سبقت عام 1948 بثلاث سنوات، لكنها جاءت ثلاثة عقود، أو أقل بقليل، بعقب الحركة الحجازية، وثلاثة عقود ونصف العقد غداة تداول بعض الرئاسات العربية في 1912 ثم في 1913 الرأي في أفضل علاقات تقيمها فيما بينها.
وتعود نشأة بعض الجمعيات الإصلاحية العربية إلى أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وكانت اللامركزية، والحكم المحلي، والتمثيل الوطني والبلدي، وإشراك النخب الوطنية والجديدة في التدبير، والحكم من طريق دستور معلن ومعروف، والائتلاف بين الولايات والأقوام عوض الاتحاد المركزي، من مطاليبها الأولى والبارزة. وتستبق هذه المطاليب البرامج التي خلفتها وسعى أصحابها في إنجاز الإستقلال الوطني، وفي إرساء الحكم على مشاركة أهلية أوسع من الرئاسات العشائرية الموروثة، كما سعوا في إرساء السياسة كلها على الإرادات العامية وعلى احتكامها إلى مرجع حائز الإجماع. وأُوكل إلى هذه كلها رعاية الدخول في الحداثة والعصر، الأوروبيين، وقيادة خطو المجتمعات العربية، من هذا الطريق، إلى القوة والمساواة.
فلما ورثت الناصرية المصرية بعض هذا الإرث، غداة الخسارة الفلسطينية، لم تلبث أن صاغته، واستأنفت التكلم به في لغة حركات التحرر الوطني من الامبراطوريات الأوروبية المتبقية. وكانت لغة هذه الحركات، بدورها، مصطبغة بصبغة ماركسية ولينينية توسل بها القادة البلاشفة الأولى إلى تعبئة "شعوب الشرق" و"ريف العالم" على "المراكز الامبريالية" التي استثنوا روسيا وعمومها منها. فاستقرت القضايا الثلاث الأولى على "التحرر من الاستعمار وقوى الهيمنة الدولية"، و"الوحدة" القومية وراء الوحدة الوطنية، وعلى استتمام تجديد النخب الحاكمة وإحلال النخب العامية محل النخب القديمة في السياسة والإدارة والملكية الإقتصادية باسم "ديموقراطية" لم تبعد كثيراً من أن تكون "شعبية" على النمط السوفياتي العتيد.
وكان الإرث الفلسطيني جزءاً ثميناً من هذه القضايا وواسطة عقدها في أوقات التأزم، وهذه الأوقات هي السائر والعادي والشائع. فاختلطت روافد القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية والثقافية كلها في مياه "القضية" الفلسطينية. ورُفعت هذه بدورها علماً على كل القضايا والمسائل الأخرى، فكانت عنوانها الجامع والمدخل اللازم إليها. فهي، بديهة، قضية تحرر وطني من ضربين متشابكين ومتصلين من التسلط الأجنبي" وهي امتحان مرير وقاسٍ لرابطة قومية وإقليمية ودينية أخفقت إخفاقاً ذريعاً في رعاية بلد وأهل ينزلان من هذه الرابطة منزلة القلب أو أحد منازله" وهي أخيراً بيان صريح عن نكوص قيادة سياسية واجتماعية تتربع في سدة المجتمع والشعب عن الاضطلاع بتبعات الحرب الوطنية والانتصار فيها.
ولم تقتصر هذه الحال المزدوجة، حال اختلاط الروافد وحال الإرتفاع علماً، على الدلالات والاستعارات المعنوية والرمزية، ولا على مضمارها الواسع والفضفاض. ففلسطين الإنتداب، عشية انتصار الحركة اليهودية وإنشائها دولتها المستقلة، كانت ساحة سياسية وعسكرية عربية، على المعنى الذي ملأت به المنظمات الفلسطينية المسلحة لبنان طوال عقد ونصف العقد غداة عام 1967 وهزيمته الفادحة. وعلى حين كان الاستيطان اليهودي المنظم والمتماسك ينشئ، لبنة لبنة، نواة دولته ومبانيها السياسية والإدارية والعسكرية، مستفيداً من الإغضاء البريطاني تارة وفي الخفاء عن السلطة المنتدبة وضدها تارة، تعاور الردودَ الفلسطينية على الاستيطان والهجرة تعريبٌ متمادٍ، لا راد له ولا رادع لا من الفسطينيين أنفسهم، ولا من "الأشقاء" العرب.
فتحولت البلاد الفلسطينية، وهي أشبه بمرقَّعة الفقير وخرقته منها بالثوب المتصل والمناسب جسماً بعينه، تحولت إلى مختبر تصول فيه الجماعات والحركات والعصبيات العربية، المختلفة والمتنافرة، على هواها. فكان لكل جماعة، بل لكل مقدم عصبية أو ضابط رفيع الرتبة مسرَّح أو في الخدمة أو شيخ معمَّم، سياسة يتوجها، على زعم الجماعة أو المقدَّم أو الضابط أو الشيخ، تحرير فلسطين وتطهيرها من الأرجاس العائثة فيها فساداً.
فاختبرت جمعية الإخوان المسلمين المصرية قدراتها الدعاوية والتنظيمية، ثم العسكرية، في البلاد الفلسطينية والأهالي الفلسطينيين. وكانت مسألتا الاستيطان اليهودي، والهجرة اليهودية المتعاظمة في أواخر النصف الأول من العقد الرابع، مضمار بلاء السياسيين السوريين البارزين من ابراهيم هنانو إلى شكري القوتلي ومردم بك وبعض السياسيين اللبنانيين وأولهم رياض الصلح. وباشر الضباط، من أمثال أديب الشيشكلي وفوزي القاوقجي، السياسة القومية من هذا الباب. وكان من العسير على بنية سياسية واجتماعية رخوة مثل البنية الفلسطينية، وهي قد لا يصح فيها المفيد، أن تمتنع من مطامح أمارة شرق الأردن ورغبات أميرها الملحة والمستصغرة الضفة الشرقية قياساً على العراق الذي أعطي كله لفيصل وورثته.
ووقع هؤلاء كلهم، على اختلاف آرائهم ومشاربهم وأهوائهم، على مجيب فلسطيني ونظير. فالبلاد الفلسطينية، والأهالي الفلسطينيين من بعد، تنقاد إلى حملها على محامل متباينة ومختلفة من غير امتناع. فهي الضفة الغربية لنهر الأردن، وتُعقل وحدةٌ تجمعها إلى الضفة الشرقية إذا حكم هذه أمير قوي دانت له العشائر السارحة بين شمال الحجاز وحوران، وبعض أفخاذها استقرت في مدن الضفة الغربية منذ قرون. وهي، أو بعضها مثل سهل الحولة وضفاف طبريا وهضاب الجليل، سورية الجنوبية، على رواية أخرى. فإذا استولى على حكم السوريين، وعلى حكم سورية، زعيم عربيُّ المدى الحيوي كان ضم فلسطين كلها إلى جغرافيته السياسية، وإلى استراتيجيته، ولو "الهيكلية"، وضم الفلسطينيين، من بدائه هذه الاستراتيجية وسراباتها المنهكة.
بل إن لبنان نفسه لم يعدم منفذاً، مسيحياً، في الشمال الفلسطيني. فجمعت كتلة بدوية وفلاحية، مسيحية وشيعية، أطراف السكان في أمارة مستقلة في الربع الثالث من القرن الثامن عشر. وكانت سيناء على الدوام وصلة بين مصر وبين بلاد فلسطين. فهي فلسطينية مرة، ومصرية مرة أخرى.
أما الوجه البحري، المتوسطي، من هذه البلاد فيصل الثغر المصري بالموانئ التركية، والساحل التركي، على قدر ما يصل البلاد الداخلية، الفلسطينية والأردنية والحجازية والعراقية، بالتجارة المتوسطية، القريبة والبعيدة. وإذا كان أهلها مزيجاً مدينياً، مشرقياً وعثمانياً، من أصحاب التجارات والأعيان وأهل الحرف وأهل الطرق والمتعلمين، فالمكانة، ولو من غير ثراء وتدبير وتجريب، إنما تعود إلى أعيان مدن الداخل، المتحدرين، من البداوة العريقة بنابلس ورام الله والقدس.
وزاد الخرق اتساعاً، حتى امتنع على الراقع على ما تقول العربية، تنوع الفلاحين والمزارعين أنواعاً وفئات من غير جامع مشترك. فالسهل الشرقي الشمالي الخصب، شأن الأغوار كلها، يزرعه أهل فلاحة وزرع هم من سواقط القبائل والعشائر في حلها وترحالها بين شمال شبه جزيرة العرب وبين الجزيرة العراقية والجزيرة السورية. ولم يكن هؤلاء "الشاوية"، أي البدو المتوطنون والمتحولون إلى الزراعة، يرتضون حالهم هذه إلا على مضض. فهم فلاحون على رغمهم. والأرض ليست أرضهم، بل يقتسمها مشايخ العشائر وأعيان المدن البعيدة، الفلسطينية واللبنانية والسورية.
فكانوا، هم وملاكو الأرض، فريسة سهلة للمستوطنين اليهود، ولوكالتهم الساعية في امتلاك الأرض والسكن بجوارها. وكانت هذه الناحية من البلاد الفلسطينية، حول صفد التي يحفها سهلا الحولة وطبريا، معقل الاستيطان النشط ومختبره الاجتماعي في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين. ولم يكن يجمع هؤلاء الفلاحين والمزارعين "الفلسطينيين" والعرب بنظيرهم في الشمال والغرب، حيث عمل الأرض أقدم وأثبت ويزاول بعضه مسيحيون لهم باعٌ طويل في هذه الحرفة، رابط أو آصرة. أما الجنوب والجنوب الشرقي، الصحراويان على هذا القدر أو ذاك، فكانا ذريعة إلى صورة إعمار الأرض الموات والمتروكة التي تذرع بها المستوطنون الأوائل إلى تسويغ نزولهم، هم "الشعب من غير أرض"، "أرضاً من غير شعب".
ومهما كان من أمر الشرعية "التاريخية" التي يتنازعها الفلسطينيون، ومعهم العرب والأصح القول العروبة أو العصبية العروبية، والإسرائيليون، ويناظرون فيها، فالأحوال التي أفضت إلى الخسارة الفلسطينية، وإلى جلاء معظم الفلسطينيين عن البلاد الساحلية، وليس عن الضفة الغربية، إنما هي هذه الأحوال السياسية والأهلية والإجتماعية التي وصفت للتو على وجه الاختصار ولم تكن الممالأة البريطانية، على خلاف ما ذهب إليه مكسيم رودنسون في مقالته الشهيرة في "الواقعة الاستعمارية"، إلا وجهاً واحداً. وقد يصح إيجاز هذا الوصف بالقول إن الهجرة والإستيطان اليهوديين وقعا على أهالٍ وبلاد حالَ شتاتُهم الإجتماعي، وحالت سياستهم القائمة على رئاسات تتصدر الجماعات وعصبياتها وتستبطنها وتتكاثر بكثرة الجماعات وتتقاتل باقتتالها، حالا الشتات والسياسة دون اندراجهم في كيان وطني مجتمع ومتماسك.
فلم تعصم الهوية القومية، المركوزة في القوم والعصب، ولا عصمت الهوية الدينية الغالبة بأرض تنتسب إلى القدس أو القداسة، أهل الهوية المزدوجة هذه من التضعضع والتوزع، ولا من أيلولتهما إلى تبدد والتجاء أليميْن ومهينين. وعوض توسل الفلسطينيين بهذا الإختبار الحاسم إلى انكفاء يمهد لبلورة هوية وطنية، من غير التقليل من عسر مثل هذا الانكفاء في المهاجر والملاجئ التي اضطر الفلسطينيون إلى الهجرة والالتجاء إليها، أعملت فيهم الحركات القومية المزعومة تبديداً وتفريقاً. وماشت معظم نخبهم هذه الحركات وأخذت بمزاعمها.
فحسبت المنظمات الفلسطينية المسلحة، منذ 1965 - 1967، أن طلَبَها قيادة "حرب شعبية" عربية واحدة، "على امتداد الوطن العربي"، ينصبها طليعة سياسية، ويحررها من الوصايات العربية المتباينة، ويسلطها هي، ومعظمها وكالات عن جماعات حاكمة، رقيباً على الأنظمة و"الدول" وحسيباً. فكان عليها، والحال هذه، أن تبالغ في الاضطلاع بالدور الذي اضطلعت به "القضية" الفلسطينية قبل الخسارة وبعدها، وهو دور الكناية العظيمة عن المشكلات والمسائل العربية، الداخلية والخارجية، كلها، ودور الوسيط إلى تناول هذه المشكلات ومعالجتها العلاج الشافي.
فقامت على جذع الكناية والوساطة هاتين سياسات خطابية سائقها المبالغة في افتعال الكناية وفي اصطناع التوسيط. وتسابقت المنظمات السياسية والمسلحة على تعظيم التمثيل الفلسطيني، وهي أداته، على أمراض المجتمعات العربية وعلى أدويتها الناجعة. ولم يقتصر التمثيل على الشبه والمقايسة بل تعداهما إلى زعم الوحدة الثابتة والتامة. فكان على المجتمعات العربية، وكان على دولها وأهلها، القناعة بدور "هانوي" عربية، و"أكثر من فيتنام"، تحت لواء طليعة فلسطينية تتخذ من بيروت، أو عمان، أو القاهرة، أو الجزائر، أو دمشق، أو بغداد، قواعد ومخابئ ومطارات وجبهات وطرق تموين ومعاقل، إلخ.
وكان على المجتمعات ودولها وأهلها أن يعادوا "الإمبرياليات" الحواضر الرأسمالية الغربية الضالعة في ميل ميزان القوى العالمي على النحو الذي يميل عليه، وأن يصادقوا "المعسكر الاشتراكي" والسوفياتي، عدو "الأمبرياليات" العدوة. وجرى صوغ المشكلات والمنازعات الداخلية، بين طبقات حاكمة "كومبرادورية" وبين طبقات محكومة ومستلبة وطنية وأصيلة، على مثال يتفق مع الرسم الفلسطيني العتيد واحتياجاته الظرفية، وبمعزل عن اختبار المجتمعات الوطنية، وجماعاتها وأهاليها، وعن المشكلات والاحتياجات والحوادث التي اختبرتها في تواريخها المعاصرة والمستقلة.
بل نُسبت الاختبارات والتواريخ هذه إلى الإفتعال وإلى خداع التجزئة والقطرية الإستعماريتين والإمبرياليتين. وأُلزمت المجتمعات المختلفة، ونخبها الثقافية، بتأويل تواريخها وحوادثها وعلاقات جماعاتها بعضها ببعض في ضوء احتياجات الصدارة الفلسطينية ل"حرب الشعب" المفترضة هذه. وحملت العثرات على ضعف اعتبار الاحتياجات هذه، وعلى التمسك بالإرث القطري والتجزيئي، وبالمصالح الضيقة والفئوية، وعلى المهادنة المجرمة.
ونبتت حركات سياسية محلية وضعت برأس مطاليبها انصياع دولها للسياسات الفلسطينية، وشطر هذه السياسات الأكبر متحدر من سياسات "قيادات" مستولية على دولها وبلدانها وتتخبط في مآزم لا حصر لها ولا علاج من خارج المجتمعات والدول. وجاءت حوادث الأردن، من 1968 إلى 1971، والحروب الملبننة، من 1969 إلى 1982 وبعض ذيولها المستمرة إلى اليوم، تتويجاً مدمراً لسياسات فلسطينية وعربية تأخذ من الكناية والوساطة الفلسطينيتين بطرف عريض.
فكانت سياسات "القضية" الفلسطينية، أي سياسات الفلسطينيين والسياسات العربية التي وُضعت عليهم وتوسلت بهم، ضحية الأحوال السياسية والاجتماعية العصبية والعروبية، على نحو ما كانت عاملاً فاعلاً في تجديد هذه الأحوال وتثبيتها. فلا عجب إذا انقلبت السياسات العربية الموضوعة على الفلسطينيين عليهم، واسترجعت صدارتها ومزاعمها العروبية باسم المزاعم الفلسطينية إياها. فأسلمتهم، على نحو ما أسلموا أنفسهم، إلى حروب أهلية ومنازعات لا تحصى، وأحالت السياسة عليهم.
فإذا دخل الفلسطينيون منذ عام 1988 في طور جديد من تاريخهم، قد يكون ابتداء انكفائهم على أنفسهم وصوغهم كياناً سياسياً لأول مرة بقواهم الوطنية، أنكرت عليهم بعض "القيادات" والحركات السياسية العربية والإسلامية الخمينية والإيرانية وطنيتهم واستقلالهم المحدثين. فلسطت عليهم، منهم، جماعات إسلامية نبتت على أنقاض المجتمع الذي خلفه الاحتلال الإسرائيلي المتطاول والمدمر، وتوسلت بذيول "حكم" على قول السيد عرفات المنظمات الفلسطينية المسلحةِ لبنانَ إلى إضعاف الوطنية والاستقلال الفلسطينيين هذين. وفي كلتا الحالين لم تتغير الذريعة القومية والعروبية إياها، على رغم إفضائها إلى حرب عام 1967 وهزيمته، وإحيائها في الدولة العبرية نزعات خلاصية وميعادية لا تقيم أي اعتبار للسياسة أو لقصد الحلول المقتصدة من العنف وغلوائه وحُمّاه.
ففلسطين، "القضية" والمعنى، لم تنفك إلى اليوم، بعد سبعة عقود على اعتلائها المنصة التي اعتلتها، مرادفاً لتحكيم أمثلة المبالغة في "الجهالة" الثقافة السياسية العربية، وفي لغتها المتناسلة والثابتة على مبانٍ واحدة لا تزول عنها ولا تفارقها. وأدى إنزالها منزلة الصدارة من القضايا العربية الكثيرة، الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلى احتذاء تناول المشكلات الداخلية على مثال تناول المسألة الفلسطينية على وجهي الكناية العظيمة والوساطة.
فنجم عن تحكيم المثال هذا، وعن تحكيم وجهيه، تغليبُ الاستعارات، وجُمَلها القائمة بنفسها واللازمة، على الروايات المحبوكة والمتعدِّية إلى دوائر أوسع فأوسع. وعليه، رُذلت التواريخ والسياقات الموضعية والمفردة، وأهملت منازعها الفرعية، وقُدمت على هذه وتلك الصورُ والقرائن المستوفية الدلالة والمغتذية من ضغينة مستعرة ومحمومة لا يشفي غليلها إلا الموت والقتل، أو الكلام المسترسل عليهما وعلى ذاكرة مَعينها تكرارٌ يقيم على حال ماضية واحدة.
فغلبت الرموز على الأفعال، وعلى البشر والأشياء. واستحالت الأفعال، شأن البشر والأماكن، إلى علامات وشهادات بيِّنة على معانٍ قديمة ومحفوظة. وأجمع على هذا العلمانيون التاريخانيون والنقديون، وأشدُّ أهل التقليد حشوية وتزمتاً. فحُجز بين الناس الأحياء وبين مباشرة أفعالهم وأعمالهم على غير وجه التذكر والافتتان، وعلى غير وجه الذهول. وقُصر القول على المدائح واللِّعان، وصُرف إلى الخطابة والإقناع في النقائض والهُوِيّات. وحملت الأحوال المتوسطة، وألوانها "الرمادية" والمختلطة، على الأقاصي والأطراف. وأسلمت الأفهام إلى التصديق وحده. فإذا بالطريق إلى "فلسطين" ضرب في عماية جديدة، واستئسار مستمر لأصنام هوىً لا يتعبد لغير نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.