كتب والدي في مفكرته الزرقاء عام 1937، يوم الثلثاء 17 آب اغسطس: "ولدت لي ابنة من زوجتي خديجة هانم سميتها صافي ناز جعلها الله من ابناء السعادة". وكان الميلاد في بيتنا في شارع محرم بك في الاسكندرية وكنت الرقم 6 في ترتيب اولاده: معصومة، محمد ابراهيم كاظم، اسماعيل، امينة، فاطمة. والدي هو محمد كاظم اصفهاني، احد رواد فن الخط العربي، لكنه كان يعتز بكونه "الخبير الفني في تحقيق الخطوط والاختام امام الاستئناف العالي الاهلي والشرعي والمختلط وعموم النيابات"، حتى انني وانا طفلة كنت اجيب على من يسألني ما اسمك؟ فأقول: صافي ناز محمد كاظم اصفهاني الخبير، إذ تصورت ان "الخبير" لقب اصيل للعائلة. توفي ابي في 4 نيسان ابريل 1944، قبل ان ابلغ السابعة باربعة اشهر ونصف، لكنني ما زلت اذكره وهو جالس يكتب بالقلم "البسط" والحبر الشيني، ويجرب القلم في عبارات ظريفة يلاطف بها امي خديجة احمد علي ابو حديد، مثل "انت فلة"، او "معلهش" و"ما تزعلش" و"إنت كويس" واحيانا يكتب "زهقت جداً" و"زهقت قوي" و"آه من الحب". كان معروفا عنه التهذيب والمرح والقدرة على اطلاق النكتة، يخاطب امي في رسائله: "عزيزتي خديجة هانم حفظها الله" و"حضرة حرمي العزيزة السيدة خديجة هانم حفظها الله وأبقاها بصحة هي والانجال الكرام آمين". احتفظت امي بكل اوراق ابي ومعظم آثاره حتى ولو كانت زراً واحداً من ازرار قمصانه. يبدو والدي في صورة قبل الزواج من امي وبعده، انيقا اناقة عصره: الطربوش والمنشة والعصا والكتينة - سلسلة من الذهب نهايتها ساعة جيب بغطاء والشارب المفتول الى اعلى. اصبحت امي ارملة في الثامنة والثلاثين، مسؤولة عن الحفاظ على مستوى معيشتها ومعيشة اولادها كما كانت قبل رحيل الوالد. ابتكرت منطقا زرعته في نفوسنا مفاده انه من قلة التهذيب ان نأخذ مصروفاً نشترى به الحلوى التي تعود التلاميذ شراءها في المدرسة، وكان المصروف في طفولتي حده الاقصى قرشان صاغ، وحده الادنى نصف قرش، كانت هناك شيكولاتة نسميها "شيكولاتة العفريت"، تقضمها زميلاتي في الروضة والابتدائي بتلذذ وتمط معهن بحشو العسل، كانت تستهويني حركة المط والمضغ، لكنني كنت اعرف ان "ماما" تستطيع ان تصنع لنا في البيت شيئاً مشابها، ترسخ في اعماقي احتقار "الشبرقة" -اي شراء كل ما تهواه النفس- وكنت اتعجب من البنات اولاد الناس الطيبين الذين يهرعون في كل فسحة بين حصص الدرس لشراء الايس كريم والبطاطا الحلوة واللب والسوداني، وسائر بضائع عم ابو العلا الذي كان يقف بعربته خارج سور المدرسة. اهتمت امي من البداية بقيمتين: النظافة والتحصيل العلمي والثقافي، تقول: "ليس عيباً ان ترتدي قديمك، العيب ان ترتدي القذر"، وكانت تقول: "لا زواج لبنت او ولد قبل الحصول على الشهادة العليا"، تعمل من الصباح حتى المساء في البيت: تطهو وتكوي وتخيط ملابسنا وتراجع مظهرنا العام قبل الخروج لتتأكد من النظافة والانضباط. وكنا بعد وفاة والدي قد انتقلنا الى القاهرة عائدين الى حي الاجداد "العباسية"، نسكن في الشارع العمومي "شارع العباسية"، كان بيتنا - الذي ما زلت احبه واحمد الله رغم زواله من الوجود بالهدم عام 1949 - مكونا من طابقين، في كل طابق شقتان، وكان من حق سكان الدور الثاني الحصول على غرفة اضافية في السطح، استغلتها والدتي في تربية الحمام والفراخ والارانب، وكانت مهمتي هي اطعام هذه الدواجن، احمل لها الحبّ والبرسيم وامارس هوايتي للغناء بترديد ما احب من اغنيات "حديث الاطفال" لبابا شارو: "لا تخافي يا حمامة، والقطي الحبّ الكثير، ثم عودي بالسلام، واشكري الله القدير". لاحظت امي عشقي للغناء وكنت قادرة عليه، تبتسم من ورائي وتقول: "إنها تحفظ سلوا قلبي لأم كلثوم..." ولا تبدى لي الاعجاب حتى لا اطمع واصير مغنية! كانت تعتز بحفظها لثلاثة اجزاء من القرآن الكريم: "قد سمع" و"تبارك" و"عم"، وتعتز بأنها تستطيع ان تراجع معنا دروس اللغة الانكليزية بتسميع "الكلمات". تقرأ جريدة "المصري" و"اخبار اليوم" وكل مؤلفات شقيقها الاكبر الاديب محمد فريد ابو حديد، تحب الزعيم مصطفي كامل، وتحفظ الكثير من الشعر والامثلة الشعبية، وتستخدمها في اللوم والتقريع والتأديب. خفيفة الظل جداً ولاذعة، لماحة تطلق الفكاهة من دون ان تضحك، تطبيقاً لايمانها العميق "كثرة الضحك تميت القلب". وعندما كانت تفلت منها احياناً ضحكة لمفارقاتي ومشاغباتي كانت تسارع بقولها: "والله ما بضحك!". تكره السوقية، واللفظ الفاحش، ورفع الكلفة ولو بين الاصدقاء والانداد. إتجه كل اخوتي للفرع العلمي، وارتاحت لاتجاهي الى الفرع الادبي، وآمنت منذ محاولاتي الصبيانية في الكتابة بموهبتي الادبية، وقدرتها بأكثر مما كنت استحق. عندما قدمت لها كتابي الاول المنشور عام 1970 بعنوان "رومانتيكيات"، قرأته في جلسة واحدة وقالت بفخر: "زي اسلوب خالك!" والذي يعرف منزلة خالي فريد ابو حديد لديها يعرف انها رفعتني بقولها فوق اعلى قمة من قمم الادب. استطاعت بجهادها ودعمها المعنوي ان تحقق احلامها، فرأت ابنتها الكبرى معصومة حاصلة على دكتوراه في طرق تدريس الرياضيات، ومؤلفة مشاركة للكتاب الاول في الرياضة الحديثة باللغة العربية، ومحمد ابراهيم كاظم دكتوراه في اصول التربية ومؤسس واول رئيس لجامعة قطر، واسماعيل دكتوراه في الطب وعلاج السرطان، وامينة دكتوراه في علم النفس، وفاطمة دكتوراه في الاجتماع الريفي، وحين اكتفيت انا بالماجستير في النقد المسرحي انحدرت من عينيها دمعتان. حملت همي فترة ازمتي المهنية حين صدر قرار بمنعي من النشر في آب اغسطس 1971، وصعبت عليها رؤيتي تحت وطأة الظلم الذي اوصلني بعد ذلك الى المعتقل، وحين جاءتني زائرة في سجن القناطر للنساء، مستبداً بها الهلع، قلت أخفف عنها: "عارفة يا ماما السرير الذي كان لسيدنا يوسف في سجنه؟" قالت: "ماله؟" قلت لها: "انا انام عليه!" قالت بفرح مصدقة: "بجد والله؟!". بعد اعتقالي الاول في كانون الثاني يناير 1973 جاء اعتقالي الثاني في الشهر نفسه من عام 1975، داهمها الحزن من أجلي وتولد عنه مرضها بالسرطان في الغدد الليمفاوية، عالجها شقيقي اسماعيل، لكن امنيتها تحققت بألاّ تتعذب طويلاً بالرقاد، وهي التي كانت تقول: "الموت مكبّة من ذهب" صعدت روحها الى بارئها في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1976 بعد ان ظلت تتمتم "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك". وظلت ابتسامة الفرح بلقاء الله مرتسمة على وجهها الى الابد. كاتبة مصرية