صور يا عزيزي، الولد لا يريد أن يكبر، بوده لو يعود طفلاً. أتدري ما يريد، يسألني لمَ لم أعد أحبه كما كنت أفعل حين كان طفلاً. يتهمني بأنني لا أحبه مثلما يحب الآباء ابناءهم. فالآباء الذين يشاهدهم، آباء أصحابه مثلاً، وآباء الأولاد في التلفزيون كذلك، يحبون أولادهم بصورة مختلفة، الاب يضم ابنه ويحضنه ويقبله، الاب يخاف على ابنه من النسمة، أما أنت - يقول مؤنباً - فلا أدري كيف؟ من زمن لم تضمني، من سنين لم تعد تسمح لي بالجلوس في حضنك، حتى حين تأتي من السفر وأنت تسافر كثيراً، وتغيب طويلاً، تعانقني كما تعانق أصحابك من الرجال، وكما تعانق أخي الأكبر، ومثلما تعانق أمي. أتمنى لو أجلس على ركبتك وأضع رأسي على كتفك، لماذا أحسّ أنك تتضايق حين أقترب منك، هل أنا "ثقيل" إلى هذا الحد؟ إذا كنت ثقيلاً عليك، فلأبحث عن أب لا يحس بي ثقيلاً. تصور ان يقول ابنك هذا الكلام لك ثم يلقي نفسه في حضن أمه فتحضنه وتشده بقوة كما لو أنه يتعرض لزلزال أو بركان، ماذا كنت فاعلاً به، هل تسمح بمثل هذه الميوعة؟ قل لي. الولد غدا شاباً، في مثل طولي تقريباً، ويود ان يبقى طفلاً: يُحتضن، ويُضم، ويُقبل... قل لي انت، هل ما تزال تملك القدرة على أن تحمل ابنك على ظهرك كما كنت تفعل حين كان طفلاً صغيراً؟ أترى أي جيل انجبنا، أي جيل سيخلف جيلنا؟! هل تتذكر جيلنا؟ أنا أتذكر... واتذكر انني لا اتذكر متى كانت آخر مرة حظيت فيها بقبلة أو احتضانة من الأب... هل تتذكر آخر مرة هتف أبوك يناديك فيها ب"يا حبيبي"؟ لا اعتقد. واعتقد انك لم تعد تتذكر آخر لمسة على رأسك، وآخر طبطبة على كتفك. جيلنا كان "شيئاً" آخر، الجيل الذي - ربما - لن يتكرر، الجيل الذي منذ طفولته هل كانت طفولة؟! صنع بندقية الخشب، وحفر "الخنادق الصغيرة"، وقذف الزعماء الكبار بالبندورة، وصرخ بهم بأعلى صوته الطفليّ: يا... يا ديّوس، بعت الوطن بالفلوس. جيلنا، جيل ال... لم يكن في حاجة إلى قبلة الأب واحتضانه و... الخ. وتصوّر ان يأتي، الآن، ابن ال... ويصرخ بي - أحياناً قليلة طبعاً - انني أحب اخته أكثر منه، تصور أنه يغار من اخته. أنت تحضنها وتقبلها، يقول لي. أقول له، على مضض: يا ابني، يا حبيبي، الدلع للبنات، وأنت شاب "طولك طول النخلة". قل لي يا صاحبي، كيف أفعل؟ صدقني أنه لا يطلب شيئاً إلا ويحصل عليه، كل رغباته ملباة، يلبس أفضل من كثيرين، ويأكل ويشرب ويلعب، كومبيوتر وانترنت ورحلات ومدرسة خاصة و... كل ما حرم منه جيلنا نوفره له، أشياء لو توفرت لنا لكنّا كسرنا الدنيا. باختصار، هذا جيل مائع، لا تفرّق فيه بين شاب وبنت. فما رأيك، دام فضلك؟ هل تعاني انت كما أعاني؟ أترى غير ما أرى؟ قلت لصاحبي الذي لم يحاورني، ولم اعرف ان كان يشكو أم يعترف: يا عزيزي، يبدو انك قد أسرفت في تدليل ابنك طفلاً، وعليك الآن أن "تخاويه"، كما يقول المثل. أما أنا، فقد "قطعت رأس القط" مبكراً، ولكنك لم تخبرني: كم عمر ابنك هذا "الدلوعة"؟ - هذه السنة سيكمل الثانية عشرة. معقولة، لا يمكن وضحك قهقهة، هل تعرف نكتة الذي شكا لصاحبه من أن ابنه يدخن ويتعاطى الكحول و... رد صاحبه بأن ابنه هو من أفضل ما يمكن لأب ان يحلم. سأل الأول: كيف، كم عمر ابنك ما شاء الله، فقال الثاني: ثلاث سنوات! - أهذا وقت مزاح، أتسخر مني، ما علاقة هذا الطيخ بذلك البطيخ! أقول لك الولد صار أطول مني، ويريدني أن اغنّجه، فماذا افعل به؟ دع أمه تقوم بذلك. - لكنه يريد ذلك مني أنا، آخر مرة قلت له ذلك، فاجأني بصراحة: لكن أمي تعمل أيضاً، وتعمل أكثر منك، من الصباح إلى الليل، وحين تعود تحضنني كما لو انها غابت عني سنة. انت تغيب شهوراً، وتراني كما لو انك لم تغب أبداً. معقول، والله زمن... آخر زمن، وماذا فعلت؟ - ما الذي سأفعل، قلت له: أنت لا تفهم شيئاً، اذهب، ما زلت صغيراً، حين تكبر تفهم!