في عام 1952 تلقيت خطاباً دورياً من عمان قال فيه مرسله أنه يعتزم اصدار مجلة أدبية شهرية وأنه يرحّب بمساهمات الأدباء من جميع الأقطار العربية، وكان اسم صاحب الخطاب معروفاً لي، لأنه كان ينشر فصولاً كثيرة في المجلات الأدبية، وخصوصاً اللبنانية، ولكنني كنت حتى ذلك الوقت مبثوث الصلة الشخصية به، فكتبت رسالة الى هذا الأديب الأردني - اسمه عيسى الناعوري - رحّبت فيها بدعوته للكتابة في مجلته "القلم الجديد" ولكنني رجوته إمهالي الى أن أطلع على أعدادها بعد صدورها للوقوف على مشاربها واتجاهاتها والتثبّت من أنها مجلة خالصة للأدب بريئة من أي اتجاهات سياسية وحزبية أو عقائدية علّمتني تجارب الحياة أن أنفر منها. وفي شهر أيلول سبتمبر 1952 صدر العدد الأول من "القلم الجديد" حاملاً رسالة أدبية طموحاً، ولكن طباعة المجلة المتواضعة وَشَتْ بقلة الموارد التي يُنفق منها على اخراجها، فهي من قبل ومن بعد جهد فردي، والناعوري لا يستعين في اصدار المجلة إلاّ بنفسه، فليس لديه مساعدون أو أجهزة تلاحق المطبعة، وتراجع التجارب، وتشتري ورق الطباعة، وتشرف على التوزيع والاشتراكات والحسابات، وما الى ذلك من الأمور التحريرية والإدارية. ولكن المستوى الأدبي للمجلة كان يغري بالاستجابة لدعوة محررها، فوافيته ببضع مقالات نشرها في أعدادها التالية. ولعل أبرز عددين صدرا من مجلة "القلم الجديد" هما العدد الخاص الذي وقفه الناعوري على أدب المهجر - ولم يكن معظم أدباء المهجر في ذلك الوقت معروفين في الوطن - فجاء العدد حاملاً نتاج كثيرين من شعراء المهجر وكتّابه، فكان هذا العمل فتحاً مبيناً في الصحافة الأدبية. أما العدد الخاص الثاني فقد وقفه على الحياة الأدبية في الأردن، ومنه استزدنا متابعةً لأدباء ذلك القطر. ولكن المجلات الأدبية التي تقوم على الجهد الفردي موعودة بالموت المبكر، فلم يطل عمر "القلم الجديد" عن سنة واحدة، إذ ظهر آخر أعدادها في آب أغسطس 1953. وكان من فضل هذه المجلة عليّ أن توثقت صلتي بعيسى الناعوري، فاكتشفت أنه يقوم بحق بدور السفير الأدبي بحكم صلاته الواسعة بأدباء العالم العربي والمهاجر والمستشرقين، كما أنه كان متعدد المواهب: يكتب الدراسات الأدبية والنقدية، وينظم الشعر، ويترجم، ويؤلف الروايات الطويلة، ويعالج أدب الرحلات من واقع أسفاره الكثيرة، ويتناول السير والتراجم، بل لقد سجل سيرته الذاتية في كتاب عنوانه "الشريط الأسود". كما كان كثير المشاركة في المؤتمرات الأدبية في الداخل والخارج، وكانت له زاوية منتظمة في الصحف الأردنية يعالج فيها قضايا الأدب والأدباء. وكنت أشفق عليه من كل هذا النشاط الذي كان يبذله الى جانب عمله الحكومي مدرّساً ثم موظفاً في وزارة التربية، وكنت أقول له مازحاً، "لو كنت وزيرك المؤزّر لألزمتك حدود الوظيفة، ولما وافقت على رحلاتك الكثيرة الى الخارج التي تجيء على حساب عملك". أما ردّه العملي على هذه المداعبة، فهو "إغراقي" ببطاقات من كثير من البلدان التي زارها، الولاياتالمتحدة، روسيا والمجر ويوغسلافيا وتايوان والصين وايطاليا وفرنسا وهلم جرا. عيسى الناعوري معروف في مصر على نطاق واسع مع أنه نشر بعض كتبه في السلسلة الشعبية "اقرأ" الصادرة عن دار المعارف، ولكن حدث أن توافقت زيارة الشاعر القروي رشيد سليم الخوري 1887 - 1984 للقاهرة بدعوة رسمية من حكومة الوحدة المصرية السورية مع صدور الطبعة الأولى من كتاب الناعوري "أدب المهجر" عن دار المعارف. ورغبت الدار في الترحيب بالشاعر القروي فأقامت حفلاً لتكريمه في مقرها دعت اليه جمهرةً كبيرة من الأدباء، كنت من جملتهم. ووقف صاحب الدار شفيق متري ت 1994 يرحب بالمدعوين، ثم قال: ان الدار يسعدها أن تهدي جميع الحاضرين نسخاً من كتاب "أدب المهجر" للناعوري الصادر تواً من المطبعة. وقام موظفو الدار بتقديم نسخ الكتاب الذي طبع ثلاث مرات بتوسّع في كل طبعة الى الحاضرين الذين حملوه معهم تذكاراً لهذه الأمسية الجميلة التي لم تتكرر بعد ذلك. وعندما وصفت أخبار هذا الحفل للناعوري، سعد به كثيراً وقال: إن كل أدباء مصر يعرفونه الآن بفضل هذه الدعاية التي لم يسع اليها. تواتر البريد بيني وبين الناعوري، فكان سبيلاً الى التنامي وتبادل الآراء والتعليق على الأوضاع الأدبية عامة وفي بلدينا بصورة خاصة، وكثيراً ما كان يجد في رسائلي مادةً للتعقيب عليها في زاويته التي كان يحررها في الصحف الأردنية، وهكذا كانت الهموم التي أعبّر عنها في اطار أخوي تحوّل الى هموم عامة يُشرك فيها قراءه. بعث إليّ مرّة بمخطوطة رواية ألفها عنوانها "ليلة في القطار" راجياً أن أكتب مقدّمة لها، وقال انها رواية واقعية عاش بنفسه جميع تفاصيلها. فقد كان مسافراً بالقطار الليلي بين مدينتين ايطاليتين، وجاءت راكبة إيطالية لتشاركه المقصورة، وكان طبيعياً أن يتبادلا عبارات التعارف المعتادة، ولكن الراكبة الجريئة بدأت تجرّب معه كل أساليب الإغواء رغبةً في ايقاعه في شراكها. فالرحلة طويلة، والخلوة مكفولة، والإضاءة خافتة والرغبة مشتعلة، ولكن "البطل" أراد أن يلقن هذه الفرنجية درساً في شهامة العربي وأخلاقه، فتأبّى عليها متذكراً أن له في بلاده زوجةً وأولاداً يفرضون عليه التعفف. ولكن لأن الناعوري أسهب اسهاباً صريحاً في تصوير ما تعرّض له من اغراءات، فقد رجوته اعفائي من كتابة المقدمة المطلوبة. وعندما أهداني نسخة من الرواية المطبوعة سجّل في الإهداء عبارة "أقدم هذه الرواية التي أبى أن يكتب يوماً مقدّمتها لأنها في رأيه جديرة بمطاردة بوليس الآداب لها!". وكان تعليق الأديب الأردني الدكتور عبدالرحمن ياغي انها ليست رواية بل "حديث خاص بين اثنين: رجل شرقي وامرأة غربية، ولذلك لا شأن للقراء به، وكان من حقها أن تطبع منها نسختان فقط، واحدة للرجل وواحدة لصاحبته". وأقول من قبيل الاستطراد أن الدكتور محمد مندور 1907-1965 كان معهوداً اليه في اجازة المسرحيات التي تمثل على مسارح الدولة. وذات يوم، عُرضت عليه مسرحية من تأليف أستاذ جامعي وناقد معروف، فلمّا قرأها مندور دوّن عليها عبارة "تحال الى بوليس الآداب!" فانفجرت بينه وبين هذا الجامعي معارك على صفحات الصحف لم تتوقف إلاّ بوفاة مندور. كان عيسى الناعوري يحسن الظن بجميع أدباء المهجر وشعرائه ويثني عليهم لأنهم حافظوا على الضاد في دنيا لا تعرف إلاّ الدال، وأقاموا للأدب المهجري صرحاً لا يقلّ رسوخاً عن أدب الوطن، ولكنه لم يثبت على هذا الرأي عندما أصدر الطبقة الثالثة من كتابه "أدب المهجر" فقسا على كبار الشعراء منهم ووصفهم بالعنترية والنثرية والركاكة. وقال "ان ممّا يؤسف له أن جورج صيدح 1893-1978 مثل القروي والياس فرحات 1893-1976 ومن بقي من شيوخ المهجر - لم يستطع أن يقدّم معنى جديداً ولا شعراً نابضاً بمثل الحيوية القديمة وخصوصاً في وطنياته. ممّا يدل على أن عهد الشعر الجيد عند صيدح قد ذبل وانتهى أمره". وأعتقد شخصياً أنه كان متعجلاً في اصدار هذا الحكم الجائر، ولهذا لم يدهشني أن يثور عليه هذا الثالوث المهجري، وكان أشرسهم هجوماً على الناعوري الشاعر جورج صيدح الذي نظم قصيدة طويلة في هجائه، أتخيّر منها أخفّ أبياتها وطأة، حيث قال: قل "لعيسى" القديم إنّي مُحبٌّ أتعامَى عن "الجديد" المرائي مَنْ رَأَوْهُ يحقّر الشعرَ قالوا خنفشار صين شعر الكسائي ليت طرفيَّ أغمضا قبل يوم فيه بانت عداوة الأصدقاء! وحياة الناعوري المولود في الناعورة بالأردن عام 1918 لا تخلو من عصامية. فقد كان تعليم متوسطاً ولم يدخل أي جامعة. ولكنه اعتمد على نفسه في تثقيف نفسه حتى أجاد اللغتين الإيطالية والإنكليزية وبات يترجم عنهما ويكتب بهما، واختاره مجمع اللغة العربية عضواً مؤسساً فيه عند انشائه في عام 1976 وشارك في وضع النظام الأساسي للمجمع وأسندت اليه أمانته العامة. ومنح درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة باليرمو وكذلك من الأكاديمية العالية للفنون والثقافة في تايبه فورموزه. واختير عضو شرف في المركز الإيطالي العربي في روما. وكان العضو الأردني التقليدي في جميع مؤتمرات الأدباء العرب وفي غيرها من المؤتمرات الثقافية التي شارك فيها بإسم الأردن، بل ان وفاته اقترنت بواحدٍ من هذه المؤتمرات. فقد كنت مدعوّاً مثله الى مهرجان في تونس دعت اليه مجلة "الفكر" بمناسبة احتفالها بمرور ثلاثة عقود على اصدارها، وتواعدنا على اللقاء هناك، وإنْ كان هو سبقني بيومين ليشارك في ندوة ثلاثية مع المستشرق جاك بيرك ت 1995 وصاحب مجلة "الفكر" محمد مزالي. فلما وصل من عمّان الى الفندق، هاجمته أزمة قلبية فاضت روحه على أثرها في الرابع من تشرين الأول أوكتوبر 1985، ولمّا استفسرت عنه بمجرد وصولي الى المطار في السادس من الشهر، قيل لي أنه أخلف موعده، وللمرة الأولى والأخيرة، معي، وارتأى المحتفون وقتها أن يكتموا خبر الوفاة حتى لا تخيّم سحابة من الحزن على "المتمهرجين". وكان الناعوري يرى أن البلاد العربية كلها وطن واحد له، فنشر كتبه في مصر والأردنوتونس وسورية ولبنان، ولا أظنني مخطئاً ان قلت انه صاحب أكبر رصيد من المؤلفات بين جميع مواطنيه الأردنيين، ففي الأدب الروائي نشر أربع روايات طوال هي "جراح جديدة" و"ليلة في القطار" و"بيت وراء الحدود" و"مارس يحرق معداته"، ونشر مجموعات من الأقاصيص هي "طريق الشوك" و"أقاصيص أردنية" و"بطولات عربية" و"عائد الى الميدان" و"حكايات جديدة" و"خلّي السيف يقول"، كما ترجم عن الإيطالية روايات "الفهد" و"فونتمارا" و"الرجال والرفض" و"أطفال وعجائز" وترجم كذلك "مختارات من الشعر الإيطالي". أما في السيرة، فقد ألف كتباً عن ايليا أبو ماضي والياس فرحات وكتاباً عنوانه "أدباء من الشرق والغرب" وكتيّباً عن الشاعر الإيطالي أيوجينيو مونتالي بمناسبة فوزه فجائزة نوبل، عدا سيرته الذاتية الموسومة "الشريط الأسود". وفي الشعر أصدر أربعة دواوين هي "الأغاريد" و"أخي الإنسان" و"أناشيدي" و"أناشيد أخرى". أما كتب الدراسات الأدبية فمنها "أدب المهجر" و"مهجريات" و"نحو نقد أدبي معاصر" و"الحركة الشعرية في الضفة الشرقية" و"مع الكتب والناس والحياة" و"دراسات في الآداب الأجنبية" و"دراسات في الأدب الإيطالي". كما شارك في تأليف كتاب "ثقافتنا في خمسين عاماً"، وله كتابان في الرحلات هما "في ربوع الأندلس" و"مذكرات بلغارية". وكان الناعوري قد أنبأني بأنه سيهدي مكتبته الخاصة الى مجمع اللغة العربية الأردني، أما مجموعة الرسائل الأدبية التي كان يحتفظ بها وهي آلاف مؤلّفة فلا أدري ما هو مصيرها، وخسارة أن تتعرّض للإهمال. التقيت مرات بالناعوري خلال أكثر من ثلاثين عاماً من الصداقة الوثيقة، فكان في لقاءاته عفوياً عاطفياً، يُقبل عليك بقلب مفتوح وروح جياشة بالحبّ، تسبقه أريحيّاته ويمدّ اليك صدراً قبل المصافحة باليدين، لم تترك السنون آثارها على وجهه البشوش على الرغم من الجراحات التي أجريت له، وبقي دائماً ممشوق القامة قوي العارضة شديد الثقة بنفسه ولكن من دون تفاخر، سحب القلم كلّ عمره، ونذر للثقافة كل أيامه، وأنشأ جسوراً من التفاهم بين الغرب والشرق، ولم تنسه قضايا الثقافة قضايا أمّته فشارك فيها شاعراً وأديباً وإنساناً. * كاتب مصري