سعود بن بندر يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية لهيئة تطوير المنطقة الشرقية    إسرائيل تستبق وقف النار.. اغتيالات وغارات عنيفة    الكشافة تعقد ندوة الاتجاهات التربوية الحديثة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    التعليم : اكثر من 7 ٪؜ من الطلاب حققوا أداء عالي في جميع الاختبارات الوطنية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    من أجل خير البشرية    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    المملكة تستضيف المعرض الدوائي العالمي    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يعيش "الغرب"مرحلة انتقال الى سياسات عالمية جديدة وخيال اخلاقي آخر ؟
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 1999

ماذا لو تخيّل الذين عاشوا في زمن تهيمن عليه القبائل والعشائر الاولى، أن زمناً آخر تحكمه الأديان التوحيدية سوف ينبثق؟ وماذا لو ان ابناء هذا الزمن الأخير، تكهنّوا بعالم مؤسس على الدول القومية؟
البعض يسمي، اليوم، هذا الضرب من التأمّل علماً مستقبلياً، والبعض يسميه طوبى. لكن المؤكد، كما يرى مايكل اغناتييف، اننا في صدد مرحلة انتقالية تنشأ فيها معايير جديدة للسياسة، فتتقدم اسطورة لتحل محل اسطورة اخرى، وتزحف علاقات وقيم تحتل الرقع التي تُخليها علاقات وقيم اصابها التعب.
ففي "شرف المحارب: الحرب الاثنية والضمير الحديث" فنتدج، يتساءل الكاتب عن السبب الذي يجعل امم الغرب تقدم على مغامرات هدفها "احقاق الحق على نطاق عالمي". فما هي، مثلاً، الحوافز التي افضت بالغربيين الى الاشراف على الانتخابات في كمبوديا، ومحاولة حماية الاكراد من صدام، وارسال قوات الامم المتحدة الى البوسنة، واستعادة الديموقراطية الى هايتي، وحمل المقاتلين على التفاوض في انغولا.
والمؤلف يتحدث حصراً عن الغرب الذي يعود اليه الضمير المتصل "نا"، والذي فيه وانطلاقا منه، تتبلور المرحلة الانتقالية التي يضعنا حيال بعض اشاراتها. واذا كانت الحرب الجارية في كوسوفو راهنا تُكسب الموضوع هذا اهمية مضاعفة، فان هاجس اغناتييف يبقى الواجب الاخلاقي بما يتعدى حدود القبيلة والأمة والعائلة، ومن ثم مدى وجود واجب كهذا. فمسألة الكتاب التي تتجاوز الحدث بعينه هي التالية: كيف تأتى أن يصير هؤلاء "الغرباء" الذين لا نعرفهم، "نحن الغربيين"، ولا نعرف عنهم الكثير، احد شواغلنا؟
ذاك انه وعلى مدى التاريخ كانت حدود الكون الاخلاقي هي حدود القبيلة او الدين او اللغة او الأمة. وانما انطلاقا من حس العار نتيجة التلكوء في انجاد الشعوب المنكوبة، شرعنا نواجه ظاهرة جديدة تنمو بين ظهرانينا: الخيال الاخلاقي الجديد والمتسع الانتشار. ففي القرن التاسع عشر كان حاملو هذا الخيال المتعدّي للامة واللغة، حفنةً من الديبلوماسيين والمبشرين والرحّالة، اما الآن فهم ناشطون في مجال الاغاثة والمعونات، وصحافيون اذاعيون وتلفزيونيون، ومحامون في محاكم الجرائم الحربية، ومراقبو حقوق الانسان...
والحال ان خيالنا الاخلاقي تعرض لاتساع متعاظم منذ 1945، وقد عاد بعض اسباب اتساعه الى نمو اللغة وممارسة الاخلاقية الكونية كما تصوغهما ثقافة حقوق الانسان المشتركة بين البشر. وبدوره عمل التلفزيون على محاصرة الجهل بما يجري، ومحاصرة اللامبالاة حياله.
فما من شك في ان التغطية التلفزيونية للمجاعات والحروب كان لها اثر لا يضاهى على تقديم المدنيين الغربيين للمعونات. ففي بريطانيا وحدها تم التبرع باكثر من 60 مليون جنيه لضحايا المجاعة الاثيوبية في 1984 بعد ان عمم التلفزيون صورها. وهذا لا يمنع انتقاد التلفزيون لصمته عن المجاعات قبل ان تصبح من النوع الملحمي، لكن هذا من الانتقادات التي تقر ضمنا بدوره وتدعوه الى توسيعه. بيد ان الاهم ان الشاشة الصغيرة ساهمت كثيرا في كسر الحدود التي تحدّ المواطنية والانتماء الى دين او قومية او لغة بعينها. هكذا كسرت الفضاءات الاخلاقية التي أُغلِق احدها في وجه سواه، جاعلة كل فرد قادرا على التلصص على مآسي الآخرين اينما كانوا. هكذا نجدنا وقد بتنا وجها لوجه مع مصائرهم فيما تقصر المسافات الفاصلة بين الطرفين، اكانت اجتماعية واقتصادية ام اخلاقية.
صحيح ان صور التلفزيون لا تستطيع ان تؤكد كل الاشياء التي يتشكل منها جماع وضع بعينه. انها تستطيع فقط ان تجعل بعض الاشياء راهنة وحاضرة. وفي ما خص صور الحالات المأسوية فان محاكمتها السياسية الضيقة هي وحدها التي تفترض ان التركيز عليها وعلى مآسيها البليغة يحجب الوقائع الاخرى. فهذه بذاتها كافية لاثارة ردة فعل ضميرية قد لا تكون سياسية الا انها ليست عائقاً دون تطوير السياسة واغنائها.
وهذا ليس عديم الصلة بجذور قديمة وبتأصيل في التاريخ، او بالاحرى بتاريخ آمن الاوروبيون، على ضوئه، ب"أسطورة" الكونية الانسانية: اي ان التفاوت من اي نوع كان لا يجيز التفاوت في المعاملة، واننا ملزمون بالدفاع عمن لا تربطنا به رابطة دين او عرق او اثنية. فاذا ارتبطت المسيحية بدم وكوارث لا تُحصى، بقي ان الوعد المسيحي بكونية الخلاص كانت الزعم الاخلاقي الاول في مواجهة القسمة الكلاسيكية للبشر مواطنين وعبيداً. وبدوره حوّل القانون القروسطي العام هذه الفكرة عن هوية جميع الرعايا الانسانيين، قاعدةً واساسا للانظمة القانونية والتشريعية الاوروبية. ومع الاصلاح الديني، غدت الحاجة مُلحّة الى اعادة تفكير الكونية الانسانية التي كانت تجد صورتها الجاهزة في عالم مسيحي موحد، وهو ما حصل في موازاة انشقاق هذا العالم معسكرات متحاربة. فالتشريع الذي طوّره المنظّرون المبكرون للقانون الطبيعي، حاول تقديم قانون كوني لعالم قوانينه واخلاقه بالغة التضارب. وكان القانون الطبيعي معنياً، بشكل مركزي، بتعريف حقوق اولئك الآخرين، كمساجين الحروب والمنتقلين من عهدة بلد الى آخر، ممن وجدوا انفسهم خارج نطاق القانون الملزم لبلد بعينه، بقدر ما وجدوا انفسهم مضطرين للاعتماد على تعاقد اخلاقي يلزم السادة الجدد بهم.
وكانت المسألة هذه من حواشي الحروب الدينية وتفاصيل مشاكلها وحلولها. فعلى اقلام مونتاين وبايل ولوك وآخرين كثر، ظهر مبدأ "التسامح"، بعدما أصابهم تجزيء الهوية الانسانية، دينيا وقوميا وجهويا، بالقرف. كذلك اقرفهم استخدام هذه الهويات الجزئية تبريراً لذبح بشر آخرين وتعذيبهم. وبحسب العالمة السياسية جوديث شكلار، فان الزعم المركزي للتسامح انما هو حرمان الخطايا بحق الله، كالهرطقة والكفر، اية قدرة على توليد خطايا بحق البشر، اذ ما من قانون اعلى يبرر ازهاق الحياة الانسانية خارج القانون.
وبطبيعة الحال اقتصر تطبيق هذه الافكار على الذكور البيض داخل العالم الاوروبي، بيد ان تطبيقها على الشعوب غير البيضاء التي اصطدم بها التوسع الاوروبي نحو شمال اميركا وجنوبها، لم يكن همّاً الا لدى قلة كالكاتب مونتاين والمبشّر الاسباني لاس كاساس في القرن السادس عشر. فاذا لم تستطع اقلامهم ان تحد من اعمال الفتوح والغزوات، ومن القسوة التي رافقتها، الا انها ساعدت في خلق حس الذنب وتحريكه، حتى غدا ملازماً، بهذه النسبة او تلك، لقصة الفتوح الاستعمارية. فاذا ما قسم الاستعمار الاوروبي العالم الى "نحن" و"هم"، بيض وسود او حمر، مسيحيين ووثنيين، متمدنين وهمج، فدائماً مكثت في الضمير الاوروبي كونية مسيحية، ومن ثم قانونية، ترفض هذا التجزيء المراتبي وتتمرد عليه. اما اليوم فنحن لم نخرج تماما من تاريخ الضمير الذي ابتدأ مع رحلة الاكتشاف الاوروبية الاولى، لكن احدى الهزائم الاساسية التي مني بها الوعي المذكور جاءت مع نجاح الحملة ضد تجارة العبيد، ومن ثم الغاء العبودية نفسها، وذاك خلال حقبة امتدت من 1780 الى 1850. واذا جاز ان النوايا وراء تلك الحملات لم تكن ضميرية بقدر ما اهتمت بالتخلص من اكلاف العبودية، والنقص النسبي في العبيد قياسا بالعمل الحر، الا انها اتصلت بالضمير في مقدماتها ولا سيما في نتائجها.
وبدا بعض هذه النتائج وثيق الصلة بموضوع المجاعة. فمنذ ايام آباء الكنيسة الاوائل شكّل موضوع مساعدة الفقراء، وما اذا كان هذا واجبا او عملا تطوعيا او كماليا، موضوعا مركزيا في السجالات حول الاخلاق العامة للشخص المسيحي. فلئن نجم الواجب هذا عن الاحساس بالعدل، صح القول إن حاجات الفقير تعطيه الحق في املاك الكنيسة. وقد اهتم آباء الكنيسة، وبالأخص توما الاكويني، بدور هذا التطور في تقويض مبدأ الارتباط بالمُلكية بصفته اساس النظام الاجتماعي المعمول به. فإذا كان الفقير، من ناحية اخرى، لا يملك اي حق، وكان عليه ان يعتمد حصرا على الاحسان، فإن الكثيرين من الفقراء لا بد ان يموتوا في ازمنة المجاعة.
وفيما دار تاريخ الاخلاقية المسيحية حول هذا السجال بين حقوق الملكية ومطالب الفقراء في المجاعات فان التعاليم المسيحية، ومن ثم القانون الطبيعي الاوروبي، كثيراً ما حدّا عملياً من المطالبة باخلاقية كونية. وكان مرجع هذا الحد وشعاره التوصية القائلة ان على الرجل الثري واجبا احسانيا، لكنه اختياري فحسب، حيال الآخرين الذين في عوز.
وأمكن في خضم المساجلات هذه تشكيل عناصر أولية لنظام اخلاقي يختلف عن الترتيب الهرمي لجهة التقريب والتبعيد. فالمعمول به يقضي بايلاء الاولية لقريب النسب، فالابعد نسباً، فالجار، فالمنتسب الى الدين نفسه، فالمنتسب الى الوطن نفسه، وصولا الى الغريب كحلقة اخيرة. وحتى اليوم لا يزال الغريب هذا، اي الضحية على شاشة التلفزيون، هو الكوكب الابعد في النظام الشمسي لواجباتنا الاخلاقية، الا انه لا يني يقترب.
فالافتراض القائل ان علينا مساعدة الاقرب "منا" او "من بلدنا" و"ديننا"، لا يزال يملك قدرة اقناعية ارفع نظراً لمخاطبته الوعيين "البديهي" و"الواقعي". فهو يستقي مادته من الاعراف والعادات، فضلاً عن نظامي القرابة والملكية والتبويبات التي تترتب عليهما. ولا يتردد اكثر اشكال هذا الوعي انسانيةً في اقامة التعارض بين المعوز الذي نعرفه والغريب المقيم خلف الباب او الذي يطلب من وراء بوابتنا. والأخير، بحسب اعرافنا التقليدية، هو "الشحاذ" الذي ربما كان غربياً، وربما كان خطيراً. أوليس الغجري خير ممثلي هذه الحالة؟
بيد ان التقليد الماركسي اذ واجهته هذه المسألة، اعتبر الاخلاقية الكونية للبورجوازية قناعا للخداع الايديولوجي. فقد حاجّ الماركسيون بان مبدأ عدم القابلية الطبيعية لانتهاك الافراد جميعا بوصفهم كائنات مالكة لحق، مبدأٌ لا يسري الا في مجتمعات تخلصت من العلاقات الرأسمالية. وفي تاريخ هذه السخرية من الكونية البورجوازية يحتل مكانة خاصة رد موريس ميرلو بونتي على الليبراليين الذين انتقدوا محاكمات ستالين الصورية الشهيرة. ففي "الانسانية والارهاب"، رأى الوجودي اليساري الفرنسي ان النقد الانسانوي للعنف السوفياتي محاولة منافقة لانكار العنف المؤسِس للحكم البورجوازي نفسه، كما انه محاولة لنزع الشرعية عن وسيلة دفاع ضرورية في يد الثورة. لقد رفضت وضاعة الانسانوية البورجوازية، بحسبه، ان تفهم ان العنف محرّك التقدم منذ صعود البورجوازية حتى انتصار ثورة اكتوبر. وقد انتمت بعض مقالة الناقد الفرنسي رولان بارت عن معرض صور "عائلة الانسان" الى هذا الهجوم على الكونية البورجوازية، فمطّت حجة ميرلو بونتي ومدّتها الى حيّز الجماليات. ذاك ان احتفال المعرض بالهوية الانسانية الطبيعية للانسان - عضويته في "عائلة الانسان" - هو، في رأيه، ما يحيل الرجال والنساء التاريخيين الفعليين الى الواحدية العَرَضية لهويتهم الحيوانية. وبفعلها هذا فان الصور لم تعمل الا على ادراج العناصر الاساسية للتجربة الانسانية، عملا ولعبا وحزنا ومعاناة، في هالة من الحتمية الابدية. وبهذا فقد ازاحت المعاناة والالم من نطاق الدور والوكالة الانسانيين. وباتباع هذا الخط في النقد، فان عار الصور التلفزيونية عن الرعب، لن يكمن في ما تُظهره، بل في ما تحجبه. ذاك ان ثقافة الصورة البصرية، على ما يقول نقادها، تضفي الاخلاق على العلاقة بين المُشاهد وبين المُعاني، فترتد العلاقة الى تعاطف وشفقة ابدية يحصلان خارج التاريخ. فالتلفزيون يقدم العلاقات الاقتصادية والسياسية بصفتها علاقات انسانية، ويؤكد على العلاقة بين الضمير الغربي وبين حاجات الغرباء في العالم الثالث بصفتها امتدادا للطبيعة الانسانية نفسها. وهذا كله يجري، متخذاً هيئة "الطبيعية"، تحت تاريخ الاستغلال الذي يربط الغرب بالعالم النيوكولونيالي. وعليه فالاحسان الذي يترتب على التعاطف والاشفاق لا يعدو كونه شكلا من النسيان، إن لم يكن اعادة انتاج لامحاء الذاكرة في ما تعلق بمسؤولية الغرب عن اسباب المجاعات والحروب. وما من شك، كما يرى اغناتييف، في ان اواليات الاشفاق خليط معقّد من النسيان ولطافة الاقوياء. لكن يبقى ان صلة تلفزيونات الغرب بهذه الصور اكثر تعقيدا وتضاربا مما يفترضه التحليل المبسط هذا. فاذا كان سهلا ان نحاجّ بان ثقافة الصورة البصرية تؤثر ايقونات الالم على اسهابات التحليل، امكننا القول، بالسهولة نفسها، ان الثقافة اياها لم تقمع تحليل اسباب ما تُظهره الصور. فكل واحد من الملامح الاساسية في المجاعة الاثيوبية مثلا سباق التسلح في قرن افريقيا، ونقص العدالة في نظام تسعير السلع العالمي، وعدم استثمار مؤسسات التنمية الغربية بما يكفي في استصلاح الاراضي، والاصلاح الزراعي واعمال التهجير ومشاريع اعادة الاسكان، وكون الحكام المحليين يهربون من مشاكلهم الضاغطة الى الحروب الاهلية كل هذه الاسباب وثّقها التلفزيون كما لم توثّق في مكان آخر.
والحق، وعلى العكس تماماً مما يذهب النقد اليساري، ان هذا التوثيق رتّب نتائج مغايرة تماماً، اذ تسبب في ظهور بعض المشاعر الآيلة الى خفض درجة التضامن بذريعة ان المجاعة مسؤولية اصحابها المباشرين.
ان تلفزيون القضايا الراهنة لم يخلق هذه الثقافة الجديدة في الفهم والتفهم بين العالمين الاول والثالث، والتي تتوسط عملية التعاطف بين المُشاهد والمُعاني. ما فعله التلفزيون انه لعب دورا شريفا، واحيانا نبيلا، في بناء تفهّم شعبي، استهلالي وناقص، لقضايا التخلف لدى الرأي العام الغربي. فاذا ما كان التلفزيون من ادوات الايديولوجيا البورجوازية، فاقل ما يمكن قوله ان الايديولوجيا المذكورة هي، في ما خص "العالم الثالث"، مزيج معقّد من نسيان ارادي وضمير مثقل بالذنب ونظرة اخلاقية الى الذات وتفهّم حقيقي. والشاشة الصغيرة لا تقمع هذه التوازنات، بل قل الاختلالات، التي فيه، بل تعيد انتاجها بكل زخم اعادة الانتاج وقوتها.
وغني عن القول ان اسطورة الهوية الانسانية، والنظر الى حاجات جامعة وألم انساني يوحّدان المُشاهد والمُعاني، هما بذاتهما مشوبان بالغموض. فالمُشاهد الابيض الذي يوقّع شيكاً يعود بالنفع على ضحية اسود يقيم في مكان ناءٍ، ربما كان هو ذاته سيئاً حيال اسود مجاور له. ذاك ان احدى مسرّات التعاطف انها تجعل المُتعاطف، ولو للحظات، يتغلب على فجوات ضميره الاخلاقي. مع هذا فالامر ليس، كما يقول البعض، مجرد خداع للنفس. بل ان هذا القول تعبير عن خرافة اخلاقية جوهرها الوصول الى "ألم كامل" نشترك فيه مع المُعاني. وهذا لا يتحقق، في نظر نقاد التلفزيون، الا لدى من يُشبهون المُعاني في انتمائه الاجتماعي، او على الاقل الايديولوجي. غير ان الهوية الطبقية ليست اقل اسطورية، ولا اقل خيالية وتوهّماً، من الرابطة الانسانية الكونية. ذاك ان الاخلاقية التي تصدر عنها تشق العالم الى "نحن" و"هم"، الى "اصدقاء" و"اعداء".
واذا صح ان الاخلاقية الاممية المرتكزة على التضامن الطبقي عرفت لحظات مجدها، كما في الفيلق الاممي في اسبانيا مثلاً، الا انها عرفت، ايضاً، لحظات غير مُشرّفة. فعندما كانت الدبابات السوفياتية تتقدم من هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، أُخبر الجنود بانهم انما يزحفون دفاعا عن رفاقهم في مواجهة عدو طبقي رجعي، واحيانا فاشي. فاذا اضفنا كمبوديا وغيرها امكن القول ان احد الاسباب التي تغذي اسطورة الرابطة الانسانية انما هو الاهتراء الذي اصاب باقي الروابط، بما فيها رابط الطبقة، التي غطست في بحور من الدم.
وحظوظ الرابطة الكونية في القرن العشرين ارفع من مثيلتها في قرون سابقة. ف"الانسانوية البورجوازية" للقرن التاسع عشر استمدّت الهامها من الاقتصاد السياسي للتجارة الحرة، من ضمن رؤية الى العالم كمعطى توحّده السوق العالمية، مع الاسترشاد طبعا بمبدأ التقدم. اما الآن فالفكرة تنبثق من المخاوف اكثر مما من الآمال، ومن قلة الثقة بالانسان واستعظام قدرته على الشر، وليس من التفاؤل به وبقدرته على الخير. اما محطات هذا الطريق فهي ارمينيا وفردان والجبهة الروسية واوشفيتز وهيروشيما وفلسطين وفييتنام وكمبوديا ولبنان والسودان ورواندا والبوسنة الخ. انه قرن من الحرب الشاملة التي جعلتنا جميعا ضحايا، اكنا مدنيين او عسكريين، رجالا او نساء، صغارا او كبارا. فنحن لا نعيش في زمن ينقسم عنفه بموجب خطوط قومية او اثنية او دينية. ولئن قُيّض للتقنية الجديدة ان تخلق شكلا جديدا من الحرب ومن الجريمة، اي المذبحة الجماعية، فلقد شاهدنا ايضا نشأة نوع جديد من الضحوية. وبدورهما فالحرب والمذبحة اطاحتا الحدود الاخلاقية للولاءات السابقة التي كانت تحدد اعمال الاغاثة بحصرها في جبهة المتضررين. فاذا اعتبرنا الآن ان من البديهي التعامل مع آلام الاغراب بوصفها مسؤوليتنا، فذلك بالضبط لأن قرناً من التدمير المتواصل جعلنا نخجل من تجزيء الاخلاق تبعاً للهويات، وهو التجزيء الذي افضى الى التخلي عن اليهود في الحرب الثانية. هكذا تُبنى الاخلاقية الكونية الجديدة على نوع جديد من الجريمة: الجريمة ضد الانسانية.
فالمجاعة والحروب الاثنية انما عملت على سحق اعداد هائلة من البشر وردّهم الى وحدات بالغة التساوي وسط انسانيةٍ خام. ففي المعسكرات التي انتشرت في شمال اوروبا الشرقية قبل نصف قرن، تساوى فلاحو بولندا ومصرفيو هامبورغ وغجر رومانيا واصحاب الدكاكين في ريغا. وفي المعسكرات الاثيوبية اندرج في الواحدية نفسها سكان الهضاب المسيحيون وسكان السهول المسلمون والاريتريون والتيغريون والعفاريون والصوماليون. وفي عملية السحق هذه، انقطع كل واحد من الافراد عن العمليات الاجتماعية التي كانت، هي نفسها في الايام العادية، تنقذ حياته وتُديمها. فكل واحد من هؤلاء كان ابناً او بنتاً او ابا او اما او رجل قبيلة او ساكن مدينة او جارا او مؤمنا او ملحداً، الا ان ايا من هذه العلاقات لم تحتفظ بقدرتها على الاعانة مع احتدام الأزمة. ذاك ان المجاعة، كالمذبحة الجماعية، تدمّر النظام الضمني للعلاقات تلك تدميرها كل ما تراكم للافراد من معان ودلالات، وكل تماسك كان يملك الكماليات التي تجعله ينتبه اليه ويصيخ السمع ويجد في تقديم الغوث. هكذا تكف العائلة والقبيلة والايمان والامة عن الوجود كجمهور اخلاقي جاهز للاستماع والانجاد. واذا كان لهؤلاء المنكوبين ان يعوّلوا على خلاص، فان الخلاص لن يأتي الا من قبل الغرباء البعيدين المستعدين للمساعدة، ولو احساناً.
وفي المعنى هذا فان الاخوة الانسانية اسطورة يجعلها تاريخ الرعب في القرن العشرين راهنة وملموسة. بيد ان الحب المتشائم، هنا، ليس موجها الى هذا الشعب او ذاك، بل الى الافراد، ومن ثم الى الشعوب فقط بوصفها حصائل افراد. وعلى المنوال نفسه، لن يكون العداء للعنصرية حصيلة تمجيد متساو للشعوب وفضائلها، بقدر ما يكون جمع شكوك متساوية بها كلها. على ان التحفظ من الشعوب بدل ان يفضي الى نخبوية اريستوقراطية ذات استعداد فاشي دائماً، يفضي، هذه المرة، الى انخراط يومي في آلام الناس احتراماً للانساني من جهة، وتسريعاً لأوضاع أشد ملاءمة لنشأة الأفراد من بين الشعوب هذه.
ومرة اخرى فان التلفزيون احد اهم وسائط المخيلة الجديدة وسطوعها، ومن ثم اداة نوع جديد من السياسة. فمنذ 1945 ادى تضافر اليسر المادي والمثالية والشعور بالذنب الى تعبيد الطريق امام عدد من النشاطات وجماعات الضغط غير الحكومية، كالعفو الدولية، وكاير، وسايف ذي تشيلدرن، وكريستيان آيد، واوكسفام، واطباء بلا حدود وغيرهم. وهؤلاء يستخدمون التلفزيون كجزء مركزي من حملاتهم لتعبئة الضمير وجمع المال. وهذه سياسة وحدتها النواة هي العالم لا هوياته الجزئية. بل هي "سياسة النوع البشري" التي تناضل لانقاذ النوع هذا من نفسه.
اما الجماعات المذكورة فتملك علاقاتها التي تغاير العلاقات الثنائية المعهودة بين الدول: انها تتوسّط صلات مباشرة بين مجموعات ومجموعات وناس وناس من خارج نطاق الدول، محاولةً ان تبني رأياً عاما عالميا يبقي عينيه مفتوحتين على حقوق أولئك المفتقرين الى وسائل يدافعون بها عن انفسهم. وباستخدامها التلفزيون فانها نجحت في حمل الحكومات على ابداء بعض التردد حيال القمع، وبعض الاستعداد لدفع اكلافه. وهي تحاول دائماً رفع هذه الاكلاف ما امكن ذلك، عبر اقناعها الامم الغربية بربط معوناتها بمعايير معينة في السلوك في ما خص حقوق الانسان. وبالنتيجة فان ما يحصل في سجون كيغالي وكابول وبكين وجوهانسبورغ، يغدو بالتدريج من شواغل مشاهدي التلفزيون في الكون بأسره.
والسياسة هذه لا سياسية، بمعنى انها لا تميز بين مضطهَد وآخر تبعاً للرأي، بل لا علاقة لها برأي صاحبه كائناً ما كان. وما ينطوي عليه التلفزيون من تجاوُر في احداث البلدان وصورها، ولكن أيضاً من تجاوُر بين البؤس والقمع وبين الحرية والبحبوحة، يحيله اداة نموذجية لاقامة المقارنات المباشرة، واستخلاص الواقع المزري من زيف الخطاب، او امتحان الثاني امتحانا يكاد يكون آلياً على الاول. بهذا تتجه الكونية الجديدة في تعاليها عن الانقسام الفئوي والحزبي والرأيي، الى الافتراق عن اممية الستينات اكانت يسارية ام يمينية، والتي بدا لها ان من الهرطقة المساواة بين الارتكابين الاميركي والفييتنامي مثلاً. كذلك ففي مقابل جمود النظر الستيني تبعاً لصرامة المعتقد السياسي والايديولوجي، يمكن الآن للجزار ان يُرى وقد تحول ضحيةً، وللضحية أن يُرى وقد تحول، في طور تال، جزاراً.
بيد ان هذه اللاسياسية التي ينقلها التلفزيون، ويلهث وراءها كما يفعل عادةً، قابلة لأن تُرتب آثاراً خطيرة من صنف كراهية البشر. خصوصا وان التلفزيون معني بطبيعته باظهار الجثة لا شرح الآثار الايجابية التي قد تنجم عن المجزرة، او التحدث عن نوايا "تخدم التقدم" ارادها منفذو المجزرة. وفي هذه الحدود يمكن لصيغة "كلهم أسوأ من بعضهم" ان تصير لسان حال المشاهد. بذا يصبح القرف الاخلاقي ملجأ من البشاعة، والقرفُ بديل فقير من إعمال الفكر، كما هو معروف. وهذا ربما كان المحذور الرئيسي للصورة التلفزيونية، الا انها، في آخر المطاف، لا تعمل بديلاً عن مؤثّرات كثيرة اخرى، ولا تدعي انها "خلاص"! فهي شارة انتقال، وكل انتقال يحل مشكلة ليثير مشكلات!
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.