لم يمرّ الفيلم الروائي الطويل الاول للمخرج المغربي محسن بصري من دون ان يثير سجالات من حوله. فمن عنوانه المثير («المغضوب عليهم») الى تطرقه الى الإرهاب وتصويره المتطرفين بعيداً من الكليشيهات، عرف كيف يقسّم المشاهدين من حوله بين مؤيد ومستهجن. «الحياة» التقت المخرج في نيودلهي عند عرض فيلمه هناك بعد مهرجان طنجة للفيلم الوطني حيث فاز بجائزة العمل الأول ومهرجان كارلوفي فاري، وحاورته حول الخطاب المغاير للفيلم ورد الفعل عليه. يدنو «المغضوب عليهم» من موضوع بمقدار ما هو حساس في العالم العربي، بمقدار ما هو على الموضة. فهل في تطرقك الى موضوع الإرهاب ضمان لإثارة ضجة حول الفيلم؟ - عندما ولدت فكرة الفيلم قبل 4 سنوات، لم يكن الموضوع على الموضة فعلاً، علماً انه يمكن القول، وللأسف، ان الارهاب على الموضة في بلادنا منذ ابن رشد والأندلسية. مسار طويل قادني الى هذا الفيلم، وتحديداً بعد «سبتمبر 2001» حيث شعرت ان الاميركيين اكتشفوا للتو ان الإرهاب موجود، وهو امر لمسناه نحن العرب منذ زمن طويل. وكردّ فعل على الأخبار التي كنت اسمعها في الإعلام الغربي، بدأت أكتب سيناريو بعنوان being laden، وهو لعب على الكلام حول بن لادن، وشاركني في هذه المغامرة لوران نيغر، وبدأنا نكتب معاً، وكان من المفترض ان نخرج الفيلم سوياً. وعندما انتهينا من الجزء الأول وعرضناه على بعض الموزعين، كان جوابهم: «حتماً سنشاهد الفيلم لو ابصر النور، لكننا لن نسوّقه او نوزّعه لأن الموضوع خطير جداً». كانت القصة تدور حول شاب مغربي يُعتقل ما إن يطأ الأرض السويسرية لدخوله بطريقة غير شرعية. وفي الطريق الى المخفر، تتعرض سيارة الشرطة لحادث سير، وفي اللحظة ذاتها تختطف مجموعة إرهابية الأمين العام للأمم المتحدة في جنيف، وتتوجه اصابع الاتهام نحو الشاب بأنه ينتمي الى هذه المجموعة. وأثناء الاستجواب، يواجهونه بكل الحجج التي كنت أسمعها في وسائل الإعلام الأجنبية. والخطير، انني حين كنت اسمع كل هذا الكلام، كنت أجد نفسي في حال دفاع عن المتطرفين الذين لا أوافقهم الرأي. لكنني كنت أسمع الكثير من التفاهات التي لا يمكن ان يستوعبها منطق. وكنت أريد من الفيلم ان يصوّر كيف يمكن تحويل انسان عادي الى انسان أصولي عندما تضعينه في حال الدفاع عن إثم لم يرتكبه. تقول ان الفيلم رفض في مهرجانات عدة لأنك لم تقدم تنازلات في الطرح وتصوّر الإرهابي كما يريد الغرب أن يراه. ولكن، ألم تخش ان يبدو في فيلمك تعاطف مع الإرهابيين متى صورتهم بشراً من لحم ودم؟ - أثناء تصوير الفيلم، كنت أتغيب كثيراً عن المنزل، وفي احد الأيام اتى إليّ ابني الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة اعوام، وسألني: ابي لماذا تملك مهنتين والآباء الآخرون يملكون مهنة واحدة. أجبته: لتكون حياتك أفضل. ذهب ثم عاد بعد فترة وقال لي: ابي، فكرت ووجدت ان حياتي جيدة ولا حاجة لتتعب نفسك من أجلي. قلت له: كذبت عليك، أقوم بذلك لتكون حياتي أفضل. فسألني: ألا تحب حياتك؟ قلت: بلى، ولكن اريدها ان تكون احسن ولهذا اصنع أفلاماً. فقال لي: حسناً. ولكن آمل ان تصنع أفلاماً جيدة. سردت هذه الحادثة لأقول انني لأجل ولديّ لم اتنازل، إذ لم أشأ ان يقولا حين يكبران وينظران الى افلامي، هل من أجل هذه السخافات كان بعيداً عنا؟ هل كان بعيداً ليهين ثقافته وعرقه، فقط ليشارك في المهرجانات، ويلقى تصفيقاً من الغرب؟ من هنا قلت للموزعين من غير الممكن ان أصنع فيلمي بشروطكم. تريدون كليشيهات، لكنها موجودة بكثرة على شاشاتكم؟ لن أعطيكم ما تريدون مشاهدته. ولا انكر ان بعض الناس كانوا يتوجهون اليّ ويقولون انهم يتعاطفون بعض الشيء مع الارهابيين في فيلمي. وكنت أجيبهم انتم لا تتعاطفون مع الإرهابيين الذين صورتهم انما مع الإنسان في داخلهم. ولكن ألا ترى ان رد الفعل هذا خطير على المتلقي، خصوصاً انك لا تؤمن بأفكار هؤلاء؟ - أؤمن بالإنسان. وأحب الناس في بلادنا. أحب العرب، وأرى ان اموراً كثيرة أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم، وان الأشياء قد تتغير حين نكف عن إلقاء اللوم على الآخرين ونعترف بمسؤوليتنا. عندما نشاهد ما فعل العرب في الماضي للإنسانية وكيف لم نضف شيئاً منذ وقت طويل، لا يمكن ان نتململ ونقول ان العالم لا يسمعنا بما اننا لسنا اكثر من مستهلكين. ولا ازال اتذكر اول حصة رياضيات اخذتها عندما وصلت الى جنيف. يومها رسم الأستاذ سهماً على اللوح واضعاً عليه تواريخ أساسية في علم الرياضيات، بدأها بالخوارزمي. أثّر الأمر كثيراً فيّ وقلت لرفيقي العربي في الصف، أنظر حجم الأسماء العربية الموجودة على اللوح والفراغ الذي أعقب تلك الفترة بحيث لم يعد لنا وجود. كل هذه الأشياء كانت في خلفية تفكيري. وكنت أقول إن كنت أريد ان اصنع سينما لست ضد السينما التجريدية ولست ضد الاستهلاك، لكنني ارى ان هناك مكاناً ايضاً لسينما يمكن ان تضيف شيئاً، سينما تحمل رسالة. وهذه الأخيرة يجب ان تكون غير عصية على المتفرج وأن يفهمها الجميع. فإذا كنت أريد ان أعدّ أشخاصاً من دون ادعاء لن أكلمهم بلغة شكسبير لأنهم لن يفهموها، لذا كان لا بد من خطاب مبسط ولكن ليس بسيطاً. لعبة الأصوليين هل تعتقد بأن السينما قادرة على لعب هذا الدور؟ -أكيد. يجب ألا نقع في الفخاخ. بعض الأفلام التي تريد ان تهاجم الأصوليين تلعب لعبتهم ذاتها. إذا انتقدتهم بخفة او شر بالاتكاء على كل الكليشيهات، لن تصل الى نتيجة، وسرعان ما ستفقد الصدقية. تريد المجابهة، حسناً ولكن بقانون اللعبة. أهم شيء التربية وبعدها لا بد من الوقت... لماذا في مدارسنا لا وجود لحصص مسرح وسينما؟ لماذا أطفال في الثانية عشرة من عمرهم يذهبون في سويسرا الى الاوبرا مع انهم لا يفهمون منها شيئاً؟ كل هذا هدفه توسيع اذهانهم. اما في بلادنا فلا شيء من هذا القبيل. أذكر تماماً مقابلة مع رئيسة فنلندا عندما كانت رئيسة الاتحاد الاوروبي، يومها سألها صحافي كيف أصبحوا دولة كبرى على رغم الحرب والفقر، فقالت له لدينا شجر ولا شيء آخر. مصدر الغنى الوحيد عندنا هم اولادنا ولذا استثمرنا في التربية. في بلادنا لدينا ثروات طائلة، ولا اعني ثروات نفطية او ما شابه، إنما ثروات إنسانية، خصوصاً ان متوسط العمر لدينا 25 سنة، وبالتالي نحن مجتمعات شابة خلافاً لأوروبا حيث متوسط العمر 60 سنة. فهل نستثمر في التربية؟ لو اخذت شخصية «عمر» الإرهابي في الفيلم، وقابلته في ال12 من عمره، أنا أكيد ان صفّ مسرح كان سيغير حياته. من هنا لا بد من الاشتغال على الاساسات قبل ان يفوت الأوان. يجب ألا ننتظر حتى يتحول المرء الى ارهابي. عندها لا ينفع شيء، حتى وضعهم في السجون قد يغذي تعاطف الجماهير معهم. ألا يخدم تصويرك الإرهابيين بعيداً من الكليشيهات المعهودة، هؤلاء في معركتهم التي لا تشاطرهم الرأي فيها؟ -أبداً. أردت ان أتوجه في فيلمي الى هؤلاء، وأهز اليقين لديهم وأحضّهم على التفكير. معركتي هي مع أولئك الذين يعتقدون انهم يعرفون. أردت ان ادخل الشك في النفوس وأجعل من يعرف يطرح علامات استفهام. من هنا انسحبت من الفيلم الذي شاركني فيه لوران نيغر، ولم أشأ ان أضع اسمي ككاتب للسيناريو على الشارة، لأنه لم يخرج بالصورة التي أردتها انما كان أقرب الى الكوميديا الخفيفة. بالنسبة إليّ ظل الفيلم غير مكتمل لأنني أردت ان أعالج الموضوع بطريقة رصينة. وكنت بعض الشيء محبطاً لأنني اردت للفيلم ان يكون شيئاً آخر، لكنه حُرّف عن مساره. بعدها بدأت اكتب فيلماً حول الحجاب، لكنه أيضاً لم يبصر النور. ثم التقيت بالممثلين الذين شاركوني «المغضوب عليهم» ورحنا نتحدث عن سبب مغادرتي المغرب واستقراري في سويسرا ووضع السينما في بلادنا. شعرنا بانسجام كبير في ما بيننا، وتعهدنا ان نعمل معاً. تناقشنا كثيراً وأخبرت الممثلين ان لا خبرة لي في عالم السينما، وأن كل رصيدي عبارة عن فيلم قصير ونصف، وأنني لا املك الوسائل ولا الانتاج. في البداية لم تكن لديّ قصة، لكنني قلت لهم ان هناك موضوعاً ارغب في تناوله وسيكون على الأرجح الموضوع الذي سيلاحقني في كل أفلامي: اليقين. لديّ مشكلة كبيرة مع الأشخاص الذين يعرفون. أردت ان اتناول الشك ضد اليقين. هي فكرة مجردة، من هنا كان السؤال كيف أطبقها على موضوع من الواقع يؤثر فينا ويكون مفهوماً للجميع. إذا تكلمنا على صعيد فكري ان الشك قد يقتل صاحبه او اذا استعنت بعبارة نيتشه ان ليس الشك ما يجعلنا مجانين بل اليقين. لو قلت هذا في قرية مغربية نائية سأكون كمن يتكلم في الهواء، من هنا كان لا بد من ان أبسط الموضوع. إذاً، كيف ولدت الفكرة؟ - حادثتان رئيستان ساهمتا في ولادة الفيلم. الاولى، وقعت أثناء زيارتي لشقيقتي في مراكش. اجتمعنا يومها مع الممثلين في احد الفنادق، وكان هناك رجل ملتح يترصدنا بنظراته مثل واحد حقيقي من «المغضوب عليهم». شعرت انه كان يريد ان يقتلني بعينيه، خصوصاً ان شقيقتيّ كانتا جالستين في أحضاني وكنا نغني ونضحك. ولكن، ما ان بدأ أحد الممثلين بتقليد النعامة- وهو مشهد استغليته في الفيلم- حتى بدأ الرجل بالضحك، فقلت في نفسي هم أيضاً يضحكون، وبنيت عليه خيوطاً من القصة. الحادثة الثانية، كنت قرأتها في الصحف حول ارهابي فجّر نفسه في مقبرة في كازابلانكا. يومها الجميع سخر منه، وقالوا يا له من أبله ليفجّر نفسه في مقبرة حتى وإن كانت لليهود. لكنني ذهبت ابعد في تفكيري، وقلت في نفسي لا تنجرف وراء ما هو ظاهر. من قال ان هذا الرجل لم يكن معداً ليفجّر نفسه في مكان يعجّ بالناس ثم عدل عن قراره بعدما قابلته ابتسامة حنونة او وجه طفل بريء؟ من هنا أقول يجب ان نتحرر من أفكارنا المسبقة. وهذا مجهود يجب ان نقوم به. وفي الحقيقة بين هذه القصة وقصة النعامة ولدت فكرة «المغضوب عليهم». يحمل فيلمك قراءات عدة، فبعضهم قد يجده متعاطفاً مع الإرهابيين، وبعضهم يرى انه يحاربهم بسلاحهم. ماذا اردت ان تقول تحديداً؟ - في الفيلم جملة قد تختصر كل ما اردت قوله، نسمعها على لسان إحدى الشخصيات، وهي: «ربما اكون مخطئة، لكنهم ليسوا حتماً على حق». هذا كل ما اردت قوله. لا يمكن ابداً ان يكون هؤلاء «الاسلاميون» على حق وهم يقتلون الناس باسم الدين. نحن نتعلم منذ صغرنا في الاسلام ان الله يمنح الحياة والله يأخذها، وبالتالي لا يمكن ان يتعرض احد للحياة الانسانية. حدثنا عن تجربة تعاونك مع الممثلين؟ - هناك عنصر يبدو ساذجاً بعض الشيء، لكنني أتعلق بالأمور الساذجة. في بلادنا يقال عن الرجل انه ذاك الذي يعطي كلمته ولا يتراجع. وأنا تربيت على هذه الفكرة وأحببت ان أصدقها. حين التقيت الممثلين للمرة الاولى قلت لهم سنلتقي بعد سنة، فهل انتم مستعدون لرفض مشاريع مدفوعة للعمل معي بلا مقابل؟ كان جوابهم نعم. وبالفعل، رفضوا المشاريع المدفوعة. حتى ان احد الممثلين رفض المشاركة في فيلم «عن البشر والآلهة» ليشارك معي. وقال لي انه لم يندم على ذلك. والحق، لم يتقاض اي من الممثلين فلساً، وأعطوني كلمتهم. كانوا جميعاً موجودين في اول ايام التصوير. كانوا يعملون 18 ساعة في اليوم. وكان الممثل المعروف لا يجد حرجاً في تقديم الشاي الى ممثل اقل منه. كان الجو مثالياً للعمل، وأنا سعيد بالتجربة. بين الممثلين تظهر والدتك في احد المشاهد. فهل هي ممثلة في الاساس؟ - والدتي هي التي قدمت المال وكان شرطها الرئيس لذلك ان تكون في الصورة، فمنحتها شخصية سيدة محجبة تكون والدة احدى فتيات الفرقة المسرحية. بعدها عرفت حجتها لذلك. أرادت ان تقول انا المسلمة المؤمنة التي ذهبت للحج 22 مرة، أشارك في هذا الفيلم، لأسلّط الضوء على الانفصام الذي نعيشه في عالمنا وأننا لسنا جميعاً متشابهين. ما رأيك بتأثيرات «الربيع العربي» في السينما؟ - «الربيع العربي» بالنسبة إليّ ايجابي على رغم كل ما يقال من انه تحوّل الى خريف. عندما تكون المياه متدفقة تعرفين انها صالحة للشرب، ولكن حين تكون راقدة تعرفين انك ستهلكين. منذ سنوات والأحوال جامدة في بلادنا! الآن الامور تتحرك. وهي تتحرك في كل الاتجاهات. والمهم انها تتحرك. حتى الآن الاسلاميون ربحوا لأننا هيأنا لهم الطريق، لكن هذا لن يدوم.