حذف القوات البرية من المعادلة الحربية في البلقان سيؤدي الى "انتصار" الصرب باحتفاظهم بكوسوفو مفرَّغة من الألبان حتى وان تركت الحرب صربيا مدمرة. فاذا شاء قادة حلف شمال الاطلسي تجنب "الهزيمة"، عليهم ان يتخذوا في القمة التي تنعقد اليوم في واشنطن القرار الشجاع بوقف استثناء القوات البرية وبدء وضع الاستعدادات للنقلة النوعية في العمليات العسكرية. ذلك ان عدم استبعاد عنصر القوات البرية ضروري ليس فقط اذا كان قرار الناتو العزم على تحقيق النصر بحسم عسكري، وانما ايضاً اذا كان القرار العزم على ايجاد حل سياسي تدخل فيه روسيا طرفاً. فأدوات الضغط من اجل تحقيق نهاية مقبولة للحرب في البلقان ستنقلب على حلف الناتو اذا بقي متردداً في دفع كلفة حرب يخوضها. وحتى اذا كان الحلف متلهفاً لاختتام العمليات العسكرية بصيغة مقبولة لديه، يجب ان يمتلك كل وسائل الضغوط والحوافز ليمكّن الشريك الروسي في اي حل سياسي من ايضاح العواقب والخيارات لبلغراد. استقلال كوسوفو لم يكن هدفاً من اهداف قصف حلف الناتو لصربيا. وليس هناك ما يعزز مزاعم المعارضين للقصف بأن الهدف كان منذ البدء تحقيق الاستقلال لاقليم كوسوفو لغايات اطلسية. لكن اليوم يبدو ضرورياً الاّ يستبعد حلف شمال الاطلسي استقلال الاقليم كنتيجة من نتائج الحرب ليس دعماً "لوطنية" ألبان كوسوفو وانما احباطاً "للوطنية" الصربية المتطرفة. فاذا كانت المعادلة في اذهان اصحاب هذه الوطنية التضحية بصربيا والقبول بتدميرها شرط الاحتفاظ بكوسوفو ارضاً ورمزاً وشهادة على نصر اساليب التشريد والابادة والتطهير الاثني، يجب نسف هذه المعادلة وركائزها. وهذا يتطلب حتماً القوات البرية لتنفيذ قرار الحسم العسكري. والا، فان النصر للوطنية الصربية المتطرفة وللأساليب التي تبنتها في جيرتها ونحو غير الصرب في الأراضي اليوغوسلافية. هذا لا يعني ان يكون استقلال كوسوفو هدفاً رئيساً لحلف الاطلسي اذا كان في الامكان التوصل الى تسوية سلمية لا تضحي بالمبادئ الرئيسية التي اشترطها الحلف. يعني ان يكون ضمن السيناريوات المستخدمة في معادلات الترغيب والحوافز التي يمكن لموسكو ان تحملها الى بلغراد لتقنعها بجدوى وقف التعنت قبل فوات الأوان. فالرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش يسوّق نفسه لدى الصرب مستخدماً العاطفة الصربية نحو كوسوفو، ولذلك يقول ان كوسوفو "تعني للصرب ما تعنيه القدس لليهود". فاذا احتفظ بكوسوفو، كما يريدها، خالية من الألبان نتيجة تشريده ما يقارب المليون وإبادته عدداً غير معروف، يستطيع ميلوشيفيتش ان "يبرر" سيرته الصاخبة لدى الصرب ويبقى في منصبه - الأمر الذي يبدو انه الأولوية الحاسمة عنده. اما اذا كان واضحاً امام الصرب ان النتيجة لن تكون في الاحتفاظ بكوسوفو وانما في انفصال الاقليم عن يوغوسلافيا ليصبح دولة مستقلة، قد يوقظ ذلك كثيرين من الصرب ويقوي يد اولئك الذين بدأت الشكوك تساورهم بأن الانتصار مستبعد والخسارة فادحة والأفضل الموافقة على اعادة الحكم الذاتي الى الاقليم. ولذلك، ان ايضاح النتيجة "الأسوأ" قد يساههم في التوصل الى حل سياسي ومن شأنه ان يكون ذخيرة في أيادي روسيا عندما تقرر ان الوقت حان لاستثمار ثقلها في بلغراد. فالعمليات العسكرية لحلف الناتو قوضت بعض القدرات الصربية العسكرية، لكن قراراً للناتو بعدم استثناء الحرب البرية وعدم استبعاد استقلال كوسوفو كافراز طبيعي للحرب المستمرة يشكل شبح الهزيمة الساحقة. وفي وسع موسكو ان تقدم الى بلغراد عملية انقاذ من الأسوأ، والى ميلوشيفيتش فرصة لتجنب ملاحقته ليس من طرف المجموعة الدولية بصفته "مجرم حرب" فحسب وانما لتجنب رجم الصرب له بصفته الرجل الذي سحق يوغوسلافيا وسحق اي احتمال للاحتفاظ بكوسوفو كجزء من يوغوسلافيا بحكم ذاتي محدود. لم يعد في الامكان في هذه المرحلة تقديم اي حوافز للصرب عبر اغراء ميلوشيفيتش بأي نوع من المكافأة. واي تفكير بمكافأة ميلوشيفيتش يجب ان يكون غائباً في ذهن القيادة الروسية كما يجب ان يكون مرفوضاً من طرف القيادة الأطلسية. وفي الوقت ذاته يجب التمييز بين هدف ازالة ميلوشيفيتش عن السلطة وبين الحاق الهزيمة به. وهذا يتطلب توقف حلف الناتو عن ذلك اللغط بين "تنحيه" و"تراجعه"، بين استحالة التفاوض معه والاقرار بضرورة موافقته على اي حل سلمي للأزمة. فهزيمة ميلوشيفيتش يجب الا تُقنّن في بقائه او عزله عن السلطة. ان هزيمته يجب ان تُقنّن في هزيمة فكره ونمطه وأساليبه. كذلك، ان التمييز بين الصرب انفسهم في محله كما التمييز بين القيادة والشعب. فعادة تقليص الشعب والبلد الى فرد في منصب القيادة حان وقت توقفها. وفي مرحلة البحث عن حل سلمي تبرز ضرورة ابراز حثيثيات الفوارق ورسم استراتيجيات الانشقاق عن القيادة في بلغراد بدلاً من زج الصرب كلهم في كنف ميلوشيفيتش فتقديم الحوافز لميلوشيفيتش شيء، وتقديمها الى صربيا شيء آخر. وفي هذا الاطار احسنت واشنطن في طرحها ثلاثة امور تتوقعها من قمة حلف الناتو اليوم، وهي: اولاً، تأكيد اهداف ازاحة القوات الصربية من كوسوفو ووضع قوة دولية يمكنها التحقق من عودة المشردين. وثانياً، بعث مؤشر واضح على العزم على تكثيف الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية على بلغراد الى حين تحقيق هذه الاهداف وثالثاً، الالتزام بجهد آني وبعيد المدى في المساعدة على اعادة بناء جنوب شرق اوروبا. فحافز استدراك المزيد من العقاب الى جانب حافز التعهد باعادة البناء جيدان، لكنهما ناقصان في وضوحهما وفي بعديهما. فتجنب المزيد من العقاب يجب ان يوضح العواقب بصورة تدق في العصب. واعادة البناء ليست حافزاً كافياً لاقناع لصرب بالابتعاد عن سياسة ونمط ميلوشيفيتش. ذلك ان اعادة البناء تولد نوعاً من السخرية سيما لدى اولئك الذين يطالبون بتحمل الدمار وافرازاته.. لأن اعادة البناء ضمن الاستراتيجية. نوعية الحوافز للقطاع الصربي غير الموافق على سياسة قيادته قد تختلف عن الحوافز التي تُقدم للقطاع الصربي المتطرف في وطنيته. لذلك ان طبيعة ونوعية الحوافز السياسية والاقتصادية والاخلاقية، يجب ان يتم استطلاعها واستكشافها بطريقة خلاقة ومتماسكة. في الوقت ذاته ان دعوة روسيا للمساهمة في العمل السياسي الجاد لسد الفجوة بينها وبين حلف شمال الاطلسي التي انطلقت من اكثر من عاصمة واستقبال موسكو للأمين العام للأمم التحدة كوفي أنان الاسبوع المقبل، مؤشرات ايجابية. لكن ترغيب موسكو بالمشاركة في ايجاد الحلول لم يكتمل بعد، ان كان لجهة تحصينها بذخيرة لمواجهة بلغراد، او لجهة ابراز الفوائد لروسيا اذا انخرطت في العمل السياسي الجاد. روسيا تواجه صعوبة احتواء الغضب الشعبي الروسي من عمليات القصف التي يقوم بها حلف شمال الاطلسي، وموسكو سئمت محاولات استبعادها وعزلها وتقليصها وتجريدها من الاعتبار نتيجة سياسات اميركية ضيقة الأفق محدودة في فكرها الاستراتيجي. لكن مشاركة روسيا في ايجاد حل سياسي لأزمة البلقان ليست فقط في المصلحة الاطلسية او الاميركية. انها في المصلحة الروسية اساساً. فعبر هذه المشاركة تتمكن موسكو من احباط اهداف عزل روسيا في بيئتها، ومن اعادة فرز استراتيجيات توسيع عضوية حلف شمال الاطلسي. فاذا اضافت موسكو انجاز وقف عمليات القصف ليوغوسلافيا الى انجاز مساهمتها الفاعلة والأساسية في معالجة ملفات دولية أبرزها اخيرا ملف "لوكربي"، ليكون في ايادي موسكو اوراق اضافية في علاقاتها الثنائية مع واشنطن وكذلك على الساحة الدولية. ولمثل هذه الاوراق مردود يتعدى التسهيلات الضرورية لانقاذ الاقتصاد الروسي، عبر صندوق النقد الدولي واجراءات ثنائية من عواصم حلف شمال الاطلسي. ذلك ان قيمة الاستبعاد والعزل غير قيمة الانخراط والمساهمة. وموسكو، بقيادتها الحالية تدرك ذلك. واذا كان شبح انهيار روسيا خطراً على الاستقرار في جيرتها وعلى المصالح الاميركية والاوروبية، يبقى انهيار روسيا انهيارها. وهذا ما يدركه رئيس وزراء روسيا يفغني بريماكوف الذي يحسن قراءة الخارطة السياسية ويعرف حدود المساومة على الضعف كذخيرة سياسية. فأمام موسكو الآن فرصة ثمينة لها من ناحية المصالح كما من الناحية الاخلاقية. امامها فرصة ابلاغ بلغراد ان سياسة الابادة والتشريد الجماعي والتطهير العرقي هُزمَت، ليس بقرار حلف شمال الاطلسي فحسب، وانما بقرار من روسيا. بهذا تُهزم القومية المتطرفة اينما كانت في صربيا او في روسيا، في الشيشان او كوسوفو وأبعاد هزم القومية المتطرفة على أيادي روسيا وحلف شمال الاطلسي ذات اهمية فائقة على اكثر من صعيد وفي اكثر من بقعة في العالم. فرص تجنب سوابق خطيرة متوافرة اذا تحقق التغلب على عقلية بقايا الحرب الباردة وهذا يتطلب القرار الشجاع ليس فقط من موسكو وانما ايضاً من عواصم حلف شمال الاطلسي الشجاعة على صياغة استراتيجيات متكاملة وكاملة غير مقيدة بحسابات ضيقة في معادلات السياسة المحلية. فاذا كان بيل كلينتون جدياً في خوض هذه الحرب عسكرياً وسياسياً، لا يمكن له ان يبقى مقيداً بحسابات وصول نائبه آل غور الى منصب الرئاسة. واذا كانت روسيا عازمة حقاً على تحقيق نقلة نوعية في صياغة توجهها المستقبلي، لا يجوز لها ان تقبع في ظل مخاوفها من تسلط الاقطاب القومية المتطرفة في صفوفها. عليها اخذ المبادرة في القيادة الصارمة لاستعادة اوزانها ولقطع الطريق على مخاوفها وترددها. يبقى ان الدول الاسلامية والعربية منقسمة بقدر انقسام اعضاء مجلس الامن، ويعتريها الانفصام السائد في صفوف ما يعرف بطبقة المثقفين والنخبة برواسب ايديولوجيتها وبرغبتها الفائقة في العداء لأي دور اميركي. على هذه الدول، بقياداتها وقطاعاتها المخلتفة، مسؤولية اخلاقية وسياسية كما هذه المسؤولية على اعتاق الآخرين. فهزم الادوات التي تبناها ميلوشيفيتش واتباعه من ابناء القومية المتطرفة يجب ان يبقى اولوية قاطعة بغض النظر عما اذا كانت الولاياتالمتحدة او حلف شمال الاطلسي الطرف الذي ينفذ الهدف. تردد العرب والمسلمين، بذريعة عدم توفر الصلاحية الدولية عبر الاممالمتحدة او بذريعة التضامن مع روسيا يجعلهم طرفاً اكثر فقراً وضعفاً وتهميشاً في الساحة الدولية، سياسياً كما اخلاقياً. وقد حان وقت المشاركة والمساهمة الشجاعة التي تُطالب بها دول حلف شمال الاطلسي وروسيا على السواء.