لم يقيّض ل"الفردية" ان تصبح ظاهرة عربية سائدة، او حتى ظاهرة ملحوظة. ف"الفرد" لم يستطع ان يولد اصلا، ولا تمكن بالتالي من قيادة التطور الاجتماعي في ظل كوابح الروابط الموروثة والبنى "القديمة" التي كان التوتر النضالي يعيد انتاجها و"يحدّثها" في صورة مستمرة. فاذا ما تراجعت الطائفة والعشيرة لمصلحة الحزب، تحول الحزب نفسه الى عشيرة لا تقل كبحاً للفرد عما كانته العشيرة الاولى. ومن غير شك عملت الظروف المضطربة للمنطقة، بمعاركها وحروبها وتعبئاتها، على المضي في تأجيل الفرد والفردية. صحيحٌ أن تاريخنا عرف دائماً "أفراداً" تمثّل بعضهم في صعاليك الجاهلية، بل في شاعر "رسمي" كطرفة بن العبد، الا ان فردية هؤلاء ظلت نافرة لقيامها في مجتمع غير قائم على الفردية. أبعد من هذا، وتبعاً لصعوبة تعبير الافراد عن ذواتهم ككيانات مستقلة، وصعوبة قبول مجتمعاتهم بها، لاحت الصعلكة والجنون والشذوذ من مواصفات هذه الفردية، او انها لاحت تهماً دائمة الالتصاق بها. وغالباً ما اقتصرت الفرديات المعاقة على تعابير جسمانية، او على عوارض سلوكية تنضح بالنفور واشهار هذا النفور او استفزاز الآخرين به، فلم تصر اطلاقاً موقفاً عميقاً من السياسة ومن القرار، من الجسم ومن الاخلاق، وقبل كل شيء من الزمن والحياة والموت. وفي المقابل، وتبعاً لضعف التقليد هذا، شاع الالتباس بين الفردية والانانية بصفتها موقفاً غير اجتماعي كلياً، او مضاداً للاجتماع. وغني عن القول ان وضعاً عربياً كهذا لم يشجّع على دراسة الظاهرة التي ظلت، في آخر المطاف، عرَضية وهامشية جداً، فتُرك للمثقفين الغربيين وحدهم أمر درسها. ويندرج في هذه المكتبة عمل الايطالي لورنزو إنفانتينو "الفردية في الفكر الحديث - من آدم سميث الى هايك" راوتليدج. فالكتاب المذكور، وهو نظري بامتياز، دراسة للظاهرة هذه في الغرب، لا من زاوية تاريخها بل من زاوية تاريخ سجالاتها، لا سيما منها الشق المتصل بعلم الاجتماع. والفكرة المحورية التي يدور عليها عمل انفانتينو هي التالية: اذا كان استخدام المفاهيم "الجماعية"، كالمجتمع والدولة والكنيسة والطبقة، امرا جوهريا للعلوم الاجتماعية كما للتخاطُب اليومي، فالسؤال الذي مطروحاً هو: ما الذي يعادل هذه المفاهيم في الواقع الحي؟ فارباب الفردية المنهجية، او الفردية كمنهج، يحاجّون بان العمل الانساني الفردي، بآثاره غير القصدية وغير المتَكَهَنة مسبقاً، هو هذا المعادل الذي يتشكل منه اي مفهوم جماعي وينبني عليه. الكتاب، اذن، مسح موسع للفردية المنهجية في الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، منذ التنوير حتى القرن العشرين، مع التركيز على مصادر التباين وتعابيره ما بين الفردية المنهجية والجماعية المنهجية. ومتن التباين كامن، عند المؤلف، في حقيقة التعارض بين الفردية، بل الليبرالية ككل، وبين افتراض القصد القائم سلفاً، والذي هو أصل التطرف العقلاني. فالافتراض هذا لا يلبث ان ينسى حدوده وقيوده ويسهو عنها. وباشتغاله على النحو هذا يستأصل سائر المؤثّرات الكامنة في الاعمال، كالرغبة والهوى والارادة والمشاعر. ذاك ان "اساءة استخدام العقل"، بحسب تسمية فريدريك فون هايك، ترتبت عليها اكلاف دفعتها الحياة، الفردي منها والجماعي. وهذه الاساءة بمثابة "نقيصة فلسفية" تدفع الشخص المصاب بها الى "الايجابية الفاعلة" اجتماعياً. لكن الذي قاد الى هذا الموقف انما هو عقلانية رينيه ديكارت واتباعه. فهؤلاء الاتباع ممن كان مثالهم الاعلى فولتير، نسجوا مواقفهم على منوال مطالبته باحراق القوانين القائمة شرطا لاعتماد قوانين جديدة صالحة. وهذا، في رأي هايك، منطق ينتصر للطوبى، ولزعم قولبة الواقع الاجتماعي عبر توجيهٍ يمارسه اشخاص مختارون. بيد ان هذا التقليد الفولتيري - الديكارتي وُجد في مواجهته تقليد يناهضه كان اول من صاغه برنارد دو مندفيل وديفيد هيوم ومن ثم آدم سميث. فهؤلاء جميعا رأوا ان المجتمع لا يكون مفتوحا الا اذا انطوى على نظام غير قصدي، رافضين، بهذا، الوجهة الآحادية للحياة الجماعية. لقد آمنوا بان النظام هو ما لا ينبغي ان يمنحه كائن اعلى لرعاياه في المجتمع، اذ النظام يمكنه ان يكون النتيجة غير القصدية لحركة الافراد. وعن هذا تنبع الخطة النظرية التي يمكننا تسميتها "موديل مندفيل - سميث": فالى جانب الاهداف التي يسعى اليها الفرد فرديا وقصديا، فان اعماله تتمتع بغرض آخر غير قصدي، وهو انها تخدم الشروط التي املاها وجود الآخر، بما ينجب حزمة من المعايير التي تنظّم العلاقات الاجتماعية. وبهذا فان نظاماً ما تستحضره حركة الافراد انفسهم من غير ان يعوا ذلك، ومن دون تدخل "العقل الاجتماعي" في تنظيم حركاتهم وتنسيقها. ولآدم سميث عبارة صارت مضرب مثل على هذا النازع: "نحن لا نتوقع الحصول على غذائنا تبعاً لميل احساني عند اللحّام والسقّاء والخبّاز، بل تبعاً لحسبتهم لمصالحهم. نحن نقدم انفسنا لا لانسانيتهم، بل لحبهم لذواتهم، كما لا نحدّثهم عن حاجاتنا بل عن مكاسبهم. فما من احد، الا الشحّاذ، يختار ان يعتمد اساساً على حَسَنة مواطنيه". وهذا لا يجعلنا نتوقع المستحيل والبطولي من الناس، بل نتوقع، في المقابل، الممكن. الاعتراض الاول الذي وجّه الى هذا التأويل انه يحرم الانسان نبله الذي تنبع منه قصديته الحاكمة للتاريخ. لكن الفرد ليس مطالبا بالبطولة والنبل، بل فقط بالسعي وراء مصالحه على نحو لا يتضارب مع سعي الآخرين نحو مصالحهم. الا انه ما دام ان المصلحة هي التي تقود فما الرادع من السرقة؟ والجواب هنا، وهو ما يعيد ربط الفردية بمجتمع المؤسسات، انه لا بد من بناء انظمة ضبط ورقابة توازن نظام المصالح واندفاعها. من الواضح، اذن، ان "موديل مندفيل - سميث" يعطي الاولوية للافراد ويقر بمصلحتهم الشخصية التي تغدو محرّك اعمالهم. وقيام سلطة تراقب وتضبط طريقة اشتغال هؤلاء لا تتم هي الاخرى قصدياً، بل تقيمها طريقة اشتغال الافراد نفسها. والحال ان "اساءة استخدام العقل" لم تستطع ان تلحق بالاقتصاد السياسي، في ايامه الاولى، الاضرار التي الحقتها بعلم الاجتماع، لا سيما علم الاجتماع الوضعي الفرنسي، بكل توكيداته على ان اي مجتمع انساني لن يستطيع، "من دون ذكاء يوجهه"، ان يقوم ويستمر. فسان سيمون دعا الى استحضار "وجهة آحادية للمجتمع"، واوغست كونت رأى ان "ممارسة نشاط عام ومُجمّع هو جوهر المجتمع"، فيما ضمن دوركهايم عدم نجاح الفردية في اعادة تحويل "الارادات كلها" نحو الهدف "الاجتماعي" نفسه. فعلم الاجتماع ولد حاملا فكرة ان المجتمع مطالب بان يكون نظاما قصديا، ينظّمه ويوجهه "ذكاء" خاص. ولهذا كره عتاة السوسيولوجيا الاقتصادَ السياسي فرأوه تجزيئياً، فيما رأى الاقتصاديون في السوسيولوجيا تعميماً يمكن ان يوغل في الطوبى عاجزاً عن الاحاطة بعمل السوق وتفاصيله. والراهن ان عداء السوسيولوجيا للاقتصاد هو عداء المخطط القصدي للاقصدية، اي انه عداء صادر عن عقلانية لا تعني الاقتصار على جعل العقل بالغ التأثير والفعالية، بل تذهب الى ان في وسع العقل الواعي السيطرة على كل حركة وسكنة، وهو التقليد الذي وجد تتويجه في هيغل. واذا كان اكثر من سبب لافتراض التقارب بين ديالكتيك هيغل والوضعية السوسيولوجية لكونت، فهناك اسباب لا تقل لافتراض تأثّر ماركس بكليهما. فهؤلاء جميعاً كرهوا الفرد ورغبوا في دفع الجماعة الى معسه، ومن هنا تحالف منظوماتهم كلها ضد "المجتمع المفتوح". ذاك ان الاخير يستدعي التمييز بين الحقائق وبين القيم، ومن ثم بين التصورات وبين الاوصاف. فاذا صح ان التأويل العلمي يوجب وجود التقييم الاخلاقي، الا ان فصلهما يبقى متوجباً، فلا ينبغي اشتقاق الاخلاق من العلم، كما لا ينبغي افتراضها مصدرا له ولنتائجه. فالعقل، مرة اخرى، لا يسعه تأسيس نظام اخلاقي وقصدي. وما هذا الفصل بين العلم والاخلاق الا قاعدة لتعدد القيم، او للمجتمع المفتوح، بحسب تسمية كارل بوبر الشهيرة. اما وحدتهما فتنتج مجتمعا مغلقا يُستدعى فيه العقل كي يبرر - كما كانت الحال قبل عملية العلمنة - مطلقاً اجتماعيا تزعم جماعةٌ ذات امتيازات النطق باسمه. لقد رفض برنارد دو مندفيل باصرار ان يكون المجتمع متفرّعاً عن "عقد" بين افراد لا يربطهم رابط سابق على العقد هذا. فالمجتمعات، عنده، لا تُصنع أبداً بهذه الطريقة. والشرط الاجتماعي لا يمكن ان يبرمجه اشخاص غرباء عن هذا الشرط اياه، ولا يمكن، بالتالي، لاحد ان يعقل مصلحة لم يعرفها بعد. والتناقض هنا ان "العقد الاجتماعي" يعمل، من جهة، على فصل الفرد عن المجتمع وادراجه في "حالة الطبيعة" حيث يعيش حياته في العزلة. وهو، من الجهة الاخرى، ينيط بهذا المعزول قدرات العقل واللغة التي تحفزه على ان "يخلق" مجتمعاً من خلال التعاقد، علماً ان اللغة والعقل نتاجان اجتماعيان اذا ما امتلكهما الفرد، كان تلقائياً يعيش في مجتمع بما يلغي الحاجة الى اي تعاقد. اما اذا لم يكن يمتلكهما، فانه، في ظل افتقاره اليهما، لن يستطيع الاندراج في تعاقد اجتماعي. ان اجتماعية الانسان هي، بالتالي، نتاج البشر بعضهم مع بعض. ولهذا فعقل الطفل لدى ولادته ورقة بيضاء، يجعلها الاجتماع وحده مخطوطة. بل لهذا فان افكارنا عن البشاعة والجمال، والذكاء والغباء، تملك جذورها في المجتمع. لكن اذا كانت الحاجات لحمة المجتمع، فهل يمكن المجتمع التجاري ان يعيش ويستمر؟ سميث وماندفيل اجابا بالايجاب. مع هذا هناك خطر ناجم عن ان يحاول كل فرد تحويل "التفاعل" الاجتماعي الى كسب كامل لنفسه وخسارة مطلقة لمن عداه. وهنا، مرة اخرى، يناط بالقانون وادوات السيطرة والعقوبات، اجبار الفرد على ان يرفع مستوى سلوكه الى "الحد الادنى" الضروري لاستمرار المجتمع. فالتعاون ينبع، اذن، ومن دون اية خطة مسبقة، من محاولة البلوغ الى الاهداف الفردية. والمعايير، في النهاية، ليست سوى المحصلة غير القصدية لعمليات التبادل التي تلي احداها الاخرى. وهذا يعني، ضمناً، ان سميث وماندفيل كانا تطوريين و"داروينيين قبل داروين"، بمعنى انهما فكرا بموجب ان تقسيم العمل ليس قصدياً، ولا نتاجا لاية حكمة انسانية، بل نتاج اكتشاف البشر لاهميته في سياق حياتهم، وهي اهمية تعاظمت في موازاة تعاظم هذه الحياة وشؤونها. بيد ان النتيجة الاخرى التي تترتب على هذه النظرية أن السياسة أو الدولة ليست المكان الصالح لتوفير الجواب على مشكلة النظام الاجتماعي. فالاخيرة انما تنبع من الشرط الاجتماعي، وهو وضع لا يكون الفرد فيه مكتفيا ذاتيا بل يكون في امس الحاجة الى الآخر. ذاك ان العناصر الاقتصادية - الاجتماعية ليست متفرعة عن السياسة او تابعة لها، فيما السياسة ليست مطالَبة بان تستجيب مهمة بناء النظام الاجتماعي قصديا، او قيادة الافراد نحو مصير مشترك. يبين هذا التحليل ان رغبة الافراد في الوصول الى اهداف شخصية، تبقي المجتمع ممكنا لأن كل فرد في حاجة الى الآخر. بل ان سعي الفرد الى السعادة لا يرتّب بالضرورة اكلافا على غيره، بل يمكن ان يفيد غيره من دون ان يكون ذلك عملا غيرياً او احسانيا. هذا "الانسان الاقتصادي" homo oeconomicus النابعة اقتصاديته من نازع حب النفس وسعيها وراء السعادة، هو من تنجم القيم عن احتكاكه وتعاطيه مع الانسان الاقتصادي الآخر، فيما تتولى الدولة الحد من تحول اقتصاديتهما الى ماركنتيلية بلا حدود. فلا توجد، بالتالي، "بداية" للمجتمع اذ الانسان هو "شارع" وبادىء المجتمع واجتماعه. وبحسب كارل بوبر فان الطفل الذي ينمو وينضج في صحراء لا يستطيع ان يملك ذاتاً، اي اننا لم نولد كذوات، بل علينا ان نتعلم اننا ذوات. فقبل وقت طويل من امتلاكنا الوعي والمعرفة بذواتنا، نصبح على بيّنة من اشخاص آخرين اولهم آباؤنا وأمهاتنا. وبالتالي فالوعي بالذات يبدأ تطوره من خلال وسيط يشكّله وجود الآخرين، فيلعب هؤلاء دور المرآة في رؤيتنا وجوهَنا. وهذا يعني ان الجسم يسبق الوعي والعقل، واستيعاب التقاليد في وضع ما هو وحده ما يحيل الدماغ عقلا. ومن ثم ف"الطبيعة الانسانية" كثيراً ما تتغير بتغير المؤسسات الاجتماعية فيما دراستها تفترض سلفاً فهم تلك المؤسسات. لكن اذا كانت المؤسسات الاجتماعية تعرّف "الوضع" الذي يجد الفرد نفسه فيه، فان اعماله تغدو قابلة للاستشراف من دون ان تكون قابلة للجزم الحتمي بها. فاذا كان لميول الفرد ان تتطابق مع تلك الموروثة من الماضي، الا ان الاحتكاك بالآخرين قد يلحق بها تعديلات كبرى. وهذا بالضبط ما يتيح للاجتماع ان يقوم، وان يكون مرناً، بما في ذلك الاستجابات الجديدة في سياقات تاريخية متغيرة. لهذا ينكر النهج الفردي وجود "الذات النقية" كما ينكر وجود انسانية تقوم في مقابل تغييب الافراد، على ما رأى اوغست كونت ذات مرة، او تقدم الحضارة تبعا لقانون. والسؤال هو: من اين يأتي قانون التقدم؟ فرفض وجود الفرد غالبا ما سار في موازاة قرار، علني او ضمني، مفاده ان شلة من الافراد يعرفون اكثر من غيرهم مصالح الآخرين، ويمكنهم ان يقودوا هؤلاء الآخرين اليها. والزعم بان من الممكن الحاق حياة جماعية بوجهة واحدة آحادية، هو ما دفع كونت الى التوكيد على ان ما من مكان للصدف في مجتمع احكِمت اعادة تنظيمه. وقد سبق لهيغل ان اعتمد الموقف نفسه من الصدف، فيما لم يبتعد ماركس كثيرا عن الوجهة هذه مُحلاً "البروليتاريا" حيث حلت "الطبقة العلمية" عند كونت. بيد ان التاريخانية الماركسية تذهب خطوة ابعد اذ تشتق الحرب الاهلية من عملية الانتاج. بعد ذاك كان الموضوع الاول الذي استرعى اهتمام دوركهايم العلاقة بين اجتماعيات السوق وبين النظام الاجتماعي. فب"الاستغراب" او التوحيش ونزع الانسنة و"عدم الاستيعاب" حاول السوسيولوجي الفرنسي ان يستقبل العالم الجديد وتناقضاته و"تقسيم عمل"ه. ومن دون ان يختلف عن هيغل وكونت وماركس، اختار هو الآخر "طبقة عامة" حاملة للامتياز التاريخي. لقد كتب يقول: "ان العواطف الوحيدة التي تنبثق من المشاعر الفردية هي تلك التي تصدر عن افعال وردود افعال لافرادٍ تربط بينهم روابط. فلنطبق هذه الفكرة على التنظيم السياسي. فاذا ما حمل كل فرد، وعلى نحو مستقل، صوته واراد به ان ينشىء الدولة او الاجهزة التي تعمل على اكسابه شكلا محددا، واذا توصل كل فرد الى خياره في العزلة، يكاد يكون مستحيلا على هذه الاصوات ان تجد ما يلهمها في ما خلا الحوافز الشخصية والانانية. فهذه الاخيرة سوف تعم، كائنا ما كان الحال، وستقيم الفردية الخصوصية في اساس البنية باكملها ... ]و[ حين يفكر الرجال بشكل مشترك، فان فكرهم سيكون جزئياً نتاج الجماعة". ولما كان دوركهايم نفسه قد اقر بفضل الفكر الالماني عليه، جاز ان نسأل عن القرابة بين دعوته الى تشكيل "الشركات - الروابط الوطنية" وبين هيغل الذي احل هذه الشركات - الروابط في المحل الثاني بعد العائلات ورأى فيها "الجذر الثاني، الجذر الاخلاقي للدولة، وذاك المزروع في المجتمع المدني". او عن القرابة بين دوركهايم في الحاحه على ان الدولة "اداة النظام الاخلاقي" وبين هيغل الذي عادلها مع "راهنية الفكرة الاخلاقية". او بينه هو الذي اعتبر الفرد "نتاج الدولة" وبين هيغل الذي اعتبر ان الانسان "يتمتع بالوجود العقلاني فقط في الدولة" فيما "كل ما يمتلكه الانسان هو دَين الدولة عليه". واذا كان تالكوت بارسونز قد لاحظ ان دوركهايم "لم يملك خبرة في الاقتصاد"، فما يصعب تجاهله في النهاية انه لم يترك للفرد اية فسحة خاصة به. صحيح ان ديون هربرت سبنسر على دوركهايم لا تحصى، بدليل استشهاداته الكثيرة به في "تقسيم العمل"، الا انه لم ير ما رآه من امكانية نظام غير قصدي، وهو ما شكل الخلاف الاساسي بين فكريهما. فسبنسر اوكل الى السوسيولوجيا مهمة دراسة الآثار غير المقصودة المترتبة على اعمال انسانية مقصودة. وهذا، بعد وقت طويل نسبياً، ما عاد اليه كارل بوبر ملاحظاً في ما خص علم الاجتماع، ان المهمة الرئيسة للعلوم الاجتماعية النظرية... هي تعقب الآثار الاجتماعية غير المقصودة للأعمال الاجتماعية المقصودة. وبكلام آخر فالمجتمع ليس كيانا مطلقا ينبغي ان يوجد اولا بحيث يمكن تاليا ان تتطور العلاقات الاجتماعية بين افراده. ذاك ان العلاقات التي تنجم عن حركة الافراد انما تولّد "الشروط" التي تجعل هذا التطور ممكناً. على ان الفردية التي يقدمها بعض الفرديين، ومنهم انفانتينو، ثمرة حيادية لسعي الفرد الى الكسب، ومن ثم الى المتعة، تطرح اشكالين صعبين على المجتمعات التي لم تبلغ الى الفردية بعد: هل يمكن بالفعل ارتقاء درجات السلم بموجب وصفات هايك، اي مع حصر دور الدولة في نطاق الضبط الذي يجيزه القانون؟ وهل يمكن التعويل، في المقابل، على دور اقتصادي للدولة يساعد في تفكك الجماعات وتبلور الافراد، فيما توجّه العولمة للدولة، كل دولةٍ، ضربات قاصمة؟ * كاتب ومعلّق لبناني