مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    البيت الأبيض: المؤشرات تؤكد أن الطائرة الأذربيجانية سقطت بصاروخ روسي    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    «سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    رفاهية الاختيار    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كوسوفو بين الماضي والحاضر . عشرون ملاحظة حول "حرب كوسوفو" وانطلاقاً منها
نشر في الحياة يوم 01 - 04 - 1999

1- منذ مطلع التسعينات ويوغوسلافيا السابقة مسرح لمواجهات دامية. استقلت سلوفينيا من دون مشاكل تذكر، ولكن اعلان كرواتيا إنفصالها افتتح الصراعات التي امتدت لاحقاً الى البوسنة. صحيح ان قوات غربية تدخلت وان ذلك قاد الى "اتفاق دايتون" لكنها لم تفعل ذلك ضد دولة سيدة بل ضد ميليشيات. ويمكن القول، بهذا المعنى، ان أزمة كوسوفو أطلقت أول حرب في أوروبا بعد 1945. فحلف شمال الاطلسي الذي انتصر في "الحرب الباردة" من دون اطلاق رصاصة واحدة يرمي بثقل عسكري واضح ضد دولة عضو في الامم المتحدة، يوغوسلافيا أو ما تبقى منها وذلك تحت يافطة حماية مواطني هذه الدولة، ألبان كوسوفو، من بطش حكومتهم.
2- ان السبب المباشر للحرب هو رفض الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش التوقيع على "اتفاق رامبوييه". فهذا الاتفاق يمنح اقليم كوسوفو حكماً ذاتياً جوهرياً، ويبقيه تحت السيادة الشكلية لبلغراد، ويدعوها الى سحب معظم قواتها، وينص على تجريد "جيش التحرير" من أسلحته، ويتحدث عن عودة الى درس الموضوع بعد فترة انتقالية من ثلاث سنوات. والشق الثاني من الاتفاق يوكل الى حلف شمال الاطلسي، عبر قوة من حوالى ثلاثين ألف جندي، أمر الإشراف والرعاية على التطبيق.
لقد أوحى ميلوشيفيتش، في مرحلة أولى، أنه موافق على الشق السياسي ومعترض على الجانب العسكري، وكان ذلك في وقت رفض المندوبون الألبان عن كوسوفو الشق السياسي مطالبين بالنص على حق تقرير المصير، أي الاستقلال. ولكن، بعدما نجحت الضغوط، وربما الوعود، في جعلهم يغيرون رأيهم تراجع الرئيس اليوغوسلافي خطوات الى الوراء ورفض الاتفاق بمجمله. ولقد فعل ذلك مدركاً انه يعرض بلاده الى حرب طالما ان الاطلسي كان هدد بذلك.
3- لقد اتخذ الاطلسي قرار تنفيذ تهديداته. وجرى احترام الشكليات الى أبعد حد حتى أن الأمين العام للحلف خافييه سولانا بدا مصدقاً نفسه وهو يعطي الأوامر. وإذا كان صحيحاً ان الولايات المتحدة هي القوة الدافعة في الحلف، وهو صحيح، فإنها لم تكلف نفسها استشارة مجلس الأمن ولا استصدار أي قرار منه. لقد فضلت اغضاب روسيا على السماح لها بمساومات ربما أدت الى ممارسة حق النقض. واذا كان المراقبون الموجودون في كوسوفو تابعين لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا فإن سحبهم قبل بدء الضربات كان يعني اخراج كافة المؤسسات الدولية، عدا الاطلسي، من حقل القدرة على التأثير المباشر في الاحداث. ولم يكن صعباً، منذ الأيام الأولى، ملاحظة التفاوت في تحديد أهداف العمليات. ركز الاميركيون على ضرورة اضعاف القدرات العسكرية لنظام بلغراد، وركز معظم الأوروبيين على ممارسة ضغط يؤدي الى استئناف المفاوضات. وجرى التطرق، على خلفية ذلك، الى وجود خطر داهم، والى المخاوف من اشتعال البلقان، والى الواجبات الاخلاقية، وصعوبة تحمل "التطهير العرقي" في أوروبا، الخ... ان التفاوت في تعريف أهداف العمليات ذو معنى: يمكن للاميركيين القول، في أي لحظة، أنهم حققوا أهدافهم لذا يمكنهم التوقف، أما الأوروبيون فلا يمكنهم ذلك إلا إذا رضخ ميلوشيفيتش. ولقد لوحظ، لاحقاً، ان الأوروبيين مالوا شيئاً فشيئاً الى استعارة الخطاب الاميركي.
4- لقد كان معلناً، منذ البداية، ان الحلفاء سيكتفون بالقصف الجوي ولو ان الخطة الاجمالية تنقسم الى مراحل. ولكن الذي حصل هو دخول القادة الغربيين في نوع من المباراة اللفظية لايجاد أشد الصيغ قطعية في استبعاد التدخل البري. وجرى تقديم اسباب عديدة لذلك، ولكنها لم تستطع كلها ان تغطي على السبب الفعلي: الرغبة في عدم تكبد خسائر بشرية. وهذه الرغبة هي اميركية بالدرجة الأولى. فلقد بذل الرئيس بيل كلينتون جهداً من أجل اقناع الكونغرس بإرسال أربعة آلاف جندي في اطار مهمة سلام. وكان شرط النجاح في ذلك تقديم ضمانات بأن لا نية لإرسال جندي واحد الى ساحة حرب. ان هذا التوجه هو تكرار لنظرية "صفر قتلى" التي جرى تطبيقها في الحرب ضد العراق وباتت، كما يبدو، معتمدة.
5- تتعرض نظرية "صفر قتلى" الى نوعين من النقاش. يركز الأول، العملي، على ان القصف الجوي وحده لا يمكنه ان يحل المشكلة ولا يجوز له ان يكون بديلاً، في الوقت نفسه، عن الديبلوماسية وعن... الحرب، لا مجال للحسم إلا بالنزول الى الأرض. ولقد أكد ذلك ثلاثة من كبار العسكريين الذين تولوا مهمات في البوسنة: الفرنسيان مدريون وكوت، والبريطاني روز.
يركز الجانب الثاني من النقاش على "الاخلاق". وهو يقول انه من غير الجائز وضع أهداف قليلة جداً للقتال ثم التهرب من الاستعداد للتضحية في سبيلها. فعدم تحمل قتلى يرسل اشارة خاطئة حول درجة الاعتقاد بأهمية الأزمة المطروحة وحول مدى وهن المجتمعات الغربية. ويستعرض اصحاب هذا الرأي الكلام الذي قيل في وصف ما يجري "مذبحة"، "أكبر كارثة انسانية منذ الحرب العالمية الثانية"، الخ... من أجل الاستنتاج بأنه من غير المقبول، أخلاقياً، القول بأن عدداً من القتلى يمكنه ان يشكل رادعاً عن التورط.
6- تؤكد النتائج الأولية للقصف الجوي هذه المخاوف. ففي حين كانت طائرات الاطلسي تحكم سيطرتها على الاجواء كان جيش ميلوشيفيتش وميليشياته، تسرع وتيرة التهجير، وتقدم على اغتيالات جماعية ومنتقاة بين المثقفين، وتحرق القرى، وتفرض وقائع ميدانية يصعب التراجع عنها. وفي حين ان هذه الأمور معروفة كلها فإن التقديرات غامضة حول فعالية القصف الجوي في إنزال خسائر بالقوات الصربية. وهكذا يمكن القول بعد أيام من الحرب أنها تؤدي، عملياً، عكس أهدافها، هذا إذا كانت أهدافها هي، حصراً، الاهتمام بمصير ألبان كوسوفو وإحلال السلم والتعايش في يوغوسلافيا والبلقان.
وما يجب التنبيه اليه، في هذا المجال، هو ان التهجير ليس نتيجة للعمليات العسكرية بل هدفاً لها. فالحروب اليوغوسلافية كلها "تميزت" بپ"التطهير الاثني" وذلك من اجل ايجاد تطابق بين الدولة والاثنية أو الطائفة. كما ان "الحلول" التي تم التوصل اليها سابقاً مثل "اتفاق دايتون" لم تنجح في إعادة المهجرين.
7- لا مجال، في كوسوفو، لتكرار ما حصل في البوسنة. فهناك مهد القصف الجوي لهجوم بري قام به الكروات والمسلمون ودحروا خلاله الميليشيات الصربية التي تخلى عنها ميلوشيفيتش ميدانياً فانتهى الأمر بنوع من التقسيم الفعلي في قالب من الفيديرالية الشكلية. أما في حال كوسوفو فإن "جيش التحرير" يبدو عاجزاً تماماً عن حماية "مدنييه" ناهيك عن كسر شوكة الجيش الصربي. لقد قيل، ذات مرة، أنه يجب على الطائرات الاطلسية ان تشكل السلاح الجوي لجيش التحرير. ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل. ان الهوة بين خطابات فتيان "جيش التحرير" وقدراتهم الفعلية يردمها الجيش الصربي بعمليات التهجير الهمجية.
8- تجاوزت الحرب أسبوعها الأول من دون ان تثير جدياً اهتمام الرأي العام في الدول الاطلسية المشاركة. ثمة فتور واضح. انه نوع من الحياد الايجابي. ثمة أكثريات تؤيد لكنها غير كاسحة ولا معبأة. هناك اقلية ضئيلة تدعو الى التدخل البري. ولكن هناك أقلية كبرى تعتبر ان ما يجري هو "إضافة حرب على الحرب" وان لا بديل عن الحل السياسي. صحيح ان ميلوشيفيتش مكروه وان السلبية حيال اساليبه حادة، ولكن الشك قوي بفائدة الخطة الاطلسية. ولقد اضطر كبار المسؤولين الى التدخل والشرح من غير ان ينجحوا في تغيير المعادلة. لقد كان ملفتاً، مثلاً، ان الجماعات المعادية للحرب ولميلوشيفيتش نجحت في تسيير تظاهرات في عدد من المدن الأوروبية في حين لم ينجح الآخرون في فعل ذلك حتى لو كان شعارهم "رفض التهجير". هذا في أوروبا، أما في اميركا فإن الحرب بدأت بمطالبة كلينتون مواطنيه النظر في الخرائط بحثاً عن موقع كوسوفو ومن المشكوك فيه ان يكون الكثيرون فعلوا ذلك. ربما اهتم بعض الاميركيين بسقوط طائرة "الشبح" أكثر من اهتمامهم بأي شيء آخر.
9- في مقابل هذا الفتور، هذا "الحياد الايجابي"، ثمة تعبئة لدى أقليات غربية معارضة للحرب. ولكن الملفت هو درجة التعبئة العالية جداً عند الجاليات الصربية في المهاجر. فهي بعيدة عن نفوذ الديكتاتور وبطش اجهزته، ومع ذلك فإنها تحركت كلها. لم يرتفع صوت صربي واحد ذو وزن ضد النهج الرسمي. وهناك من غامر بوجوده حيث هو من أجل الاحتجاج العنيف على القصف الاطلسي. لم يكن ممكناً تجاهل "الوحدة الوطنية" الصربية شبه الصوفية.
10- لا يمكن فهم ما جرى ويجري في يوغوسلافيا من دون التوقف عند هذه الحقيقة. لقد صادر ميلوشيفيتش، لنفسه، رمزية "المسألة الصربية". يقول المنطق الصربي ما يلي: لقد انفجرت يوغوسلافيا لأن الكروات، مثلاً، يرفضون ان يعيشوا معنا بصفتهم اقلية في اطار اتحادي، فلم يطلبون منا ان نعيش معهم في كرواتيا كأقلية؟ يضيف المنطق اياه: لقد قتلوا منا مئات الآلاف عندما تحالفوا مع النازيين في الحرب العالمية الثانية فهل نطمئن اليهم الآن؟ وحول كوسوفو يؤكد الصرب ان الاقليم هو موطئهم الروحي وان الحكم الذاتي سيقود الى الانفصال وان الانفصال يعني تغيير الحدود الدولية فلِمْ يكون مقبولاً هنا وهو مرفوض في كل مكان آخر. يمكن السجال، طبعاً، مع هذه الاطروحات أو بعضها، ويمكن القول بأن سلطة ميلوشيفيتش محام فاشل لقضية مقنعة، ولكن ما لا شك فيه ان الخطاب المذكور يتضمن عناصر واقعية تحدث تعبئة وتجعل الصرب يعيشون الأزمات المتلاحقة كجروح دامية، وتدفعهم نحو أعمال اجرامية والوقوف ضد العالم بأسره.
11- إذا استمر التماسك الصربي على رغم الضربات أو بسببها! فمما لا شك فيه ان درجة التوتر سترتفع في منطقة البلقان كلها. "جمهورية" الجبل الأسود تؤيد الأطلسي ولكن طائراته تقصفها، والهجرة الألبانية اليها تثير حساسيات أهلها. وثمة مؤشرات الى تعاظم التعاطف مع الصرب. وفي مقدونيا تهدد الهجرة القسرية بتعديل التوازنات الديموغرافية، وهذا "التعديل" هو في صلب الحروب البلقانية، ولقد شهدت مقدونيا تظاهرات دعم لبلغراد برغم "استضافتها" آلاف الجنود من حلف شمال الاطلسي. اما ألبانيا فإن ما تبقى فيها من هياكل للدولة يكاد ينهار، فكيف إذا تعمد الصرب الاستفزاز؟ الخ...
12- الصرب متماسكون و"الاطلسي" أيضاً. صحيح ان ايطاليا وجدت نفسها منطلقاً اساسياً للعمليات وهي تضغط لتغليب حل سياسي، وصحيح ان اليونان تؤيد ولو ان عواطفها مع بلغراد، وصحيح ان فرنسا تشجع على فتح باب الحوار، ولكن الأصح من ذلك كله ان القرار الحاسم اميركي وان بريطانيا داعمة لواشنطن الى حد قد يضطر معه كلينتون الى دعوة طوني بلير لضبط النفس! لقد عاش التحالف الدولي ضد العراق سنوات قبل ان تظهر عليه تباشير التصدع. ولما ظهرت أكمل الاميركيون وحدهم. فكيف وان الأمر مع يوغوسلافيا خارج، اصلاً، عن نطاق مجلس الأمن ومحصور، فقط، بالتحالف... الاطلسي!
13- يتعزز الموقف الاميركي ضمن الاطلسي ليس بواسطة بريطانيا وانما اذا بقيت المانيا على توجهها الحالي. ان المشاركة الالمانية الفعلية في الحرب هي سابقة اخرى يتم تسجيلها هذه الايام. وتشاء الصدف ان يكون حكام بون هم أولئك القادمين من حركات السلم بما فيها الأكثر تطرفاً. وتشاء الصدف، ايضاً، ان تكون الحرب ضد بلغراد. تقتضي الحقيقة القول ان المانيا بعد الوحدة مباشرة وبقيادة هلموت كول كانت حاضرة بقوة في تفجير الأزمات اليوغوسلافية. فهي التي ارغمت الأوروبيين على الاعتراف المتعجل بسلوفينيا وكرواتيا قبل الحصول على ضمانات حول حقوق الاقليات الصربية موحية بذلك انها تنوي توسيع قاعدة نفوذها التاريخية في هذه البقعة الأوروبية. وهناك من رأى في هذا السلوك ثأراً تاريخياً من المقاومة الصربية الباسلة للنازيين وللاحتلال الألماني. وها هي المانيا، على عتبة نقل عاصمتها الى برلين، تنكأ جراح الماضي اليوغوسلافي وتقصف، تحت غطاء الاطلسي، من يعتبرون انفسهم، عن خطأ ربما، ورثة "حرب الأنصار" ضدها. سيكون لهذه القضية ما بعدها. فهي اذا كانت تعني ان الجيل الجديد الحاكم في المانيا متخلص من عقد التاريخ القريب فهذا يقود استطراداً، الى توسيع دائرة الخائفين من تحول المانيا الى "دولة عادية". ويجب القول ان احدى الحجج الرئيسية، في فرنسا، لرفض الحرب هي القول بأنها حرب المانية - اميركية توقع فرنسا، مجدداً، بين المطرقة الجرمانية والسندان الانغلو - ساكسوني.
14- لقد سمحت المشاركة الالمانية للصرب بألا يخسروا معركة "الشعارات". فالمعروف ان كلينتون شبه نفسه بتشرشل وميلوشيفيتش بهتلر لم يكن يمزح!، ولكن المظاهرات الصربية كلها قارنت اميركا بألمانيا النازية وكلينتون بهتلر. وهكذا نجت بلغراد مما أصاب بغداد ورئيسها صدام حسين أيام جورج بوش. لقد منعت الذاكرة الصربية استيلاء الحلفاء على رموز الحرب العالمية الثانية لاستخدامها. وساعدها في ذلك بعض العاقلين من رافضي المقارنات المتسرعة.
15 - تحسم هذه المعركة، على الأرجح، اطلسية الأمن الأوروبي في المدى المنظور. فهي تأتي بعد أيام من انضمام ثلاث دول الى الحلف، وقبل أيام من احتفالاته بذكراه الخمسين واعتماد العقيدة الدفاعية الجديدة. ان اميركا هي التي تقود الحرب وتشمل هذه القيادة القوات الفرنسية التي اخرجها ديغول من الحلف عام 1966!
لقد فشل الأوروبيون في ابتكار صيغة للحل ليست أطلسية بالكامل. رفضوا فكرة اخضاع القوات الحافظة لپ"اتفاق رامبوييه" الى منظمة الأمن والتعاون، كما استبعدوا اشراك مجلس الأمن. والأنكى من ذلك أنهم رفضوا اقتراحاً بازدواجية الامرة على القوات بحيث تكون اميركية - أوروبية. لقد اتضح أن أوروبا لم تبلغ سن الرشد لا في المجال الأمني ولا في مجال السياسة الخارجية. وهذا معطى في غاية الأهمية ستتضح أبعاده عند إقرار العقيدة الجديدة.
16 - قبل التطرق الى هذه العقيدة يجدر التوقف، سريعاً، عند مفارقة عاشتها ثلاث دول، لقد انضمت تشيخيا وبولندا وهنغاريا الى حلف شمالي الاطلسي بحثاً عن الاستقرار. لم تمض أيام حتى اندلعت الحرب الاطلسية الأولى. لم تشارك هذه الدول طبعاً بصورة مباشرة ولكن هذا التطور يستدعي ملاحظتين. الأولى ان هنغاريا هي الأكثر تأثراً خاصة في ظل وجود "أقلية مجرية" في يوغوسلافيا. الثانية ان هذه الدول تملك، عندما كانت "اشتراكية" تاريخاً من السلبية حيال يوغوسلافيا. لقد كانت تتهمها بأنها تمردت على القيادة الستالينية في محاولة منها للتقرب من الغرب!
17- تنظر الولايات المتحدة الى "حرب كوسوفو" بصفتها التطبيق العملي المسبق للعقيدة الاطلسية الجديدة، فهذه الأخيرة تدخل تعديلات جوهرية على تحديد مصادر الخطر وتوسع مسرح العمليات جنوباً. ولكن المهم فيها ان الاطلسي يمنح نفسه، عبرها، حق التصرف من دون الرجوع الاضطراري الى مجلس الأمن. عندما يحصل ذلك تكون الولايات المتحدة أكملت الاجهاز على الادعاءات التي نادت منذ مطلع التسعينات حول "النظام الدولي الجديد"، و"الشرعية الدولية". لقد شرعت واشنطن تتخلص من هذه القيود الثقيلة في المكان الذي شهد ولادتها، العراق، وهي تكرس ذلك في يوغوسلافيا. يطرح هذا التطور سؤالاً خطيراً حول مصير مجلس الأمن نفسه، لا بل حول مصير الهيئات الدولية التابعة للامم المتحدة. ويمكن القول انه لا وجود، اليوم، لمؤسسة واحدة متطابقة مع الزمن الراهن وتطوراته وتوازناته، وان واشنطن مسؤولة عن تعطيل عمل هيئات عديدة.
18 ان تهميش مجلس الأمن الى هذا الحد يعني حرمان روسيا من "الدليل" الاساسي الذي تملكه على انها قوة يحسب لها حساب أو يتظاهر الآخرون بالتصرف معها على هذا الاساس. واذا كان الأميركيون مضطرين الى التفكير بنتائج ذلك فإن الأوروبيين أكثر اضطراراً. فهؤلاء الأخيرون لا يستطيعون، ولا بأي حال، تجاهل "المعطى الاستراتيجي" الروسي في أوروبا وعلى تخومها. وهم يدركون ان قوى كثيرة في موسكو جاهزة للاستفادة من ذلك من أجل الاقدام على تحولات تغير التوازنات في القارة والعالم. وإذا كان هناك من يعتبر الضعف الروسي الحالي حائلاً دون اي تهديد جدي فإن هناك من يشير الى هذا الضعف باعتباره قادراً على ان يصبح مصدر تهديد.
19- لقد سجلت الاحداث الأخيرة غياباً مدوياً للعالمين العربي والاسلامي. واتضح ان حركة شعب كوسوفو جزء من المسعى الغربي لوراثة التركة "الاشتراكية" وليست جزءاً من نهضة اسلامية يتآمر عليها "الصليبيون". وكان ملفتاً ان حركات أصولية تنبهت الى ذلك فبدت موزعة بين تعاطف مؤكد مع الكوسوفيين وبين مخاوف من الدعم المقدم اليهم من جانب الغرب. على ان أهم ما في الموضوع، وهو يعني العرب مباشرة، غاب عن الواجهة. فالعقيدة التي تصرف الاطلسي بموجبها ستشمل، عند اقرارها، الشرق الأوسط ودوله. وتسمح هذه السابقة بالتدخل العسكري في كل مرة يتقرر فيها ان دولة من المنطقة هي دولة مارقة، أو تطور أسلحة دمار، أو ترعى "الارهاب" أو تضطهد مواطنيها.
20- ان الأزمة في كوسوفو مفتوحة وحمّالة مفاجآت. وهي، بمعنى ما، مرآة لعالمنا. فهو يتوحد، من جهة، بفعل العولمة الاقتصادية، ويتشرذم، من جهة ثانية، نتيجة انبعاث الاثنيات والعصبيات والطائفيات والقوميات. وهو يشهد أزمة على صعيد مؤسساته المشتركة والمعبر عنها في الامم المتحدة والمنظمات التابعة لها. وهو يبحث عن "نظام" جديد تستقر عليه التوازنات وتعرف كل دولة فيه حدود قدراتها وقوتها. وهو يشهد استخداماً كثيفاً للعنف العسكري، الحروب والقصف، والاقتصادي، العقوبات. انه عالم يبحث عن معنى من غير ان يبدو في الأفق ما يشير الى انه سيحل هذه المشكلة في القريب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.