كل أمة تنقش هويتها على صخور الزمن، لكنها لا تصقل إلا حين تتعانق السلطة بالحكمة، ويقف التاريخ متأملًا أمام لحظة التقاء الإرادة الشعبية مع القيادة، فترسم بيعة ليست مجرد إجراء سياسي، بل ميثاق تتجدد فيه الشرعية، ويتعانق فيه الولاء بالرؤية، وتتحول السلطة من مجرد حكم إلى مشروع وجودي تتفاعل فيه الأقدار مع الإرادة البشرية. حين نسترجع ذكرى بيعة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لا ننظر إليها كحدث في روزنامة السياسة، بل كعلامة فارقة في السردية السعودية الحديثة، لحظة خرجت فيها المملكة من أسر التقليد نحو أفق التجديد، من الركون إلى الممكن إلى اقتحام المستحيل. كأن التاريخ ذاته خضع لعملية إعادة تشكيل، ليعيد كتابة ذاته بمداد الطموح، لا بالحبر المعتاد. ولي العهد، في نظر المراقب العابر، هو رجل السلطة وصانع القرار، لكن في عين من يدرك عمق التحولات، هو مهندس التحول ومؤرخ المستقبل. في مشروعه، لا تنفصل السياسة عن الاقتصاد، ولا تنعزل الرؤية عن الواقع، ولا ينفصل التراث عن الحداثة. إنما هي معادلة دقيقة، تسير فيها السعودية على حبل مشدود بين الأصالة والمعاصرة، بثقة من يدرك أن التوازن ليس في الثبات، بل في الحركة الذكية، والقدرة على توجيه العواصف بدل الانحناء لها. هذه البيعة، هي أيضًا امتداد لعقد مستمر بين القيادة والشعب، عقد لا يقوم على الإجبار، بل على الفهم المتبادل، حيث تصبح الأهداف الجماعية ليست فقط التزامات دولة، بل أحلام أمة، تبنى لا على التمنيات، بل على الحقائق التي تفرض ذاتها عبر التخطيط والرؤية والعمل المستمر. السعودية، في عهد ولي العهد، لم تعد مجرد كيان سياسي يتعامل مع متغيرات العالم، بل تحولت إلى فاعل رئيس، يحدث الأثر قبل أن يتأثر، يصنع التغيير بدل أن يكون مجرد مستجيب له. من الاقتصاد إلى الثقافة، من السياسة إلى التكنولوجيا، من القوة الناعمة إلى مراكز التأثير الصلبة، لم تعد المملكة رقمًا في معادلة الشرق الأوسط، بل أصبحت رقمًا صعبًا في معادلة العالم. هكذا، حين نحيي ذكرى البيعة، لا نحيي رجلا بقدر ما نحيي مشروعا، بقدر ما نؤكد على أن المستقبل ليس هبة من الغيب، بل هو قرار يصنع اليوم، وحين تكون الأقدار بيد من يجرؤ، يكون الغد ممهدًا لأولئك الذين لا يخشون رسم الطريق بأنفسهم. في ذكرى البيعة، لا نقف عند لحظة ولاء جامدة، بل عند نقطة انطلاق متجددة، حيث يتقاطع الزمن مع الإرادة، في لحظة تتكرر سنويا، لكنها في كل مرة تأخذ معنى جديدًا، أكثر عمقًا، وأقرب إلى الحقيقة التي نراها تتشكل أمامنا كل يوم.