في صفحات التاريخ تبرز أسماء لامعة تركت بصمة لا تُمحى، وكان لها دورٌ بارز في صياغة حاضر ومستقبل الأوطان. ومن بين هذه الشخصيات التي يُفتخر بها القاضي عبدالله بن محمد الخرجي — رجلٌ جمع بين العلم والورع، وبين القضاء والتعليم، حتى صار معلمًا للملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ومثالًا يحتذى به في العدل والحكمة. وُلد القاضي عبدالله بن محمد الخرجي في بيئة يغلب عليها الطابع العلمي والتدين، حيث نشأ في كنف أسرة عُرفت بتمسكها القوي بالقيم الإسلامية وحرصها على تقدير العلم ونشره. انعكست هذه البيئة على تكوينه الفكري منذ صغره، إذ ظهرت عليه ملامح الذكاء والنجابة مبكرًا، ما جعل أسرته تولي تعليمه اهتمامًا خاصًا. تلقى الخرجي تعليمه على أيدي مجموعة من كبار العلماء في عصره، الذين ساهموا في تنمية معارفه وصقل شخصيته العلمية. وقد اتسم بذاكرة قوية وقدرة مدهشة على الحفظ، ما ساعده على استيعاب العلوم المختلفة بسرعة وإتقان. حرص على حضور حلقات العلم، لا سيما في الفقه والحديث، وكان ملازمًا لمجالس العلماء، مستفيدًا من خبراتهم ومعارفهم، الأمر الذي ساهم في تشكيل خلفيته العلمية والشرعية المتينة. لقد أثمرت هذه الرحلة التعليمية عن بروز الخرجي لاحقًا كواحد من أبرز القضاة والعلماء، بفضل ما امتلكه من علم راسخ، وأخلاق قويمة، ونظرة فقهية ناضجة، ما أهّله ليكون مرجعًا موثوقًا في مجاله، ويترك بصمة واضحة في مسيرة القضاء والعلم. عُرف القاضي عبدالله بن محمد الخرجي بحياته البسيطة رغم مكانته المرموقة. كان مثالًا للتواضع، يعيش حياته وفق مبادئ العدل والرحمة التي طبقها في عمله. أحب أسرته بشدة وحرص على تربيتهم على نفس القيم التي نشأ عليها. كان مجلسه عامرًا بالطلاب والباحثين، حيث يقدم لهم العلم والموعظة، ويحثهم على السعي للمعرفة والتمسك بالحق. بعد أن تميز في العلم والتعليم، تولى القاضي عبدالله بن محمد الخرجي منصب القضاء، حيث عُرف بحكمته ونزاهته. كان فارسًا في ميدان العدالة، لا يخشى في الحق لومة لائم، يتوخى الدقة والإنصاف في أحكامه، ويسعى لإيصال الحقوق لأصحابها. استطاع القاضي الخرجي أن يوازن بين شدة العدل ولين الرحمة، فكان يُقدر الظروف، ويطبق الشرع بما يحقق الإنصاف، وهو ما أكسبه احترام الجميع من العامة والحكام على حد سواء. لم يكن القاضي عبدالله بن محمد الخرجي شخصية عابرة في تاريخ المملكة، بل شكّل جزءًا من نسيجها الثقافي والقضائي. بقيت ذكراه حية من خلال الأثر الذي تركه في نفس الملك عبدالعزيز، وفي نفوس من عاصروه وتعلموا منه. القاضي الخرجي ليس مجرد اسم في قائمة القضاة، بل هو نموذج للعالم العادل والمربي الفاضل الذي حمل رسالة العلم والعدل بأمانة وإخلاص. رحم الله القاضي عبدالله بن محمد الخرجي، وجزاه عن علمه وتعليمه خير الجزاء، وجعل إرثه العلمي والقضائي نورًا يهتدي به من يسلك طريق العدل والمعرفة.