يخلي بيل كلينتون البيت الأبيض في 20 الشهر المقبل مصطحباً معه، على ما يبدو، التفاؤل الذي تميز به عهده، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي. وبدل أن يُسلّم مفاتيح "1600 بنسلفانيا أفنيو" ومعها أطول فترة ازدهار اقتصادي متواصلة في عامها العاشر الآن شهدتها الولاياتالمتحدة، فإنه يترك الحكم لخلفه جورج بوش، وسط دلائل متزايدة الى تباطؤ الاقتصاد، ومخاوف حتى من احتمال تحول "الهبوط الآمن" المنشود للاقتصاد إلى ركود حقيقي في 2001. يشار إلى أن أسواق الأسهم في أوروبا والولاياتالمتحدة لم تكترث لفوز بوش ولم تستقبله بالحماسة المتوقعة، اذ انخفضت الخميس والجمعة الماضيين باقتصاديها القديم والجديد، مدفوعة بقلق من احصاءات متتالية ترسم صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد، ومن تحذيرات تطلقها الشركات الأميركية الكبيرة بأن الأرباح ستنخفض، وجاء آخرها الخميس الماضي من مصرفي "جي بي مورغان" و"تشيس منهاتن"، والجمعة من عملاق برامج الكومبيوتر "مايكروسوفت". لذا يأمل الرئيس المنتخب بأن يتحرك مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الأميركي بسرعة لخفض أسعار الفائدة وضخ سيولة لتطويق مخاطر أي ركود، قبل أن يتسلم منصبه رسمياً، فهو لا يريد أن يوصَم عهده بأنه بدأ بفترة تباطؤ أدت لاحقاً إلى ركود. واجتمع بوش لهذه الغاية مع رئيس مجلس الاحتياط ألن غرينسبان صباح أمس في واشنطن، وتسلم منه تقريراً عن الاقتصاد الأميركي. وفي الوقت الذي يعتقد بوش أن الاشارات إلى تباطؤ الاقتصاد تبرر اقتراحاته لخفض عام للضرائب بما يصل إلى 3.1 تريليون دولار، فإن غرينسبان قال في أكثر من مناسبة إنه يفضل أن يتم صرف الفائض في الموازنة الاتحادية على خفض الدين الوطني وليس على خفض الضرائب. ولم يكشف مضمون اللقاء، إلا ان محللين استبعدوا مساء أمس أن يلجأ غرينسبان إلى اتخاذ قرار سريع في شأن خفض الفائدة لدى اجتماع لجنة السوق المفتوحة التابعة لمجلس الاحتياط اليوم، للمرة الأخيرة خلال السنة الجارية. لكن الأسواق تنتظر على الأقل تأكيداً من اللجنة بأن الخفض آتٍ. وكان غرينسبان أعلن في 5 كانون الأول ديسمبر أنه يتعين على مجلس الاحتياط أن يبقى متنبهاً لمخاطر تباطؤ حاد في الاقتصاد، ملمحاً، في بادرة غير معهودة منه لطمأنة الأسواق، إلى احتمال خفض أسعار الفائدة. ويتناقض هذا الموقف مع مضمون شهادة شهيرة أدلى بها في الكونغرس في اليوم نفسه قبل أربعة أعوام، عندما حذر من "الحماسة غير المنطقية" في أسواق الأسهم، في محاولة لتهدئة ارتفاعها المتواصل آنذاك. واليوم، على رغم أن الأسواق أعلى مما كانت عليه عام 1996، يتدخل غرينسبان لطمأنتها، مشيراً إلى أنه قد يخفض الفوائد إذا تباطأ الاقتصاد في شكل حاد. ورفعت تطميناته هذه سوق "ناسداك"، التي تغلب عليها أسهم التكنولوجيا، بنسبة 10 في المئة في 6 الشهر الجاري، لكن التفاؤل لم يستمر وعاودت الأسواق الانخفاض، مسجلة تراجعاً أيضاً بعد إعلان فوز بوش. وأغلق مؤشر "داو جونز" الجمعة الماضي بانخفاض 25.2 في المئة، وتراجع مؤشر "ناسداك" 72.2 في المئة إلى 27.2653 بخسارة 9 في المئة في أسبوع. وسبب هذا الشعور السلبي في الأسواق هو التراجع الحاد في توقعات عدد كبير من الشركات مع تباطؤ النمو وبدء نضوب موارد رؤوس الأموال الجديدة. احصاءات بدأت سلسلة الأنباء السيئة مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في 7 تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وتسارعت وتيرتها منذ مطلع الشهر الجاري، عندما أظهر تقرير "الهيئة الوطنية لإدارة المشتريات" في الولاياتالمتحدة NAPM، أن النشاط الاقتصادي في القطاع الصناعي تراجع في تشرين الثاني، للشهر الرابع على التوالي، وان مؤشرها للمشتريات انخفض إلى 7.47 من 3.48 في تشرين الأول اكتوبر. ومعلوم أن مؤشراً فوق 50 يعني نمواً، فيما يدل أي رقم تحت 50 الى انكماش. بعد ذلك، أعلن "مجلس المؤتمر"، وهو مجموعة للأعمال مقرها نيويورك، أن المؤشر الجامع للمقاييس الاقتصادية الرئيسية انخفض إلى 5.105 في تشرين الأول، بانخفاض 2.0 في المئة، بعدما شهد استقراراً في أيلول سبتمبر وانخفاضاً بنسبة 1.0 في المئة في آب اغسطس. وتراقب الأسواق هذا المؤشر لأنه يدل على التوجه العام للاقتصاد في الأمد القريب إلى المتوسط 3 إلى 6 أشهر. إضافة إلى ذلك، انخفضت مبيعات البيوت بنسبة 6.2 في المئة وفقاً لوزارة التجارة، ما يعزز فرص خفض أسعار الفائدة لتنشيط هذا القطاع. من جهة أخرى، ذكرت الوزارة أن مخزون البضائع لدى تجارة الجملة نما بنسبة متواضعة بلغت 3.0 في المئة في تشرين الأول، مقابل نسب نمو قاربت 1 في المئة في عدد من الأشهر الماضية، في إشارة أخرى إلى تباطؤ. يضاف إلى كل ذلك ما نشرته وزارة العمل الجمعة الماضي عن التضخم، اذ ارتفع مؤشر سعر المستهلك، المقياس الرئيسي للتضخم، بنسبة طفيفة 2.0 في المئة في تشرين الثاني، للشهر الثاني على التوالي، ما يعزز التوقعات بخفض الفائدة نصف نقطة مئوية مطلع السنة الجديدة، طالما أن التضخم قيد السيطرة. ويقول محللون إن هدف السيطرة على التضخم قد يفقد الأولوية لدى مجلس الاحتياط، فيما يركز أكثر فأكثر على مسألة التباطؤ لضمان ان لا يتباطأ الاقتصاد بنسبة أكبر مما هو مطلوب منه. غرينسبان في خضم هذه التقارير وقبل الأرقام عن المخزون والتضخم، جاءت تطمينات غرينسبان، الذي رأى أن الاحصاءات الاقتصادية يجب ألا تثير الذعر، معتبراً ان الاقتصاد يتجه نحو "هبوط آمن" أو "ناعم" Soft landing، وانه بعيد عن أي انهيار، وان التباطؤ الحاصل الآن مدروس. وبدا واضحاً من كلام هذا المصرفي الجمهوري عُين في ولاية ريغان الثانية، فجدد له بوش الأب ثم كلينتون ان مجلس الاحتياط مستعد لخفض أسعار الفائدة إذا تراجع الانفاق أكثر من اللازم، أو إذا انخفضت أسعار الأسهم بحدة. ومعلوم ان مجلس الاحتياط كان رفع الفوائد 6 مرات في الأشهر ال18 الماضية. ويتوقع ان يأتي أي خفض بعد فترة الأعياد. وتقف الفائدة اليوم عند 5.6 في المئة. فرص الركود لكن خفض الفائدة قد يأتي متأخراً بعض الشيء ليمنع أي ضرر، ونقلت مجلة "بيزنس ويك" الأميركية عن كبير الاقتصاديين في "غريفن، كوبيك، ستيفنز اند طومسون" في شيكاغو، قوله "إن فرص الدخول في ركود ارتفعت الآن إلى 60 في المئة"، اذ أنه "حتى لو خفض مجلس الاحتياط أسعار الفائدة اليوم، فإنه لن يستطيع منعه الانحدار، لأن أي سياسة نقدية تأخذ وقتاً للتأثير في الاقتصاد". يشار إلى أن رفع الفوائد في الأشهر ال18 الماضية 6 مرات ب75.1 نقطة مئوية أدى إلى تشدد أكبر في أسواق الاقراض، وتراجع في أسعار الأسهم، ما سيضعف انفاق المستثمرين والأعمال، بحيث يتراجع النمو ربما إلى ما دون 3 في المئة السنة المقبلة، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات عدة. ولا تزال هذه النسبة جيدة قياساً إلى دول عدة، لكن لدى مقارنتها مع متوسط نمو بنسبة 5 في المئة اعتاد عليه الأميركيون، يبدو التباطؤ وكأنه بداية ركود. وإذا خفف المستهلكون الانفاق، وبما أن التشاؤم معدٍ، فقد يتحول التباطؤ فعلاً إلى ركود، بسبب "الصعوبة" التي قد يجدها الأميركيون في التحول بسهولة من زمن ازدهار مستمر في الأعوام العشرة الماضية إلى فترة نمو معتدل!