"سلمان للإغاثة" يوزع 2.459 كرتون تمر في مديرية الوادي بمحافظة مأرب    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    القبض على يمني لتهريبه (170) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    حاكم الشارقة يفتتح الدورة ال 43 من معرض الشارقةالدولي للكتاب    البنك الأهلي السعودي يطلق محفظة تمويلية بقيمة 3 مليارات ريال خلال بيبان24    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشّن فعاليات مهرجان شتاء جازان 2025    بانسجام عالمي.. السعودية ملتقىً حيويًا لكل المقيمين فيها    إيلون ماسك يحصل على "مفتاح البيت الأبيض" كيف سيستفيد من نفوذه؟    "البحر الأحمر السينمائي الدولي" يكشف عن أفلام "روائع عربية" للعام 2024    "ماونتن ڤيو " المصرية تدخل السوق العقاري السعودي بالشراكة مع "مايا العقارية ".. وتستعد لإطلاق أول مشاريعها في الرياض    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    «الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    المريد ماذا يريد؟    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    قصص مرعبة بسبب المقالي الهوائية تثير قلق بريطانيا    صمت وحزن في معسكر هاريس.. وتبخر حلم الديمقراطيين    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    اللسان العربي في خطر    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    التعاطي مع الواقع    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    العين الإماراتي يقيل كريسبو    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يُنظر الى افكار العالم الراهن وقضاياه من منظور "الفردية الكلاسيكية"؟
نشر في الحياة يوم 25 - 01 - 2000

يفتتح تيبور ر. مشان كتابه النظري والاخلاقي بالاعلان عن انه اهتم في العقود الثلاثة الماضية بصوغ تفاصيل موقف في الاخلاقيات والفلسفة السياسية يسمّيه الفردية الكلاسيكية. فيشرحها ويدافع عنها بذكاء، ويساجل ضد خصومها بنبرة لا تختفي منها التبشيرية والدعاوية احياناً.
ومفاد هذا المفهوم كما يشرحه كتابه "الفردية الكلاسيكية - الأهمية القصوى لكل كائن انساني" راوتليدج، ان الكائنات الانسانية مميزة بفرديتها الخاصة بها في العالم الطبيعي، وانها، على الاقل، تملك سمة مركزية واحدة هي الطاقة على امتلاك الفردية العقلانية. لهذا، وما خلا شرط الاعاقة الذهنية، فان الفرد يسعه ان يسيطر على حياته/ حياتها بوسيلة التفكير الفردي، كعملية قائمة بذاتها وكوعي مفهومي.
فاذا كان تحقق وازدهار الكائن الانساني الفرد غرض كل حياة شخصية، فان المجتمع السياسي العادل هو ذاك الذي يجعل بلوغ هذا الهدف ممكنا.
والنوع هذا من انواع الفردية، والذي يميزه الكاتب عن انماط اخرى تضرب جذرها في الفلسفة اليونانية القديمة وفي المسيحية وعند توماس هوبز، تواكب عمل المؤسسات الليبرالية وتعززها.
لكن ما هو العنصر الذي يجعل الاجتماع على قاعدة الفرد والفردية امراً مُشكَلاً الى هذا الحد؟ ولماذا تؤدي الفردية الى استفزاز مفكرين في اليمين، كليو ستراوس، وفي اليسار، كهيربرت ماركوز؟ ولماذا تطول لائحة التهم الموجهة الى الفردية: من الجنوح والمتعوية والتفكك، وصولاً الى الطلاق، بل احياناً الجريمة والاعتداء على الصغار؟
واقع الحال ان الفردية الكلاسيكية تقوم على افتراض مسبق مؤداه ان الكائنات الانسانية يمكن ان تكون مسؤولة عن اعمالها ومبادراتها. فالناس، في العادة، يملكون ارادة حرة، وهذه ليست بمعجزة او ظاهرة سحرية بقدر ما انها جزء من طبيعتهم ككائنات في العالم الطبيعي.
واحد الاعتراضات التي اثيرت في وجه الارادة الحرة أن الطبيعة محكومة بجملة من القوانين، وأساساً بقوانين الفيزياء. فكل شيء منوط بهذه القوانين، ونحن، الكائنات الانسانية، صيغ اكثر تعقيداً لمواد الكون بحيث ان ما يحكم العالمَ المادي يحكم الحياة الانسانية بالتالي. فنحن، اساسا، خاضعون لنوع من السببية يخضع له كل شيء آخر. اما العلوم الاجتماعية فما تفعله هو النظر في تفاصيل هذه السببية وطرق اشتغالها آخذةً في الاعتبار اننا نسخٌ معقدة عن مادة واحدة في آخر المطاف.
بيد ان الطبيعة تتجلى في ما لا يُحصى من حقول، وهي ليست حقولا متمايزة في تعقيدها فحسب، بل ايضا في انواع الكائنات التي تشتمل عليها. وهكذا لا يعود جائزاً الاستباق في اصدار الاحكام تبعا لمخطط سببي ما. ومن ثم فقد يكون في الطبيعة شكل من الوجود ينم عن الارادة الحرة ويستعرضها. وعلى الاقل فوجود او عدم وجود هذا الشكل مسألة ينبغي اكتشافها لا استبعادها على ضوء ميتافيزيق ضيق يحدّ من كل شيء ويردّه الى مجرد تنويعة على أصل واحد. وبهذا المعنى فان اخذ الطبيعة ومكوّناتها بعين الاعتبار لا يقضي حكماً بالغاء الارادة الحرة.
لقد لوحظ ان بعض الفلاسفة الاجتماعيين، وبينهم مثلاً ف. آ. هايك الذي تأثر بدوره بآدم فيرغوسون وبرنارد ماندفيل، قد استنتجوا ان سلوكنا عفوي وغير مقصود. وقد توصلوا الى هذه النتيجة عبر ملاحظة أن الكثير من النتائج المترتبة على الاعمال الانسانية لم تُفكَر ولم تُتوقع عند اتيان هذه الاعمال. ويثير هايك هذه النقطة كي يؤكد انه ما دمنا نبلغ معظم اهدافنا لا سيما منها تلك التي ترقى الى ترتيبات مؤسسية: كاللغة والانخراط في النظام المالي وطرق اشتغال السوق، بشكل غير قصدي، فهذا ما يلغي كل قصدية عن تلك الاهداف نفسها. ولهذا اشتُهر هايك، بين ما اشتُهر به، بتعويله على الآثار "غير المقصودة" للنشاط الانساني. وهو يستشهد بآدم فيرغوسون موافقاً اياه على سكّه عبارة "نتائج العمل الانساني لا نتائج المخطط الانساني". وهذا ما يوحي بانه رأى العمل الانساني "مَسوقاً" اكثر منه "مقصوداً" والمقصود بالقصدية أنه منتَج، جزئياً على الأقل بوسائل تفكير عقلانية.
وقد استعمل هايك تمييزه ليفصل بين الاعمال الحميدة وتلك التي يرى انها مؤذية، اي بين عمليات السوق والتخطيط الحكومي مثلاً. وقد اقنع كثيرين في حقل الاقتصاد السياسي بأن في وسع المرء ان يتصرف يفعل، يسلك... من دون ان يلجأ الى نظرية سياسية عن العدالة او غيرها.
لكن هايك لم يكن الوحيد في هذا التأويل. فالبيئويون، مثلاً، كثيراً ما يشيرون الى ان ما تفعله الكائنات الانسانية قد يكون غريباً عن العالم الطبيعي ومنطقه المفترض. وهذه، بدورها، مقاربة تحاول ان تتجنب التنظير الاخلاقي لمصلحة ما يفترض انه مقاربة علمية.
لكن صاحب "الفردية الكلاسيكية" يعلن ان محاولة التعاطي مع انماط مختلفة من النشاط الانساني، من غير اللجوء الى اي حيّز آخر، ربما كانت مضللة. والحال ان جزءا من الحيز الاخلاقي يبقى قائماً في داخل كل ما هو انساني مهما استبعدناه. فما هو عفوي في الطبيعة لا يمكنه بالدرجة نفسها ان يكون عفويا في الاجتماع.
ابعد من هذا نجد انفسنا مع المقاربة المذكورة عديمي الحيلة حيال الشرور كالمحارق والانتهاكات، ما يفضي بالكثيرين المدفوعين الى تجنب المسائل الاخلاقية وتعقيداتها، الى البحث عن اجاباتهم في علم النفس التطوري او البيولوجيا.
ما الذي نستطيع فعله اذن؟ المدخل هو التوكيد على مبدأ حق الملكية الفردية في المجتمع. وهذا انما يتأسس عليه معيار اخلاقي اذ يكافَأ صانع الخير ويُعاقَب صانع الشر، كما لو انه "يضاف" الى الاول و"يُنقص" من الثاني. فمن دون هذا العون، ولو في الحد الادنى، الذي يوفّره تأسيس نظام الملكية الخاصة، لا يمكن فعل الكثير سياسيا بما ينتج الخير في العالم. فصنع الخير للناس غير ممكن ان يأتي الا من اناس فرديين، فاذا اتى من غير فرديين اعطى نتائج معاكسة، على ما تدل التجارب التوتاليتارية الكثيرة "لمصلحة الشعب".
ان كافة اشكال اللاخلاقية هي تنويعات على اللاعقلانية، بمعنى انها تطول فهما مشوشا للطريقة التي تجري الاشياء بموجبها مثلاً، رفض أن يُرى ان الناس يملكون حقوقاً وانهم يستحقون العناية والرعاية. وما دام حيّز الحرية في الحياة كامناً في تفكيرنا، فهنا تكمن مسؤوليتنا الاخلاقية الاساسية في الحياة: ان نفكّر بوضوح وليس بالضرورة بطريقة ثقافية او فكرية، انما كرجال ونساء يقظين، متنبّهين واصحاب وعي. فاين يمكن للاخلاق ان تجد مكانها في الوجود الانساني إن لم يكن في حيز الحرية منه، اي حيث نكون نحن من يباشر السلوك. فالعقل حر: انه ما يباشر التفكير واليقظة لا سيما المفهوميّ منهما. ولهذا فما يلي السلوك، العمل حر بالتالي لأنه مقود بالتفكير.
وهكذا فالفلسفة الاخلاقية التي ينقلها هذا الكتاب وثيقة الصلة جدا بوجهة النظر المعرفية التي ترى ان التفكير شكل من النشاط يمكن ان يقربه المرء او لا يقربه. اما السبب في اننا نستطيع نقد طرق الآخرين في التفكير، فاننا احرار في ان نفعل هذا، افعلناه بطريقة جيدة او سيئة. فالفارق الاساسي في ما يتعلق بالمعايير ذات الصلة بالحياة الانسانية، هو ان حياة الكائنات الانسانية مرتبطة، هي نفسها، بالخيار، وكذلك يرتبط بالخيار تعريفها لذاتها وفرديتها. وهكذا فالمعايير التي تستخدم لمحاكمة ما اذا كان الناس يقومون بعمل جيد او سيء، وما اذا كانوا هم انفسهم جيدين او سيئين، معايير شديدة التعقيد، الا انها اشد ارتباطاً بتفاصيل هؤلاء الناس مما بالمعايير التي بموجبها نحاكم الحياة غير الانسانية.
ابعد من هذا، فحين يقرر الافراد ما الذي ينبغي ان يفعلوه وما الذي لا ينبغي، فهذا انما يعني شيئا غير عادي في نظام المعايير عموما. انه يطول السبب المؤثّر في كيفية اختيار هذا العمل او تجنب ذاك، وليس فقط كيف سيتصرفون في ظل شروط معينة على ما هي حال شجرة او طير. فالبيئة، مثلا، لها في هذه الحالات الاخيرة دور وقوة قد يستحيل ردّهما. واذا كان البشر انفسهم يخضعون لاملاءات بيئية، غير انهم يملكون قدرات واسعة لرد الكثير منها وممارسة خياراتهم التي هم وحدهم مسؤولون عنها.
والفردية الكلاسيكية ليست عديمة الموقف حيال افكار التعدد الثقافي التي تعتنقها اليوم دوائر متعاظمة في الوسط الأكاديمي. فهذا التعدد لا يمكن اداؤه على الوجه الأفضل الا في بلد مؤسس على مبادىء الفردية السياسية، وهي مبادىء مميّزة للتقليد السياسي الأميركي الذي يُستوحى منه معظم سياسات أميركا العامة.
لكن اذا صح أن الولايات المتحدة معروفة على نطاق كوني بتقليدها في الفردية، فالصحيح ايضاً ان معظم المتحمسين للتعدد لا يجدون اي نعت ايجابي يقولونه حول أمّه ومصدره: الفردية. لا بل من الغريب ان الكثيرين ممن يدافعون عن التعدد الثقافي هم اعداء معلنون للفردية، غير منتبهين الى أنهم، بهذا الموقف، يهلهلون الاطار القانوني - السياسي الوحيد الذي يمكن ان يتسع لتعدد الانماط والتعابير الثقافية.
ان الكثيرين ممن يتولون قيادة النقاش المتصل بالافكار السياسية في اميركا، هم آخر من يمكن وصفهم بالفرديين. والحال ان احدى ابرز الحركات الفكرية هناك هي الكوميونيتيرية، وهي فلسفة سياسية جعلت نقد الفردية من معالمها. فهمّ هذه المدرسة ليس "الخيار" و"الحرية"، بل "الارتباط" الذي هو "رابط اخلاقي يشد اطراف الجماعة في لحظة تهديد لها". اما ضمان حقوق الافراد فليس عندها امرا حيويا للجماعة الصالحة. وبدورها فوظيفة السياسة انما تتمثل في تطوير خطط "تزرع في المواطنين صفة القابلية لممارسة الحكم الذاتي".
وهذه الحركة يقودها روبرت بيلاه وزملاؤه الذين ألّفوا "عادات القلب: الفردية والالتزام في الحياة الأميركية"، وخصوصاً منهم البروفيسور أميتاي أتزيوني الذي كتب "روح الجماعة". وثمة بين كبار سياسيي الولايات المتحدة، كنائب الرئيس آل غور ووزير العمل روبرت رايخ، من يسمّون انفسهم كوميونيتيريين، كما ان الكتلة الاكبر من الكتابات الاجتماعية، الاكاديمية والشعبية على السواء، كوميونيتيرية بطريقة او اخرى. ولا يؤتى بجديد اذ يقال ان الانتخابات الرئاسية الاميركية هي بامتياز مناسبة احتفالية بالعائلة لا بالفرد. اما الفردية التي نص عليها اعلان الاستقلال والدستور فتتراجع اهميتها، او على الاقل، يتراجع التوكيد عليها. والادبيات التي تتناول الرفاه كفّت تماماً عن الاشارة الى ان رفاه الفرد هو ما يفضي الى الرفاه العام. وهناك، في المقابل، كلام كثير عن الرفاه الخاص "في مقابل" الرفاه العام، او الرفاه الفردي "في مقابل" الاجتماعي. وشيئاً فشيئاً عدنا الى التأويل القديم حيث الفردية رديف للاجدوى والانانية والتهتّك.
وبكلام عام، فان ما تزعمه التعددية الثقافية والاثنية ان كل ثقافة، وبغض النظر عن مدى "لا عاديتها"، او طابعها العدائي في نظر افراد لا يدينون بها، تستحق الاحترام. والمدخل الابرز الى العلاقة بين الاخلاقيات المدنية والعامة الاميركية وبين التعددية الثقافية، هو ان التعدد الثقافي انما كان دائماً جزءاً من المجتمع الفردي الاميركي، وهذا بالضبط ما اتاح لاميركا القابلة بالجميع على هيئة هوياتٍ عامة او فردية، ان تصير ما صارته. الا ان التعدديين الذين يرفضون هذا التأويل انما يميلون الى النظر الى الفردية كمجرد منظور ثقافي آخر هو من نتاجات الثقافة الغربية. وفي نظرهم يبدو الاعتراف بان الانظمة السياسية الفردية هي الافضل للحفاظ على التنوع الثقافي، نوعاً من اقرار بالامبريالية الثقافية وتزكية لها.
وحتى في الولايات المتحدة ينحسر ميراث الفردية لصالح ضجيج وجلبة حول الهويات الجمعية. فالسود تُربط قضيتهم المزعومة واحدةً جامعةً بهمّ التحرر الأفرو أميركي، فيما الافراد الذين لا ينسجمون مع هذا الطرح يضحون عرضة للادانة. اما النساء، لا سيما في البيئة الجامعية، فيُطالَبن بالتكيّف مع هذا الضرب او ذاك من النسوية، والا غدون خائنات لاخواتهن في الجنس. وبين فينة واخرى يظهر اكاديمي متسرّع او مؤرخ سطحي ليرد الاميركان البيض الى هوية قطيعية قديمة، كما لو ان الافراد لم يظهروا قبلا، او كما لو ان الذين التقاهم كولومبوس كانوا، في الاصل، جسماً واحداً لا تفاوت فيه. وفضلاً عن المجموعات التي تسأل المطابقة المرتكزة على تعريف اثني او جنسي، هناك النقابات العمالية، والروابط المهنية كروابط المعلمين والفنانين والمحامين والمزارعين، ومئات الجماعات التي تماهي نفسها مع هوية عليا تستدعي الولاء.
وهكذا ففيما كان المفترض في الحكومة الاميركية ان تخدم الافراد الاسياد، تراها هذه الايام تتجه اكثر فاكثر وجهة توزيع الثروات الجمعية والخرافية على مجموعات المصالح الخاصة وهي كثيرة.
مع هذا يبقى ان الجماعات المختلفة، التي تجمعها همزات وصل ثقافية او اثنية، عرقية او دينية، قابلة للازدهار في اميركا والبلدان الغربية، وللتعايش مع ما عداها اكثر من بلدان اخرى. والسبب هو عراقة التقليد الفردي، برغم كل شيء، في البلدان المذكورة.
والحال انه مهما تعرضت الفردية للنبذ بوصفها مجرد انحياز آخر الى الثقافة الغربية، الا انها اساساً اكتشاف فلسفي وانساني كامل، كما انه توكيد اخلاقي - سياسي صدف ان ظهر في العالم الغربي.
اما في ما خص الاتجاه النسوي، فتعارض الفردية الكلاسيكية بعض الدعوات الى تحميل الجنسين الاعباء التي يتحمّلها جنس واحد. ذاك انه ما من مبرر للمطالبة ب"فرض" هذه المعادلة على البشر جميعاً من دون استشارتهم. فالمثالات، ومنها هذا، اهداف اخلاقية ينبغي العمل بموجبها، الا ان فرضها يلغي الخيار الاخلاقي الدافع الى العمل بموجبها. ثم ان المثالات يحتمل ان تنطوي على انكار لتعددية الحياة، او قفز فوقها، ومن ثم تعدّ للفردية. والتناسق بين افراد جماعة انسانية، ولو في المثالات، يبقى مستحيلاً، وبالتالي قابلاً للتحول حلماً خطيراً. ذاك ان ميزة الجنس البشري تكمن، تحديداً، في الدور الكبير الذي تلعبه فردية الفرد في حياة كل واحد من افرادها. فلئن قال كارل ماركس ان "الجوهر الانساني هو الجماعية الحقيقية في كل انسان"، ردّت الفردية بان الجوهر الانساني انما هو فعلياً الفردية الحقّة في كل انسان.
بيد ان حل المشكلات التي تسترعي اهتمام النسويات اعلى احتمالا بكثير في ظل الفردية النامية مما في ظل الجماعية. فالنسوية لم تتعرض لاضرار كتلك التي عرّضها لها النظر الى النساء كجسم واحد موحّد. ذاك انهن، مثل الرجال، افراد لكل فرد فيهن طاقات مرشحة للنماء ومستحقة له. وفي المعنى هذا فان الفكرة الفردية عن الحقوق الانسانية الاساسية في الحياة والحرية والملكية اسهمت في تقدم الرفاه البشري، للنساء كما للرجال، اكثر من اي فكرة اخرى جاد بها التاريخ السياسي والايديولوجي.
ان احد اوجه الفردية يتعلق، بطبيعة الحال، بميراث الحقوق الطبيعية بمعناها اللوكي نسبة الى جون لوك. وتبعا لهذه المدرسة في الفكر السياسي فان هدف الحكومة المدنية حماية حقوق المواطن في الحياة والحرية والملكية. فالحقوق الانسانية انما ترتكز على خاصيات كونية، وهذه الاخيرة تشتمل بالضرورة على الحريات الاساسية التي على الناس ان يحموها كيما يستطيعوا ان يختاروا بانفسهم ما يرونه مفيدا في سائر مجالات الحياة، بما في ذلك اتباع او عدم اتباع معايير ومسلّمات ثقافية ومعتقدية سائدة.
واذا كانت فكرة تمتع الحيوان بالحقوق ترقى، اقله، الى القرن الثامن عشر، اذ اقترح جيريمي بنثام تشريعا خاصا بالتعامل الانساني مع الحيوان من دون ان يتوصل الى الدفاع عن "حقوق للحيوان" بصفتها هذه، فان الفكرة لم تغدُ الا مؤخرا موضوعا استقطابيا يلتف حوله موالون نشطاء، بمن فيهم مثقفون جديون وفلاسفة اخلاقيون وسياسيون. لكن هذا التحول حصل في بلدان يُحترم فيها اصلا مبدأ الحقوق، بحيث رأى، مثلاً، البروفيسور توم ريغن في كتابه المهم "قضية حقوق الحيوان" ان فكرة الحقوق الطبيعية متجانسة وقابلة للمدّ الى عالم الحيوانات العليا. واذا كان التقليد السياسي الذي يصدر عنه ريغن لوكياً، الا انه لا يوافق على ان الطبيعة الانسانية مقصورة على الانسان بالضرورة.
بيد ان الكائن الذي يفكر، والحر، بالتالي، في التحكّم بدوافعه وحوافزه وميوله، هو الذي يمكن ان يكون مسؤولا عن نفسه وعن نتائج اعماله. وهذا ما يجعلنا، نحن البشر، متفرّدين كما يبعث فينا القلق في صدد من نحن وعلى ماذا ننطوي. وغني عن القول ان هذا ما لا دخل للحيوانات او الآلات فيه. وقد يبدو من علامات تحضّرنا ميلنا الى اشراك الحيوانات والآلات في حقوقنا، الا انه لا ينفعنا كثيراً نكران المواصفات الخاصة بنا كنوع بشري، والبناء على هذا النكران. فاذا ما ابتدأت الكومبيوترات والحيوانات غير الانسانية في التساؤل وعقد المؤتمرات واقامة المختبرات حول الذكاء الانساني وحقوق الحيوان او ما خلا ذلك من مواضيع خلافية، امكن إذّاك التفكير بجدية في مساواتها بنا وفي فقداننا تفرّدنا.
ان تمتع الافراد بحقوق الحياة والحرية والملكية يعني، في ما خص اعضاء المجتمع الانساني، فقدان اي حق في القتل او الاغتصاب او السرقة. ذاك ان الحقوق المذكورة والسلبية تفرض على اصحابها واجبات ملزمة وقانونية تحظّر هذا التصرف او ذاك بحق افراد آخرين وبحق حيّزاتهم الشخصية. اما الحقوق الايجابية فهي، في المقابل، فهي ما ينبّه الى الواجبات الطوعية في خدمة الافراد الآخرين ممن يتشكّل منهم المجتمع. غير ان هذه الحقوق الاخيرة ليست اساسية، بمعنى انها تنبثق من اتفاقات الافراد المعلنة او المضمرة إما بتعاقد او باعادة انتاج عرفية، كما تكون اقرب الى المنافع، شأن التعليم والخدمات الصحية. فالفارق، هنا، ان الاخلال بالحقوق الأساسية، السلبية، في الحياة والحرية والملكية انما يُخل بالحيّز الفردي للتشريع الاخلاقي، وهو ما لا يطوله الاخلال بالحقوق الايجابية التي ترتبط بالمنافع ورغبات تطوير الحياة.
واذا كان احترام حقوق الآخرين لا يفتقر الى المضمون الاخلاقي، الا ان هذا المضمون لا بد ان يكون بالتعريف سلميا، يحافظ على حياة الجماعة وامنها فيما يشتغل بانسجام مع التفاعل الانساني وانمائه. وهذا العقد الضمني الملزم لا يستبعد القسر لحمايته في لحظات تعدّيه وتجاوزه.
واذا تواجهت الفردية مع ما يسميه مشان "الميتافيزيقيات الماركسية"، سجّلت عليها مآخذ منها الغاؤها الفرد الانساني كوسيط فاعل في عملية الخيار، وهو الالغاء الذي يؤدي، بين ما يؤدي اليه، الى الحاق الهزيمة بأصحابه أنفسهم، فضلاً عن تجهيلهم على نحو ما تفعل الماركسية النظرية اذ تلغي ادوار المثقفين الافراد لمصلحة "قوى موضوعية". وهذا مع العلم ان معظم الماركسيين الذين حفظ التاريخ اسماءهم وسجّل ادوارهم، واولهم ماركس، كانوا مثقفين لا عمالا او اي شيء آخر.
ثم انه اذا كان مما لا يجوز انكاره ان صدامات كبرى في التاريخ الانساني، كالثورات البورجوازية وانتفاضات العبيد، قد رسمت للبشرية اللاحقة خط تقدم مفيد ومثمر، الا ان قسر حركة التاريخ والتقدم على الصراع ليس بالأطروحة المبرَرة دائماً. والملحوظ ان الكثير من التقدم انما حصل بالتسويات والتفاوض والتعاون، وهو ما يغدو اكثر فاكثر شيوعا مع الزمن. وهذه النزعة التلخيصية التي ينطوي عليها الديالكتيك الماركسي انما تسيء اليه كمنهجية رصينة. وقد بيّن التاريخ ان الكثير من فرضياتها حول المجتمعات القديمة لا تُحمل كثيراً على محمل الجد. ومن ذلك ان قلة قليلة فقط من تلك المجتمعات "البدائية" هي التي قامت على علاقات مشاعية في المُلكية، كما لم تكن القَبَلية في المجتمعات الما قبل تاريخية على وحدة وانسجام نسقيين كاللذين تسبغهما الماركسية عليها.
الى ذلك فنوع المادية الذي نجده في الماركسية ليس الاداة الصالحة لفهم الواقع وحركته. فماركس، مثلا، لم يدرك ان بعض الكائنات الطبيعية تملك القدرة التي تتسبب بأفعالها: لقد رأى، في المقابل، ان الافراد الانسانيين هم، في النهاية، سلبيون حيال سياق تاريخي مقرر سلفاً. وكم كان كارل بوبر مصيباً في تخطئته "قوانين" ماركس للتاريخ، اذ الكائنات الانسانية التي تملك طاقة فريدة على تحريك نفسها ومحاكمة افعالها والحكم على سلوكها، لا تتحرك بمحض قوى غير شخصية. واما بساطة نظرية التقدم فجعلت الامور اسوأ اذ استبعدت الانتكاسات الكبرى في التاريخ التي جعلت شعوباً وافرادا كثيرين يعيشون اسوأ مما عاش اجدادهم.
ان سمة مركزية في "الفلسفة البورجوازية" التي هي، هنا، "الفردية الكلاسيكية"، تقول بعدم اخضاع الحياة الانسانية للتكهنات. ذاك ان الافراد الانسانيين يملكون طاقة الخيار والتقرير في ما خص حيواتهم وما سيقومون به.
بطبيعة الحال يمكن للمرء ان يقدّر اتجاهات عامة ترتكز على عادات معروفة جيداً في الذهنية والنشاط، فضلا عن القيود التي تفرضها الطبيعة والقوانين. الا ان مدى تجاوب الكائنات الانسانية مع هذه القيود، وكيف سيطبّقون مجددا عاداتهم او يشذّون عنها، والمدى الذي سيبلغونه في تغيير قوانينهم، فهذا ما لا يمكن الاجابة عنه مسبقاً، اي قبل العمل والمبادرة. وربما كان الخطأ الأفدح الذي ارتكبه العلم الاجتماعي المعاصر أنه بنى توقعاته، كما عززنا بالآمال، متجاهلاً ملامح الحياة الانسانية الموصوفة اعلاه. والحق ان الهندسة الاجتماعية لا يمكنها، على العموم، ان تصل الى امكنة بعيدة ما دام في وسع الافراد، بذكائهم وقدراتهم، ان يحبطوا خطط المهندسين ورؤاهم.
ولدى تطبيق هذه الفرضيات والحدود على بقعة كأوروبا الشرقية، تنتقل من التوتاليتارية الى الرأسمالية، يُلاحَظ ان الكثير من المشكلات التي كُبتت مدة سبعين عاماً في روسيا، واربعين في باقي بلدان المعسكر السوفياتي، سوف تندفع عشوائياً الى الصدارة وتتطلب الحل، قبل ان يستطيع هذا الجزء من العالم اللحاق بالغرب. صحيح ان هذا الاخير لديه حصته من المشكلات التي يتعامل معها، غير ان عددا من العادات الذهنية والسلوكية سقط في الغرب ولم يعد مقبولاً في متنه العريض بصفته قيماً ومعايير: ومن ذلك العِرقية والجنسية والتمييز الاثني والتعصب الديني. وهذه لا تزال مقبولة عموماً في الشرق. وهناك قيم لا تزال مشتركة بين قطاعات واسعة من شطري العالم، كاحتقار التجارة والنظرة بدونية ايديولوجية على الاقل للبيزنس. لكن الشرق يستطيع ان يتعايش مع هذه المواقف اقل كثيرا مما يستطيع الغرب، حيث يختلف حجم الرقعتين اللتين تشغلهما الرأسماليتان كما تختلف وتيرتهما.
ومن اجل اطلاق حركة تقوم على التجديد الدائم، لا بد للشرق ان يتعلم ما بدأ الغرب ينساه، وتحديداً: انه لا يكفي اعتماد الرأسمالية كمجرد حل اقتصادي وتقني. فالمطلوب هو ان يتشرّب المجتمع واجندته القانونية الفرديةَ الكلاسيكية، وان يتم ذلك من داخله الثقافي. فهذه الاخيرة اهم بكثير من مجرد دواء عابر حتى اذا عادت الارقام تؤكد نجاح الاداء الاقتصادي تم التخلي عنها والعودة الى قيم جماعية "تقليدية".
واذا كان الهجوم على السوق الحرة يبطّن دائماً هجوماً على والفردية، فهذه لا تعدم الرد المتطرف ومؤداه انعدام كل مبرر للتشكيك بالسوق من قبل اولئك الواثقين بحكمة البيروقراطية "العلمية" في الاشراف والتنظيم والرقابة. فاذا كان الرجال والنساء الذين يعملون في السوق، وبموجبها، والمحكوم عملهم بمبدأ الحق الطبيعي للجميع في الحياة والحرية والملكية، عاجزين عن التصدي للتحديات الاجتماعية والبيئية وغيرها، فما من سبب يدعو الى التسليم بقدرة الوسائل الدولتية على انجاز هذه المهام بشكل افضل. اما افتراض التعارض بين الحقوق الفردية وبين الصالح والرفاه العامين، فافتراض غريب عن منظومة التفكير الفردي. والراهن ان هناك انسجاما، بل تطابقا، بين حماية الافراد وبين تعزيز الجماعة ومصالحها. فاذا ما نشأ تعارض كان مصدره سوء فهم او سوء قصد، مؤسسين على التعامل مع "الجماعة" بصفتها مصدر منفعة للبعض بدل ان تكون خلاصة الجميع ومنافعهم. ولأن صالح أي فرد، في ظل سياق قانوني، لا يتعارض مع صالح فرد آخر، فالخلاصة ان صالح الافراد من داخل اطار الحقوق الفردية هو ما يعود على الجماعة باكبر نفع ممكن.
ان دفاع الحقوق الطبيعية عن السوق الحرة ينهض على ادراك حقيقة ان طبيعة الكائنات الانسانية فردية جوهريا. وهذا ما يفضي، استطرادا، الى ان المقاربة الاجتماعية انطلاقا من الحقوق الفردية هي الاكثر طبيعية، اي انها الاكثر قابلية للتكيف مع الطبيعة الانسانية.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.