هناك دائماً من يملك عقلية وقدرة على تحويل أي مناسبة الى فرصة للربح المادي، حتى لو كانت هذه المناسبة من النوع الديني مثل رمضان. وكان شهر رمضان في مصر وحتى سنوات قريبة مضت موسماً تتعطل فيه المصالح والأعمال، إذ كان البعض يعتبره شهر انقطاع عن الطعام والعمل والانتاج. ولكن مع الانفتاح الاقتصادي، وبروز طبقة رجال الأعمال، أصبح كل شيء قابلاً للبيع والشراء، وفرصة للبيزنس. فقبل سنوات قليلة، بدأت حمى المنافسة على استثمار الشهر الكريم، واستعداد الناس للانفاق، والسهر خارج البيوت، ولم يعد استثمار الشهر يتوقف عند بائع مسكين في حي شعبي يبيع أكياس المخللات أو التمر أو عرق السوس طمعاً في بضع عشرات من الجنيهات، ولكن المسألة تعدت هذا الفكر الاقتصادي البسيط، وأصبحت هناك استثمارات بالملايين في خيام وسهرات خمس نجوم، وهناك منافسة رهيبة بين رجال أعمال وأسماء لامعة في سماء البيزنس بغية تحويل هذه المناسبة الدينية الجليلة الى فرصة نادرة للحصول على أرباح طائلة. وهناك من علماء الاجتماع من لاحظ أن تغيراً كبيراً طرأ على عادات المصريين في السنوات الأخيرة، بما في ذلك عاداتهم في رمضان. فلم تعد السهرات تأخذ طابعاً عائلياً في البيوت، ولكن أصبح هناك ميل الى الانفاق وفق بنود لم تكن موجودة من قبل أو تدخل ضمن ثقافتها العامة، مثل الخروج شبه اليومي، وتناول الطعام في المطاعم الفاخرة، وقضاء عطلة نهاية الاسبوع أو "الويك إند" في المنتجعات المختلفة. وكان من الطبيعي أن توجد فئة من المستثمرين تعمل في هذه المجالات لإشباع مطالب الطبقات الجديدة وتوظيفها لمصلحتها. وهذه الفئة يطلق عليها المفكر عبدالوهاب المسيري اسم "تجار المتعة واللذة". قبل سنوات لم تكن السهرات الرمضانية أكثر من التزاور بين الأقارب والجيران، أو الخروج للسهر في الأماكن الشعبية ذات الطابع الديني مثل الحسين للجلوس في المقاهي الكبيرة، مثل مقهى الفيشاوي حيث يعبق المكان بروائح الشيشة العجمي أو شيشة التفاح، وتدور أكواب الشاي والقهوة والسحلب والكركديه، وأطباق الحلويات الرمضانية مثل قمر الدين. وكانت هذه المقاهي تهتم بتنظيم برامج ترفيهية في إطار منافستها لجذب الزبائن، فكانوا يتمتعون بالاستماع الى الابتهالات الدينية، والغناء والمووايل الشعبية، وبعدها ينتقلون وينتشرون في المطاعم الشعبية لتناول السحور من فول وطعمية وزبادي لتنتهي السهرة الرمضانية مع آذن الفجر! وكانت وزارة الثقافة تنظم سهرات رمضانية في خيمة كبيرة في حديقة الخالدين في منطقة الدراسة المجاورة لحي الحسين، حيث كانت تحيي هذه السهرات فرق الغناء الشعبية والفلكلورية وعدد من المطربين أنصاف المشهورين، بالاضافة الى المسرحيات التابعة لمسرح الدولة. وكان هناك باعة المصاحف والكتب الدينية والملابس والمشغولات الشعبية ومنتجات الحرف التقليدية. والخلافة أن الاحتفال برمضان كان يتم في إطار شعبي جميل. ولكن فجأة، انتقلت فكرة الخيمة الى الفنادق الفخمة والمناطق الراقية ليعيش الاغنياء رمضان بطريقة فولكلورية من دون الحاجة الى الاختلاط بالفقراء في المناطق الشعبية. لذلك كان لا بد من استدعاء الجو الشعبي الى الخيمة بدءاً من الاسم الذي يأخذ طابعاً رمضانياً مثل فوانيس أو قطايف أو مكسرات أو طابعاً قديماً مثل الصحبجية. وهذه الخيمة تقدم ما تقدمه المقاهي والمطاعم في المناطق الشعبية من مشروبات وأطعمة، مع الاهتمام بعنصر جذب رئيسي هو الشيشة أو النارجيلة، لا سيما شيشة التفاح، التي هي موضع إقبال وإعجاب من الجميع، بالإضافة الى برنامج غنائي حافل يحييه عادة مطرب مشهور. ولعلّ الفارق الوحيد بين الخيمة والحي الشعبي هو الاسعار ففي حين تستطيع أن تقضي ليلة رمضانية محترمة في حي شعبي مثل الحسين ولا تكلفك أكثر من 20 جنيهاً، وتشمل السحور والمشروب والشيشة، فإن السهرة نفسها تكلفك ما لا يقل عن 70 جنيهاً في خيمة رمضانية عادية. قائمة السحور وقائمة السحور تتضمن اصنافاً واطباقاً فاخرة من اللحوم والأسماك بالاضافة الى الأطعمة الشعبية مثل الفول الذي يقدم على سبيل الفولكلور. وقد تصل كلفة الفرد في مثل هذه الخيم الى مئات الجنيهات، ومن الأمور المحددة لذلك أجر المطرب الذي يحيي السهرة، لأن معظم المطربين رفع أجوره هذا العام، بعد ما اكتشفوا الأرباح الطائلة التي تدخل جيوب أصحاب الخيم، فعمرو دياب يتقاضى قرابة 140 ألف جنيه في الليلة، ومحمد فؤاد 115 ألف جنيه، وحكيم الذي ينتقل بين خيام عدة وصل أجره الى 30 ألف جنيه، وإيهاب توفيق 20 ألف جنيه، وخالد عجاج 15 ألف جنيه. المهم أن المنافسة بين الخيام هذا العام كانت رهيبة، كما يقول أحمد أحمد علي حميدة مدير خيمة في أحد فنادق مصر الجديدة، وذلك بعدما دخل حلبة المنافسة رجال أعمال مشهورون، فهناك نحو بليون جنيه أنفقت على هذه الخيام هذا العام، وينتظر أن تكون أرباحها بلايين عدة. وتحويل رمضان الى "بيزنس" لا يقتصر على السهرات فقط، وكان يمتد أيضاً إلى قاعات الرسم والفنون التشكيلية التي أعلن معظمها عن تنظيم معارض لا سيما الرسوم التي تعبر عن الأجواء الرمضانية، مثل الزخارف الاسلامية، والخط العربي والإسلامي بالإضافة الى عدد من المعارض التي تقدم قطعاً من الأرابيسك والاثاث العربي والإسلامي، مستغلة زحمة الشهر الكريم لتحقيق أرباح تفتقدها طوال العام. ويقول شريف لطفي أحد تجار الاثاث والتحف الانتيك إنه نظراً للركود الذي يعانيه السوق، اخترع التجار نظرية العامل النفسي للزبون، بمعنى أن الزبون عادة يقبل على شراء سلعة في أجواء معينة، وتحت عامل نفسي معين مثل الاقبال على شراء الأثاث الصيفي مع اقتراب الصيف، وشراء اللوحات الدينية وقطع الأثاث العربي الاسلامي مع حلول شهر رمضان ولذلك فإن رمضان لم يعد شهراً للكمون والكسل، ولكن لتحقيق قدر من الربح.