لعل التمويل الخارجي للتنمية يمثل محوراً أساسياً في العلاقة بين البلدان الصناعية المتقدمة او دول الشمال والبلدان النامية دول الجنوب. وتبعاً لذلك تتأثر المنظمات والمؤسسات الدولية والاقليمية، وبخاصة الوكالات والهيئات المنضوية تحت لواء منظومة الأممالمتحدة بهذه المسألة بصورة مباشرة وتنعكس على دورها وبرامجها العملية ذات الأهداف الإنمائية. ويعود الاهتمام العالمي بالتمويل الخارجي للتنمية الى مطلع الخمسينات من هذا القرن، حيث أصبح أحد الشواغل الفكرية والسياسية الرئيسية بالنسبة للأوساط الأكاديمية والمعنيين بالشأن العام وصناع القرار من شتى الأقطار. فصدرت آنذاك، وفي العقود اللاحقة، دراسات ونظريات بالغة الأهمية عن كيفية تصفية "التخلف" في البلدان حديثة الاستقلال والانطلاق في دروب التنمية وتأمين التمويل الخارجي الملائم لذلك كله. ولم يكن هذا الاهتمام الملحوظ، الذي أظهره الرأي العام العالمي، لا سيما في البلدان المتقدمة، معزولاً عن التطورات العالمية العاصفة والجارية آنذاك وما أفضت اليه من تغيرات جذرية في ميزان القوى واللوحة السياسية للعالم. فبالارتباط مع التصفية المتسارعة لنظام الحكم الاستعماري آنذاك في أقطار "العالم الثالث" ونشوء منظومة الدول الوطنية المستقلة فيها برزت الحاجة الى مواجهة التحدي الجديد: تحدي التخلف الشامل، في جميع الميادين، والذي ورثته هذه البلدان من السيطرة الاستعمارية الأجنبية التي دامت حقباً زمنية طويلة وما اقترنت به من نهب لمواردها الاقتصادية وتشويه لهياكلها الاقتصادية وأنماط الانتاج فيها. وكان من أوجه المواجهة مع هذا التحدي، تصاعد موجة التضامن العالمي مع شعوب البلدان النامية والتعاطف مع مطالبها المشروعة الهادفة الى دعم برامجها الإنمائية وتأمين الموارد المالية اللازمة لها، ومن ضمنها برامج التمويل الخارجي. كانت المطالبة بالتمويل الخارجي للتنمية في البلدان النامية التي كان أغلبها مستعمرات وشبه مستعمرات للإمبراطوريات الاستعمارية الغربية تعبر عن التزام معنوي وسياسي من جانب الدول الصناعية الكبرى بتقديم المعونة اللازمة لشعوب البلدان النامية، وتمكينها من السير في طريق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي. وهو أمر جوهري وذو دلالة تاريخية سامية يبغي التعويض عما أصاب شعوب العالم الثالث من محن ومظالم إبان خضوعها للسيطرة الاستعمارية الغربية. ومع ان أشكالاً وصوراً مختلفة قد اقترحت للتمويل الخارجي لتنمية العالم الثالث، ومن ضمنها إنشاء صناديق خاصة عالمية واقليمية، الا ان حصيلة هذه التدفقات لم تحقق الغايات المنشودة بل ان اتجاهها اخذ في الفترة الأخيرة بالتراجع على نحو مريع ويتناقض مع الالتزامات التي قطعتها البلدان الغنية الغربية على نفسها سواء في إطار البرامج الدولية متعددة الأطراف او على مستوى العلاقات الثنائية. وتنعكس هذه النتيجة المؤلمة في شكلين أساسيين من أشكال التمويل الخارجي للتنمية. الأول يتمثل في هبوط المعونات المقدمة في إطار ما يسمى ب"المعونة الإنمائية الرسمية". Official Development Assistance - ODA التي تعهدت بتقديمها الدول الغنية الكبرى الأعضاء في "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD. والشكل الثاني، يتجسد فيما أصاب برامج والتزامات منظمات ووكالات الأممالمتحدة ولاسيما المعنية مباشرة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية من الغاء او تقليص متزايد لمواردها وموازناتها المالية مما ترك آثاراً سلبية للغاية على أداء هذه الهيئات وتخلفها عن الوفاء بواجباتها المقررة في دساتيرها وأهداف تأسيسها. كان يفترض ان تكون "المعونة الإنمائية الرسمية ODA"، احدى الوسائل الرئيسية لتمويل حاجات البلدان النامية وذلك على شكل منح أو قروض بفوائد مخفضة، وفترات سماح طويلة Grace period وكذلك بآجال إيفاء طويلة Repayment أيضاً. غير ان التجربة الماضية شهدت هبوطاً شديداً بحجم التدفقات المالية الميسرة وغير الميسرة Consessional and Unconsessional. وهنا تشير الإحصاءات المتاحة والصادرة عن "مركز الجنوب" في جنيف الى بيانات هامة ومثيرة للقلق. فبين عامي 1990 و1997 هبطت قيمة التدفقات الصافية لهذه المعونة ODA بمقدار 5 مليارات دولار اميركي، حيث كانت قيمتها في 1990 مساوية ل 53 مليار دولار اميركي، وأصبحت في 1997 مساوية ل 3.48 مليار دولار اميركي. وخلال هذه الفترة هبطت أيضاً قيمة "المعونة الإنمائية الرسمية" بالنسبة الى قيمة الناتج المحلي الإجمالي GDA للدول المانحة في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي يرمز لها بأعضاء - DAC لجنة المعونة الإنمائية من متوسط 33،0 في المئة لعامي 1986 - 1987 و 30،0 في المئة لعام 1993 الى 22،0 في المئة في 1997. ويمثل هذا الرقم الأخير أصغر مساهمة لهذه البلدان منذ 1950. وهي تعكس على نطاق عالمي هبوطاً شاملاً في مساهمات البلدان الأكثر غنى وذات الاقتصادات الأكبر في دعم عملية التنمية في البلدان النامية. وهنا يجدر ان نؤكد على ان هذا الهبوط في قيمة المعونة الإنمائية الرسمية يتناقص مع النسبة وحجم الالتزام الذي أعلنته البلدان الصناعية المتقدمة في فترات سابقة. ففي وثيقة "استراتيجية عقد التنمية الثاني" الذي اقرته الأممالمتحدة في عام 1970 جرى الاتفاق على تحديد نسبة 7،0 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المتقدمة كهدف لقيمة المعونة المقدمة منها الى البلدان النامية حتى منتصف السبعينات من هذا القرن. وكان المفروض ان تأخذ هذه المعونة شكل منح وقروض بشروط ميسرة على المستوى الثنائي فضلاً عن مساهمات رسمية لتمويل برامج وموازنات الوكالات والهيئات الدولية والإقليمية متعددة الأطراف والمعنية بدعم النشاطات والمشاريع الإنمائية في البلدان النامية ومن ضمنها منظمات الأممالمتحدة كالبرنامج الإنمائي UNDP ومنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية UNIDO ومؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD وكذلك اللجان الإقليمية الخمس وغيرها. والواقع ان نسبة 7،0 في المئة - التي لم يجر الالتزام بها من قبل البلدان المتقدمة كما أشرنا من قبل - كانت أقل مما طالبت به أوساط شعبية وأكاديمية في البلدان الغربية ممن كانت معنية بصورة جدية بمكافحة التخلف في القارات الثلاث وذلك بدوافع انسانية وسياسية تقدمية حيال الفوارق الاقتصادية الكبيرة والتفاوت المريع بين مستويات الحياة في دول "الشمال" و"الجنوب". والمعروف ان بعض المنظمات الأهلية الغربية قد اقترحت في 1958 نسبة 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الصناعية المتقدمة لقيمة الموارد الواجب نقلها الى البلدان النامية على هيئة منح وقروض ميسرة. غير انه من دواعي الدهشة والاستغراب ان تتدهور مستويات المساعدات الخارجية على نحو متواصل ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة قبل عدة سنوات. حيث كان الكثير من الناس يعتقد بأن انتهاء الصراع بين "الشرق" و"الغرب" سيطلق موارد ضخمة، كانت تستخدم من مشاريع سباق التسلح الباهظة والاستعدادات للحروب الساخنة بين الطرفين وتوجيهها نحو المشاريع ذات الأغراض السلمية والتعجيل بعملية التنمية الشاملة في البلدان النامية. لكن الأمر اخذ منحى مختلفاً وصدم أمال الشعوب وأشاع مناخاً ثقيلاً من اليأس وخيبة الأمل. بل كان من عواقب انتهاء الحرب الباردة ما هو أسوأ وأدعى للإحباط بروز ظاهرة التنافس بين البلدان النامية وبلدان اوروبا الشرقية التي كانت جزءاً من الكتلة الاشتراكية الشرقية والمسماة اليوم بالدول ذات الاقتصادات الانتقالية والتسابق فيما بين هاتين المجموعتين على نيل المعونات الإنمائية الرسمية المتوخاة من الدول الصناعية المتقدمة. وهكذا تبخرت بسرعة جميع الدعاوى والتنظيرات البائسة عن أهمية وجدوى "عوائد السلام" المتولدة عن انتهاء الحرب الباردة وتسخيرها لمجالات لا تفي بالتزامات الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء شعوب البلدان النامية، ولا تخدم أهداف التنمية والسلام والتقدم في العالم ولا تقدم مساهمة جدية لتصفية الفقر والمرض والمجاعة والتخلف والمحن الأخرى التي تهدد الإنسانية بأكملها. والخلاصة، فإن المعونة الخارجية ما زالت مسألة مهمة وضرورية لدفع عملية التنمية الى الأمام، وللتخفيف من حدة المعضلات الاقتصادية التي تعاني منها البلدان النامية. الأمر الذي يجعل من الأهمية بمكان، العمل بصورة منهجية، وبأفق استراتيجي واضح لوضع هذه المهمة الخطيرة في أعلى الأجندة الاقتصادية الدولية، والتأكيد في الوقت نفسه على ان مضاعفة الموارد المالية الخارجية هي ليست هدفاً وحيداً بل هي عامل مكتمل لتعبئة الموارد المحلية الداخلية وتوسيع دائرة الادخار المالي الوطني، التي تعتبر الأساس المتين لعملية التنمية وتمويلها. والواقع ان معالجة مشكلات التمويل الخارجي للتنمية وزيادة التدفقات المالية للبلدان النامية ينبغي ان تكون جزءاً اساسياً من برنامج استراتيجي شامل لإصلاح النظام المالي الدولي الذي يعاني اليوم من أزمات طاحنة. وهذا ما ينبغي ان تتصدر له مجموعة البلدان النامية، ولا سيما كتلة ال 15 قطراً مجموعة الجنوب التي يجمعها إطار تنظيمي محدد وباتت تعبر عن مواقف صريحة ومعلنة دفاعاً عن مصالح البلدان النامية. كما ان المؤتمر العالمي القادم في العام 2000 المزمع تنظيمه من قبل سكرتارية الأممالمتحدة لبحث "تمويل التنمية" يجدر ان يستفاد منه لطرح هذا الأمر وكسب مساندة دولية له. رئيس الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.