تسلمت فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي في صيف سنة 2000، مع بداية الانتفاضة الفلسطينية والعنف الإسرائيلي الذي واجهها، ما حمل أكثر من مراقب عربي على توقع مبادرة أو تحرك أوروبي، لوقف العنف ودفع الحليف الأميركي الى سياسة أكثر توازناً باتجاه الطرف العربي. الا ان هذا لم يحصل، لأسباب عديدة ليست مرتبطة بالسياسة الفرنسية أو بعدم رغبة الديبلوماسية الفرنسية القيام بمساع في هذا الاتجاه. فتولي رئاسة الاتحاد الأوروبي يعني في نظر أوساط وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين ان فرنسا مقيدة بمواقف مختلفة من قبل الدول ال15 الأعضاء في الاتحاد. وتأكيداً لذلك، قال مصدر فرنسي مطلع على نشاط فيدرين ل"الحياة" انه عندما أراد وزير الخارجية تضمين بيان مجلس وزراء خارجية أوروبا في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي اشارة الى مشكلة الاستيطان الإسرائيلي باعتبارها من بين أسباب العنف القائم، توجب عليه العمل على مدى 45 دقيقة لاقناع زملائه الأوروبيين بضرورة الاشارة الى هذه المسألة، والتغلب على مواقف بعض الدول مثل المانيا وهولندا اللتين تتحفظان دائماً على ما من شأنه أن يزعج اسرائيل. وعاد النقاش نفسه ليطرح خلال قمة نيس الأوروبية لدى صياغة بيان القمة حول الوضع في الشرق الأوسط، فرأى رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير ان النص المقترح قاس بالنسبة لإسرائيل، فكان رد فيدرين انه ينبغي التذكير بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية لمدة 33 سنة هي المشكلة الأساسية في المنطقة وان هذا ما تنبغي الاشارة اليه بنص قاس. وأدى احتمال طرح فيدرين لمثل هذا النص على النقاش، الى قبول بلير ووزير الخارجية الألماني موشكا فيشر بالاشارة العابرة التي تضمنها بيان القمة الأوروبية الى مشكلة الاستيطان. وعندما قام فيدرين بجولته الأخيرة، الى كل من القاهرة واسرائيل والمناطق الفلسطينية والأردن، فإنه لم يكن مقتنعاً بجدوى مثل هذه الجولة، ادراكاً منه للقيود الأوروبية المفروضة على موقف الرئاسة الفرنسية للاتحاد. الا ان نتائج جولته كانت أفضل مما توقعه، اذ انه لمس لدى الجانب الإسرائيلي، رغبة في معاودة الحوار مع الفلسطينيين من أجل التوصل الى اتفاق قبل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. وقال فيدرين ان باراك "عازم على الدفاع عن المصالح الشرعية لإسرائيل ولكنه في الوقت نفسه عازم على معاودة الحوار". وأضاف: انه والمنسق الأوروبي لعملية السلام الذي رافقه خلال جولته الى المنطقة انخيل موراتينوس لمسا بعد محادثاتهما مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات ومع باراك، ان شيئاً ما يتحرك على الصعيد السياسي، وان الاستعدادات أصبحت مقبولة بالنسبة لمعاودة الحوار أملاً بالتوصل الى اتفاقية سلام. وقال مصدر مقرب من فيدرين ل"الحياة"، ان الوزير الفرنسي، لم يسمع وللمرة الأولى من عرفات قوله، انه لا يبالي لعودة بنيامين نتانياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، نظراً لانعدام الفارق بينه وبين باراك. وكون عرفات لم يكرر هذا الرأي خلال محادثاته مع فيدرين، اعتبر من قبل الوزير الفرنسي بمثابة مؤشر لتخوف عرفات من عودة نتانياهو واستعداده بالتالي للسعي لمعاودة الحوار مع باراك. وقد عاد فيدرين من جولته أكثر تفاؤلاً مما كان عليه عشية توجهه الى المنطقة، وانتقل مباشرة من عمان الى بروكسيل، للمشاركة في عشاء لوزراء حلف شمال الأطلسي، عمل خلاله على وضع نظرائه الأوروبيين في صورة بائسة لما يجري على الأرض في الشرق الأوسط. كما التقى فيدرين في بروكسيل وزير الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت وطلب منها توسيع جدول أعمال القمة الأوروبية - الأميركية التي عقدت في 18 كانون الأول ديسمبر برئاسة الرئيس جاك شيراك ونظيره الأميركي بيل كلينتون، بحيث تشمل مناقشة الوضع في الشرق الأوسط وذلك عشية وصول كل من باراك وعرفات الى واشنطن. وكان الجانب الفلسطيني طلب من فيدرين ان تعمل أوروبا في اطار مجلس الأمن، على دعم مطلب ارسال مراقبين دوليين الى المناطق الفلسطينية، فيما رفض وزير الخارجية الإسرائيلي شلومو بن عامي هذا الطرح وأبلغ فيدرين ان اسرائيل لا ترغب في تدويل الموقف. وكان رأي فيدرين ان اللجوء الى مثل هذا الموقف حول المراقبين الدوليين، في اطار مجلس الأمن، سيحمل الولاياتالمتحدة على استخدام حق النقض وسيثير انقساماً على صعيد الموقف الأوروبي، واعتبر بالتالي ان هذا الموقف لن يكون مفيداً. لكن الجانب الفلسطيني أصر على هذا الأمر، وقال لفيدرين ان بإمكان أوروبا ودول عدم الانحياز الضغط على الولاياتالمتحدة لتحول موقفها من المراقبين مثلما حصل بالنسبة الى لجنة تقصي الحقائق. وأشار مصدر فرنسي مطلع ل"الحياة" الى ان فيدرين مدرك لانقسامات أوروبا ويعرف نوعية مواقعها تجاه القضية العربية. فهناك في أوروبا بعض الدول التي تولي ملف الشرق الأوسط اهتماماً متوسطاً، ولا ترى داعياً لتدخل أوروبي طالما ان الولاياتالمتحدة تتولى ذلك بشكل جيد برأيها. وتتمثل هذه الدول بالدانمارك وبلجيكا والنمسا. أما الدول الأوروبية التي تهتم بملف الشرق الأوسط فهي تتردد تجاه حث الاتحاد الأوروبي على لعب دور في اطاره خشية ازعاج الولاياتالمتحدة. وهذه هي الحال بالنسبة لبريطانيا وخصوصاً رئيس وزرائها طوني بلير، الذي يسعى دائماً لتجنب ازعاج كلينتون، في حين ان وزير الخارجية روبين كوك لا يشاركه في مثل هذا الأمر. وتشارك ايطاليا، بريطانيا في موقفها الداعي لمراعاة الرئيس الأميركي، في حين تخشى كل من المانيا وهولندا ازعاج اسرائيل على رغم انهما ترغبان بدور أوروبي في الشرق الأوسط. أما الدول الأكثر التزاماً وتعلقاً بملف الشرق الأوسط، فهما فرنسا واسبانيا، اللتان قال المصدر انهما قد تطمحان الى التزام أوروبي أكبر والى تحرك أوسع ولكنهما مقيدتان بعدم رغبة الأعضاء الآخرين بمثل هذا التحرك. وأضاف المصدر: ان السويد التي ستخلف فرنسا في رئاسة الاتحاد الأوروبي في كانون الثاني يناير المقبل، كانت لديها تقليدياً سياسة داعمة للعالم الثالث منذ عهد رئيس الوزراء الراحل اولوف بالمة، وان وزيرة خارجيتها الحالية لا تزال على هذا التوجه في حين ان رئيس الوزراء الحالي غولان يدسون مقرب جداً من اسرائيل، وليس على نفس الخط مع وزيرة خارجيته. فكثيراً ما يقول ممثلو الاتحاد الأوروبي انهم يريدون دوراً أكبر لأوروبا، وكثيراً ما تقول لهم فرنسا ان مثل هذا الدور يستدعي ممن يطالب به أن يتحمل مسؤولياته ويجازف في مواجهة الانتقادات، سواء من قبل الإدارة الأميركية أو من قبل اسرائيل. وهناك عدد كبير من الدول في الاتحاد الأوروبي على قناعة، بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية كارثة، ولكن عندما تدعوها فرنسا للاعلان عن ذلك، فإنها تمتنع في التعبير عن مثل هذا الموقف. وتمثل فرنساوالمانيا، داخل الاتحاد الأوروبي ما يشبه المحرك، لكن هذا المحرك سيفقد بعض قوته لدى توسيع أوروبا، لأن ما ينبغي تحريكه عندها يكون أثقل وزناً. وبسبب هذه القيود، لا يرى فيدرين ان هناك دوراً للاتحاد الأوروبي على صعيد العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، وكان صرح خلال جولته الأخيرة ان بإمكان أوروبا ان تواكب وتشجع جهود الفلسطينيين والإسرائيليين ولكنه لا يمكنها أن تحل محلهم وتأتي بحلول حول صلب المشكلة. ولكنه أوضح ان اسرائيل التي كانت في السابق غير راغبة بأي تدخل أو مساعدة أوروبية باتت تسعى للحوار والدعم من الاتحاد الأوروبي. فانقسامات الاتحاد وصعوبة الوضع على الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أضيفت اليها في بعض الأحيان مواقف غير مشجعة برأي فيدرين، من قبل بعض الدول العربية. فغياب سورية ولبنان عن مؤتمر مرسيليا الأوروبي الذي أزعج فرنسا، خصوصاً وان فيدرين كان خاض معركة مع نظرائه الأوروبيين الذين شككوا في جدوى تخصيص 6 بلايين يورو لمساعدة الدول الواقعة جنوب البحر المتوسط، و4 بلايين يورو لدول البلقان، وفضلوا تحويل كامل المبلغ الى دول البلقان. واضطر فيدرين لخوض معركة مع هؤلاء المشككين ولم يرض بتأجيل موعد المؤتمر، لأنه اعتبر ان تأجيله يعني قتل نهج برشلونة والقضاء على مساعدة دول جنوب المتوسط. ولذا فإنه لم يتفهم غياب سورية ولبنان، حتى ان الرئيس جاك شيراك اتصل بصديقه رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري لاقناعه بضرورة الحضور، لكن الأخير اعتذر كون سورية قررت التغيب. وكان هذا الغياب أحد أسباب عدم زيارة فيدرين الى سورية ولبنان في اطار جولته الأخيرة على المنطقة. والصعوبات الناجمة من التباين في مواقف الدول ال15 الأعضاء في الاتحاد، تدفع أكثر من مسؤول للتساؤل عما سيكون عليه الوضع بعد توسيع الاتحاد بحيث يرتفع عدد أعضائه الى 27 عضواً.