بعد "وحدة المسار والمصير"، بين سورية السيد حافظ الأسد ولبنان السيد إميل لحود، على حسب مصطلح نشره رئيس الجمهورية اللبنانية الجديد في مطلع توليته الرئاسة، يغتني المصطلح السياسي اللبناني - السوري، السائر إلى التوحيد بدوره، بعبارات جديدة وردت في ما يشبه بياناً مشتركاً، أذاعته الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام، عن محادثات السيد بشار الأسد، والرئيس اللبناني. فعلى ما ذهب إليه البيان، يتلازم المساران "في كل خطوة نحو السلام العادل والشامل"، ولا ينفك واحدهما من الآخر "في كل لحظة صمود لاستعادة الأرض والحقوق" "الحياة"، في 11 تشرين الثاني / نوفمبر. ويظهر البيان "الرئاسي" راهناً ومستقبلاً تفاؤلاً يكاد يكون مفرطاً في عملية السلام: فالخطوة لا تسير إلا على طريق السلام، واللحظة لا تؤرخ إلا لاستعادة الأرض والحقوق. وكان هذا التفاؤل "اللغوي" مقصوداً أو لم يكن، فالثابت أن تلاحم طرفي الكتلة السورية اللبنانية المتفاوتة بإزاء سياسة الدولة العبرية الآتية، مفاوضة وانسحاباً ومقايضةً للأرض بالسلام والأمن والعلاقات الطبيعية، هذا التلاحم يمتحن منذ أواخر حزيران يونيو امتحاناً عسيراً. فيوم تجاوزت السياسة الإسرائيلية تحفظها - وهو تحفظ تشاطرها إياه، إن لم تمله عليها، السياسات الدولية المهتمة بالمفاوضات العربية والإسرائيلية - عن زج العوامل الإقتصادية والمدنية العامة في الحساب العسكري، وتطاول قصفها إلى محطتي تحويل الكهرباء، وإلى بعض الجسور، ظهر جلياً أن توسل السياسة السورية بهجمات "حزب الله" على الأراضي الإسرائىلية الدولية إلى سلام "شامل"، يشمل الأراضي السورية المحتلة والأراضي اللبنانية معاً، "وعادل"، يشمل كل الأراضي المحتلة منذ الخامس من حزيران يونيو 1967، يعود على لبنان، وعلى السياسة السورية فيه، بالخطر. فمعنى هذا القصف، وهو قلص موسم السياحة بلبنان إلى ثلثي التوقعات، وزاد طين الركود والإنكماش بلة، أن ما أحجم سلاح الجو الإسرائيلي عن ارتكابه في عمليات كبيرة سابقة، في صيف 1993 وربيع 1996، من ضرب المرافق الحيوية العامة والباهظة التكلفة، لا يمنع من ارتكابه إلا انفتاح أفق المفاوضة بين إسرائيل وسورية، وظهور لوائح اتفاق بين السياستين، على ما كان عليه الأمر في صيف 1993 عملية "تأدية الحساب" وفي ربيع 1996 عملية "عناقيد الغضب". وما عدا التعويل على حظوظ المفاوضات فلا يتعدى النرجسية ونفخ النفس. ويستدعي التعويل على حظوظ المفاوضات تحفظاً سورياً نظير التحفظ الإسرائيلي. وهذا، أي التحفظ السوري، وتالياً الحزب اللهي، ما لم يتأخر ظهوره سريعاً وباكراً. فعلى رغم محافظة الأعمال العسكرية الحزب اللهية على متوسط إحصائي قريب من متوسطها السابق، على بعض التدني بحسب النشرة الإسرائيلية، زادت حظوظ الجنود الإسرائيليين في النجاة من الكمائن والعبوات والهجمات الرشاشة والقنص والقصف، زيادة ملحوظة. وفي الأثناء تعمد سلاح جو العدو قصف أطراف القرى المأهولة، وهي مصادر قصف "حزب الله" على زعم بيانات هيئة مراقبة اتفاق نيسان أبريل، 1996، ولم يتحاش تالياً إصابة المدنيين، "الخط الأحمر" الحزب اللهي من قبل. وعلى خلاف مبدأ وأصل تمسكت بهما المنظمة الخمينية اللبنانية، وأنزلتهما منزلة الركن من سياستها العسكرية، لم تدعُها إصابةُ المدنيين والأهالي المتكررة إلى رد استثنائي، أو "نوعي" على قولها. فَجَرت العمليات مجراها الرتيب، أي المقتصر في معظمه على وقوع ضحايا لبنانيين مدنيين. ولم يكن النزول عن "توازن الرعب"، بحسب استعارة مصطلح الحرب النووية لمناوشات العصبيات القروية في بلادنا، أمراً يسيراً على المنظمة السياسية والعسكرية الخمينية، وعلى راعيها السوري. فصرفت هماً خطابياً كبيراً إلى إقناع محازبيها وأنصارها، و"الجمهور" عموماً، بأن شيئاً لم يتغير في غضون الأشهر الخمسة الأخيرة، على رغم ظواهر الحوادث والوقائع، وبأنها لم تزل تمسك بزمام المبادرة، ولم يزل العدو الصهيوني على ارتباكه ووجعه، إلخ. أما من وجه آخر، فلاحت أمارات تمهيد لسياسة سورية ولبنانية تالياً تخالف سياسة تلازم المسارين، في بعض بنودها، والبناء عليه. وتُؤوِّل هذه السياسة الإنسحاب الإسرائيلي المزمع، قبل تموز يوليو الآتي على حسب وعد باراك ناخبيه، من غير مفاوضةِ سورية على الإنسحاب، انتصاراً ناجزاً وتاماً لسياسة تلازم المسارين. فمثل هذا الإنسحاب، إذا جرى، يبقي "سيف المقاومة مسلطاً على العدو"، ويحول بينه وبين "إطمئنانه على أمن كيانه" بعد الإنسحاب، على قول شارح مأذون، ويمتن "الوحدة الوطنية" برعاية سورية حثيثة على الدوام. وبعض هذا الكلام رد على ما أدلى به السيد بشار الأسد في اثناء لقائه الصحافة "العربية" بباريس. فهو ذهب إلى ان انسحاباً إسرائىلياً من غير اتفاق قد يؤدي إلى "اضطرابات" لبنانية غير مأمونة. والحق أن التنبيه هذا إنما يكرر موقفاً سورياً تقليدياً وثابتاً هو في أصل اللبننة، ولا ريب في أن تكراره في العاصمة الفرنسية، وبينها وبين لبنان على ما قال السيد الأسد الإبن "علاقات خاصة" هي صنو علاقات خاصة بين لبنان وبين سورية على قوله كذلك، لا ريب في أن تكراره حيث كرر ينحو نحو الإيعاز والتحضيض أو الحض. فهو دعوة ملحة، من طريق وساطة فرنسية نشطة، إلى محافظة السياسة الإسرائىلية على ثوابتها في لبنان. وأول الثوابت المجربة هذه الحؤول دون مجابهة إسرائيلية سورية مباشرة، والاقتصار على المسرح الاحتياطي اللبناني ميداناً للإختبار المتبادل. والحق أن الاتفاق على اتخاذ لبنان مسرحاً احتياطياً هو في أساس نجاح السياسة السورية الإقليمية، على قدر ما يصح مثل هذا التقويم ويصدق. ورعاية السياسة السورية خروج لبنان، البطيء والأعرج، من حروبه "الأهلية"، أي من لبننة المنازعات الإقليمية المنفجرة، هي من ثمرات الدور الإقليمي، وتكريسه، والإقرار به. ولا ريب في أن قبول السياسة السورية هذه الرعاية بقي مشروطاً بتخويلها، ضمناً، التصرف في طرق خروج لبنان من حروبه "الطائفية"، على ما يكرر اليوم السيد بشار الأسد ويلح، ومن "تاريخه الطائفي" كله، إلى "الديموقراطية" و"العلمانية". ولا ريب في أن هذا التخويل يفترض، فيما يفترض، سوس "المقاومة"، ومراقبة أعمالها العسكرية، وقواها المحلية، والفلسطينية إذا اضطر الأمر، وتسليحها. وربما تدخل "الإضطرابات"، على مثال تلك التي جرت قبل عقد ونصف العقد بضواحي صيدا وإقليم الخروب وعلى مثال تلك التي لم تقع في قرى جزين في أوائل العام الجاري، في نطاق السياسة والمراقبة هاتين. ولا شك في عزل دائرة "المقاومة" عن دائرة "الإضطرابات"، والحؤول دون جنوح الأولى إلى الثانية على رغم قوة النازع، هما العزل والحؤول في صلب التخويل. ولا يبعد أن يكون نجاح الرعاية السورية، على قدر ما يصح هذا التقويم، رتب على السياسة السورية أعباءً سلمية أدت، بدورها، إلى تقييد هذه السياسة، وحملتها على الفصل بين دائرة "المقاومة" ودائرة "الإضطربات" فصلاً أقوى وأمتن. فالتلويح ب"اضطرابات" في لبنان الذي أُطلقت يد السياسة السورية، منذ عقد كامل من السنين، في تولية طاقمه السياسي، وطواقمه الإدارية، وفي توجيه سياسته الإقتصادية من طرق كثيرة بعضها غير مباشر، التلويح هذا، والحال على ما هي عليه، قرينة على حرج لا يدري صاحبه كيف يداريه. فترك "حزب الله"، أو غيره، يهاجم المدنيين الإسرائيليين، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة من الأراضي اللبنانية، رداً على فك المسارين، واقتصاصاً من دوام الإحتلال الإسرائيلي أراضي سورية، أو من نجاح المفاوضات الفلسطينية والإسرائىلية، هذا الترك يعرِّض الإنجاز السوري في لبنان للتقويض والإلغاء، ويقطع الطريق على المفاوضة بين سورية وإسرائيل، ويسوِّغ كل الشكوك في سياسة سورية اللبنانية منذ أوائل العقد الثامن، وفي جدارتها برعاية السلم اللبناني. وهذا كله القبول السوري به مستبعد. فهو يفضي هذه المرة، بعد الإستتباب الظاهر للوصاية السورية والخطوات على الطريق الفلسطينية إلى دولة وطنية ونشوء علاقات عربية وإسرائيلية تتمتع بالصفة الدولية، إلى عودة منفردة، وفي ظروف مدمرة، إلى خط الإنطلاق. أو هو ذهاب إلى الحج فيما الحجاج قافلون إلى ديارهم. ولا يرغب أحد، طرفاً دولياً أو إقليمياً، في مثل العودة المنفردة هذه، في ختام مطاف سياسي قارب الثلاثة عقود، واختبر ثمرات الإنفراد الفجة والمريرة كلها. * كاتب لبناني.