لم يمض اسبوعان على الحرب التي يشنها حلف شمال الأطلسي على يوغوسلافيا حتى برز تناقض صارخ بين تكتيكها من جهة وهدفها المباشر المعلن من جهة ثانية أي، بعبارة اخرى، بين القصف الصاروخي والجوي وبين انقاص قدرة سلوبودان ميلوشيفيتش على الحاق الأذى بالبان كوسوفو. ان هذين "المستويين" متوازيان حتى الآن، لا يلتقيان. ويمكن القول انهما متفارقان طالما ان نسبة التهجير بعد عشرة أيام من العمليات ازدادت. التناقض مع الهدف المباشر لا شك في أن الجيش اليوغسلافي خسر كثيراً وان أضراراً كبيرة لحقت بتجهيزاته ودفاعاته وثكناته وطائراته ووسائل اتصاله ودباباته ولكن، في أثناء ذلك، واستناداً الى المراجع الأطلسية والمحايدة، لم تتأثر قدراته على التطهير العرقي طالما انه هجّر في خلال أيام ما يوازي عدد الذين تم تهجيرهم في سنة. أي انه كان "ينجز"، يومياً، ما كان يستدعي شهراً لانجازه قبل بدء العمليات. يمكن الحسم، طبعاً، انه، في مرحلة ما، ستنكسر قدرة هذا الجيش على ارتكاب جرائمه. فطاقات يوغوسلافيا محدودة قياساً بالاحتياطيات الهائلة للأطلسي ودوله. ولن يكون ممكناً اقحام السياسة من أجل تكبيل أيدي الحلف، خاصة بعد اتضاح حدود التدخل الروسي والاحتجاج الايطالي واليوناني. ولكن ذلك لا يمنع من القول بأن انكسار هذه القدرة قد يتم بعد فوات الأوان، أي بعد حصول تهجير كثيف يغيّر التوازنات الديمغرافية جذرياً ويوجد امراً واقعاً جديداً. وتدل السوابق البلقانية في هذا المجال على ان اعادة المهجرين، بعد وقف العمليات العسكرية، لم تكن تحظى بالاهتمام المتوقع. و"اتفاق دايتون" الذي يشرف آلاف الجنود الأطلسيين على تنفيذه لم ينجح في هذا المجال، والاتحاد اليوغوسلافي يستقبل حوالي نصف مليون لاجئ صربي من البوسنة، وكرواتيا. وليس هناك ما يمنع بلغراد من طرح لاجئيها في سوق المساومات من أجل المطالبة بحل شامل لهذه المشكلة في عموم البلقان. لم يعد احد يساجل في ان الاسبوعين الاولين من الحرب شهدا فشل الأطلسي في حماية الالبان. وقد أتاح ذلك لبعض الأصوات ان تزعم ان القصد الأصلي كان التهجير واننا، مرة اخرى، أمام "مؤامرة". دفع هذا التناقض بين وسيلة الحرب وهدفها المباشر، دفع الأطلسي، نحو "حلول رمزية". فهو أقدم، مثلاً، على قصف مبنى وزارة الداخلية في بلغراد معلناً انه دمر مقر العقل المدبر لخطة التهجير. وكان يمكن للأمر ان يكون مضحكاً لولا المأساة العامة التي تلف المنطقة. انه حل وهمي لمشكلة فعلية. وربما كان القصد منه طمأنة رأي عام غربي آخذ في طرح الأسئلة. ولقد حصل ذلك في سياق تصعيد القصف على الجسور والثكنات والمصافي النفطية. واذا كانت هذه تشكل، مع الأسلحة الاخرى، بنية تحتية للحرب فان لا علاقة وثيقة لها بالحرب الميدانية التي كان يشنها الجيش الصربي والميليشيات المتعاملة معه. فالأولوية اعطيت، بشكل حاسم، لما يمكنه ان يشكل خطراً على طائرات الحلفاء وليس لما يخدم في حرب التهجير. وربما كان الأمر الثاني صعباً طالما ان الرشاش سلاح تهجير، أو السكين، أو البلطة راجع حروب "البحيرات الكبرى" في افريقيا. وكذلك يمكن للشائعة ان تكون سلاح تهجير إذ يكفي خبر عن وصول "الجنرال اركان" مثلاً حتى يندفع المئات هائمين على وجوههم. ان الرد على ذلك كان يقتضي حرباً من نوع آخر. ولكن هذه الحرب ما زالت متأرجحة بين الدرس والرفض والتلويح وهي لم تكن، أصلاً، في حسابات القيادة السياسية التي افتتحت القتال وان كانت أنباء لاحقة تشير الى ان العسكريين حذروا، مسبقاً، من النتائج الكارثية، انسانياً، وعلى الألبان، لاقتصار "المعارك" على القصف الجوي. … ومع الهدف السياسي ليس هذا هو التناقض الصارخ الوحيد. ثمة تناقض آخر لا يقل هولاً بين فعل الحرب نفسه وبين الهدف السياسي العام المعلن لها. لقد ركَّز الاميركيون، في البداية على ضرورة انزال العقوبة بميلوشيفيتش، في حين ركز الاوروبيون، أكثر، على ضرورة انجاز التسوية عبر العودة غير المشروطة الى "اتفاق رامبوييه". انتقل الطرفان، بعد أيام، لاعطاء الاولوية لمشكلة… اللاجئين الألبان. وبما ان واشنطن لم تقل ما يخالف ذلك يمكن الاستنتاج بأن "التسوية" هي أفق الحرب. وتعني هذه التسوية، بعد طرح التفاصيل جانباً،اعادة اقليم كوسوفو المتمتع بحكم ذاتي موسع الى السيادة الصربية بحماية أطلسية. هل هذا معقول بعد كل ما حصل وسيحصل؟ انه يفترض اعادة الاعتبار الى "هتلر البلقان" و"بول بوت يوغوسلافيا" والتفاوض معه، واعتباره شريكاً محترماً، والبحث معه في صيغة وجود قواته في الاقليم وحجمها، وتنظيم التعايش الصربي مع من تبقى من البان في كوسوفو ومن يمكن اعادتهم الى الاقليم، واقدام الأطلسي بعد حربه القاسية على تجريد عناصر "جيش التحرير" من السلاح، وتحوله، أي الحلف، الى السد المنيع الحائل دون تحقيق الرغبات الاستقلالية مع ما قد يعنيه ذلك من صدامات محتملة مع عناصر منشقة عن الالبان او الصرب، ووضع خطة اقتصادية للتعويض عن آثار الحرب واعادة بناء ما تهدم في القرى والمدن وما أحرق، الخ… هل يمكن بعدما حصل اعادة عقارب الساعة الى الوراء وكأن شيئاً لم يكن؟ ثمة اشارات الى ان ذلك ليس وارداً. ولكن من المؤكد ان هذا الهدف السياسي للحرب لم يسقط رسمياً بعد، ثمة أصوات ارتفعت تطالب بمنح أقليم كوسوفو استقلاله بعد تحريره. وألمح الرئيس بيل كلينتون الى ان ميلوشيفيتش يخسر سيطرته على الاقليم. ولكنه لما سئل عما يقصده أجاب ان يلاحظ مجريات الأمور ولا يحدد سياسة اميركية جديدة. لا يزال انفصال الأقليم مرفوضاً لأسباب لها علاقة بتوازنات البلقان الهشة، وبمبدأ احترام الحدود الدولية، وبعدم ايجاد سابقة ذات نتائج ومفاعيل عالمية. ولكن هذه الأسباب تتعرض الى امتحان قاسٍ. فتوازنات البلقان لن تكون على ما هي عليه بعد التدمير المنهجي للجيش الصربي، والحدود الدولية لم تحترم كفاية عندما قرر الأطلسي، خلافاً لشرعة الأممالمتحدة ولشرعته هو، شن حرب على دولة سيدة من دون قرار صادر عن مجلس الأمن وبرغم انها لم تقم بعد وان خارج حدودها. ولا شك ان هذه السابقة ستبقى في الأذهان أكثر من غيرها لأنها معطى سياسي، استراتيجي يفوق في أهميته، من وجهة نظر روسيا مثلاً، أي شيء آخر. ان الحرب الأطلسية على يوغوسلافيا اليوم، فاقدة لأي هدف محدد ومقنع. ويمكن القول مع التطورات الدرامية لمأساة اللاجئين انها باتت تحتل اولوية قصوى انسانياً واستراتيجياً: توجد وقائع جديدة فوق الأرض، تهدد استقرار الدول المجاورة، تتسبب بضحايا عديدة، الخ… وهكذا فان واحدة من المشكلات التي تفاقمت أثناء الحرب باتت هي في طليعة اهتمامها، يعني ذلك ان الحرب خرجت عن السيطرة برغم التفاوت المذهل في ميزان القوى وان المطلوب، بأسرع وقت ممكن، اعادة "القاء القبض عليها" عبر تعيين هدف واضح لها. تغطيات قابلة للطعن ليس التناقض السابق هو الأخير. ثمة تناقض ملفت بين التغطيات المقومة لهذه الحرب وبين ما يحصل فعلياً. يحاضر "أخلاقيون" في ان التدخل العسكري كان لا بد منه لوقف "الكارثة الإنسانية الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية"، "الابادة"، "تدمير حقوق الانسان في قلب اوروبا"، الخ… غير ان المساجلين معهم، وبعضهم أشد عداء لميلوشيفيتش، يلاحظون هذه التغطية الاخلاقية تملك حدوداً صارمة. يرسم الرفض العنيد للتدخل البري الحد الأول لهذه التغطية. الكلام الاخلاقي "ساقط" لان قائله غير مستعد لتضحيات في سبيله. فعدد القتلى الذي ترتضيه دولة لنفسها يقدم، على الأرجح، معياراً دقيقاً لمدى اقتناعها بالعمل الذي تقوم به ومدى صدقيتها في القول انها تقوم على تنفيذ "واجب اخلاقي"… ناهيك عن الدفاع عن مصالحها الوطنية والاستراتيجية. ان نظرية "صفر قتلى من جانبنا" تومئ الى درجة متدنية جداً من الايمان ب"اخلاقية" الفعل. لا يعني ذلك، بالضرورة، تمجيداً للموت او دعوة اليه. ولكن رفضه بالمطلق يرسل اشارة خاطئة الى أي معتدٍ وهو يشكل هرباً نحو "حلول تكنولوجية" لمشاكل تلزمها، ربما، تضحيات بشرية لحلها. وتتعزز هذه المفارقة من نجاح اطروحة "صفر قتلى" حتى الان ولو كان ثمن ذلك عذابات لا توصف لمئات آلاف المشردين. وترسم نسبية هذه التغطية الحد الثاني لها. هل الأطلسي مستعد لخرق حدود كل دولة ترتكب حكومتها اضطهاداً ضد مواطنيها؟ الجواب الحاسم هو كلا روسيا، الشيشان، الصين - التيبت، تركيا - الأكراد…. هل هو مستعد للتحرك في كل مرة يسقط الفا قتيل ويتهجّر نصف مليون، كلا. ان عالم اليوم يعج بحالات أشد فظاعة وما من احد يحرِّك ساكناً. ان من طبيعة الأخلاق الا تكون نسبية، ومن طبيعة التحدث عن حقوق الانسان لا سيادة الدول ان تعم الأرض، وهي عندما لا تكون كذلك ترغم على التفتيش عن أسباب أخرى. اما الحجة القائلة بأن "ميزة" هذا الاضطهاد انه اوروبي أو مجاور لبلدان الاتحاد فهي حجة غير اخلاقية بامتياز حتى لا نقول انها تتضمن بعداً عنصرياً لا يخفى على أحد. عندما تحاول وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت، او غيرها، شرح أسباب التدخل فانها تلجأ الى نظرية "الدومينو": لا بد من لجم جموح ميلوشيفيتش والا فان الاستقرار في المنطقة والقارة سيتهدد. يبقى هذا الكلام أكثر تماساً من اطروحة "الواجب الأخلاقي". وهو يريد الاشارة الى ان لا مصالح مباشرة في كوسوفو لكن ترك الأمور على غواربها يهدد باشعال البلقان وبالتالي تهديد الاستقرار والمصالح الغربية. لذا كان لا بد من التدخل. يملك هذا الكلام بعض الوجاهة. ولكن صيغة التدخل العسكرية والسياسية تسمح بتقديم ملاحظتين جوهريتين. الأولى هي ان الاستقرار في البلقان هو، اليوم، أقل منه في أي يوم مضى. فمقدونيا تهتز، والبانيا مضطربة، والجبل الأسود مهدد. وبما ان الوحدة الوطنية الصربية في ذروتها، وبما انها غير معرضة للتفكك قريباً، فان ذلك يعني ان قدرتها اللاحقة على اثارة الاضطرابات كبيرة خاصة وان الحرب لا زالت في مراحلها الأولى واحتمالاتها مفتوحة. الثانية هي ان الاستقرار الاجمالي في المنطقة والقارة يلزمه اشراك روسيا. والاصرار على استبعاد موسكو جعل العلاقات الغربيةپ- الروسية في أسوأ وضع لها منذ عشر سنوات. واذا ما ترجم الروس امتعاضهم في الانتخابات القريبة فان المخطط العام للهندسة الأمنية الأوروبية سيحتاج الى اعادة نظر. ان السلوك الراهن حيال روسيا يقوم على فرضية صحيحة مؤاداها انها دولة فقيرة ستغلب الى ما لا نهاية حاجتها الى القروض الغربية على تصوراتها الاستراتيجية لوزنها وموقعها ومصالحها وأمنها. ربما كان هذا صحيحا في الأمد المنظور ولكن الانعطاف وارد. وهو وارد بدليل ان موسكو قطعت شوطاً في اتجاهه من حرب الخليج الى حرب كوسوفو. يقود الكلام عن موسكو الى الكلام عن التغطية الاستراتيجية المقدمة للعمليات العسكرية. فهذه التغطية تمجّد حلف شمال الاطلسي بصفته الأداة الأمنية الرئيسية القادرة على تأمين ثلاثة أهداف: حماية العلاقات الاميركيةپ- الاوروبية، إيجاد اطار لتوسيع ديمقراطية السوق والاستقرار في القارة عبر ضم حلفاء جدد، تطوير الصلة بموسكو واشراكها في عمليات التشاور. جرت الاشارة الى روسيا للقول ان العكس هو الحاصل فهل يصدق التقدير المعطى للعلاقات الاميركيةپ- الاوروبية. يجدر القول، هنا، ان ما سيتأكد بعد هذه الحرب هو ترجيح الموقع الاميركي. ولايطال ذلك انحياز دولة مثل فرنسا الى الأطلسي ومشاركتها في عملياته تحت قيادة اميركية انما يذهب الى ما هو أبعد. فالترجيح يطال احزاباً وتيارات كانت في موقع آخر، ولنقل في موقع أشد ميلاً الى السلام ورفض الحرب: "الخضر" والتيار اليساري في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني، "الخضر" في فرنسا، احزاب في الشمال الاوروبي، الحزب الاشتراكي اليوناني… هذه كلها احزاب ذات تراث في مقاومة اللجوء الى الحرب وسباق التسلح وهي حسمت أمرها حالياً بانحياز من نوع آخر. وقد سمح ذلك بنشوء تحالفات عجيبة ضد الحرب تجمع قوى لا يجمعها الكثير يطالب بعضها بالاستقلال الوطني وبعضها الآخر بالاستقلال الاوروبي وفي الحالين عن اميركا. فهل يستقيم البناء الاوروبي في مستقبله البعيد مع هذا القدر من التبعية للولايات المتحدة؟