لولا الخوف من الوقوع في المبالغة والشطط، لأمكن القول إن سيرة الشعر العربي المعاصر والحديث هي سيرة لبنانية في محطاتها الأساسية، رغم الجهد المميّز لقطرين عربيين آخرين هما العراق ومصر في هذه السيرة. ولكن لبنان كان الأكثر تميزاً وتألقاً استناداً إلى صلاته المبكرة بالأوروبيين عن طريق بعثاتهم التعليمية المبكرة التي أنشأت مدارسها في بيروت والجبل، فكانت مدخلاً لنفاذ الحضارة الحديثة إليه، ومنها الثقافة والفنون والآداب. بداية نلاحظ أن شعر الإحياء الذي بدأ بمحمود سامي البارودي في مصر، في أواخر القرن التاسع عشر، كان يماثله في لبنان شعر ناصيف وإبراهيم اليازجي، فقد نهجا نهج النظم على الأسلوب القديم الذي مهّد الطريق لبدايات التجديد التي تمثلت بقافلة شعراء كان منهم الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري الذي تحلقت حوله، وحول جريدته «البرق» نخبة من الشعراء الجدد كان منهم الياس أبو شبكة وسعيد عقل اللذان وُهب لهما حظ متابعة سبيل التحديد فيما بعد، ووصولهما فيه إلى غايات متقدمة، والواقع أن جريدة «البرق» للأخطل الصغير، وإن لم تكن جريدة شعرية أو أدبية خالصة، إلا أنها كانت مهتمة بالشعر والأدب بحكم كون صاحبها شاعراً. وفي إدارتها في بيروت كانت هناك ندوة أدبية دائمة لأدباء وشعراء لبنان وللأدباء والشعراء العرب الذين يزورون بيروت، وفي الطليعة أدباء الشام والعراق، وكل ذلك يجعل من إدارة «البرق» الخلية الشعرية والأدبية الأولى في بيروت في الربع الأول من القرن العشرين. وإلى جانب هذه «الخلية» النشطة وذات الأفق العروبي المتطلع إلى التجديد، وُجدت ابتداءً من العشرينيات من القرن الماضي، خلايا شعرية وأدبية أخرى لها نفس المقاصد والأهداف، منها مجلة «المعرض» لصاحبها الشاعر ميشال أبو شهلا، التي كان يقصدها أمير الشعراء شوقي عندما كان يزور لبنان، ومنها مجلة «المكشوف» التي كان يكتب فيها أبو شبكة ويوسف غصوب وسواهما من الشعراء الطليعيين الآخرين. وما أن انتصف القرن العشرون حتى كان للبنان منابر أدبية أخرى منها «الآداب» و«الأديب» و«الطريق» و«شعر» و«الورود» و«الحكمة» وسواها. وكلها أسهمت أيما اسهام في النهضة الأدبية العربية، كما كان لبعضها دور في الشعر والتنظير الشعري، وبخاصة «الآداب» و«شعر» على تمايز بين الدورَين. بودلير وكان للبنان أندلساته المبكرة على هذا الصعيد، ومنها مصر. ففي مصر بنى اللبنانيون مبكراً منابر صحفية أدبية وثقافية معروفة حملت جديداً للشعر والأدب كان منها «المجلة المصرية» و«المتقطف» و«الهلال» و«الزهور». في «المجلة المصرية» يكتب خليل مطران (الذي ينعته طه حسين بالشاعر المجدد الأول في الشعر العربي المعاصر) في سنة 1900م سلسلة مقالات يقرّر فيها معالم نهجه الفني الجديد الذي سلكه ويسلكه في شعره: «هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح في اللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه..، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشغوفه عن الشعور الحر، وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر». وقد كان لهذا المنهج الجديد في إدراك الشعر وبناء القصيدة أثره في كثير من الشعراء عاصروا مطران وتتلمذوا عليه وعلى شعره، وبخاصة بعض شعراء (أبولو) ممن تجلت في نتاجهم نزعة رمزية مبكرة. والمعروف أن مطران هو الذي حمل معه إلى مصر بذور الرومانسية التي تجلت في شعره المبكر (ومنه قصيدة المساء) التي تأثر بها جيل كامل من الشعراء المصريين والعرب يومها. وقامت نظائر لمحاولة مطران في الأمريكيتين تمثلت في حركة الشعر المهجري (الرابطة القلمية في نيويورك والعصبة الأندلسية في سان باولو بالبرازيل) وهي الحركة التي شكلت عدوى للشعراء وحركات شعرية في العالم العربي، التي انطلقت، إلى حد ما، من قيود اللغة، وكان من نتيجة ذلك أدب بدأ يفرض سيطرته على العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. حتى إذا انهارت الرابطة القلمية وانتشر عقد زعماء المدرسة العربية بأمريكا، قامت في لبنان والشام ومصر، محاولات شعرية هي وسط بين اتجاه مطران والاتجاه المهجري (وكلاهما لبناني الأصل) تمثل في آثار عمر أبو ريشة والياس فياض وأمين نخلة وحبيب ثابت وسعيد عقل وصلاح لبكي، والياس خليل زخريا، وبشر فارس في مصر، وهو لبناني الأصل. وفي مصر كانت «المقتطف» التي أُنشئت في بيرون سنة 1876م ثم انتقلت إلى مصر في سنتها التاسعة، أسبق من غيرها في احتضان النتاج الرمزي فنشرت سنة 1928م قصيدة ذات مسحة رمزية لبشر فارس عنوانها (الخريف في باريس). ثم أخذت «المقتطف» منذ بداية الثلاثينات تقسم صفحاتها لترجمات رمزية من شعر رامبو وبودلير وفرلين وفاليري وسواهم. ويبدو أن هناك صلة ما بين انطلاقة الرمزية في مصر على يد الشاعر بشر فارس وانطلاقتها في لبنان في العام نفسه، أي عام 1928م، على يد الشاعر أديب مظهر في قصيدته (نشيد السكون). وبدأت هذه الشرارة تفعل فعلها في ناشئة لبنان من الشعراء، وبخاصةٍ أن مسائل الاطلاع على نماذج هذا المذهب وغيره من المذاهب الأدبية كانت قد تهيأت للبنان أكثر مما تهيأت لغيره من بيئات الإبداع العربي، بعد أن توطد نفوذ الثقافة الفرنسية فيه إبان الانتداب. وهكذا، وفي ظل هذا الزخم أُتيح للشاعر سعيد عقل أن ينظم مطولاته الشعرية (قدموس وبنت يفتاح ومريم المجدلية) كما أُتيح لصلاح لبكي أن ينظم مجموعته الشعرية (أرجوحة القمر) سنة 1938م. سعيد عقل وفي بداية الخمسينات يصدر الناقد المصري محمود مندور كتابه (في الميزان الجديد) وفيه يُعلي من شأن شعراء المهجر مُطلقاً عبارة «الشعر المهموس» على كثير من أعمالهم ودواوينهم الشعرية مثل شعر جبران وشعر نعيمة في ديوانه «همس الجفون»، ويتابع هذا الثناء في أعمال نقدية لاحقة له. ويقف طه حسين وقفة مطولة مع ملحمة فوزي المعلوف (على بساط الريح» ويعدها فتحاً في الشعر العربي. ويقف آخرون نفس الوقفة مع ملحمة شقيقه شفيق المعلوف (عبقر). ويرى كثيرون أن بدايات التجديد في أشكال ومضامين الشعر العربي بدأت مع شعراء المهجر قبل سواهم. وترى الناقدة الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي أن شعر التفعيلة بدأ في لبنان لا في سواه، وأن علينا أن نلتمس هذه البداية عند الشاعرين غنطوس الرامي وفؤاد الخشن قبل أن نلتمسها عند سواهما من رواد هذا الشعر. وعلى الرغم من أن مياهاً كثيرة قد مرّت في نهر الشعر العربي في القرن العشرين وصولاً إلى يومنا هذا، إلا أن الباحث المصري الدكتور محمد فتوح أحمد يتوقف ملياً في كتابه (الحداثة الشعرية/ الأصول والتجليات) عند جهد شعراء لبنان في النهضة الشعرية المعاصرة، وبخاصةً عند الشاعر سعيد عقل بالذات، ودوره البارز في الحداثة الشعرية العربية: يتحدث عن إحساسه بالأصوات ودقة توزيعها في البيت الشعري، «فشعُرُه محاولة لهندسة صوتية يراد بها تجاوز الدلالة الوضعية للكلمة والرجوع بها إلى عهدها الأول يوم كانت بنت التفاهم البدائي، مجرد أصوات تتساوى في الجوهر مع الشيء المقصود إظهاره. فمهمة الفن، كما يقول، أن ينتقي ويرتب، بحيث يُوجد تركيباً كلاميا موسيقيا فيه من الأصوات، تمازجها أو التنادي، جهيرها أو الخفيت، مقتضبها أو المنبسط، إلى ألف لعب ولعب، ما يؤلف صيغاً صوتية تعيد بين الكلام والمقصود إظهاره رابطة فيزيولوجية سبق للتدخل العقلي أن فصمها. وبقدر ما يوفق الفن إلى ذلك، تكون درجة الخلوص في الشعر». وهو كلام كان - وما زال - جديداً في بابه ولم يتجاوزه كلام اللاحقين. اسهم لبنان اسهاماً كبيراً في الشعر العربي في القرن العشرين، وفي التنظير له وفي تحديثه، بل أن من الممكن اعتباره بيئة شعرية وورشة شعرية في الوقت عينه. وإلى وقت قريب لعبت مجلتان شعريتان لبنانيتان هما «الآداب» و«شعر» دوراً مهماً في تطور الشعر العربي وتحديثه، على تفاوت وتباين بينهما. فبينما كانت (الآداب) حريصة على أصالة الشعر العربي وتجديده في آن، ومن أجل ذلك كانت حاضنة هذا الشعر الأولى لمدة زمنية تقرب من نصف قرن، أدارت «شعر» ظهرها للماضي بكل أشكاله وصوره، ودعت إلى بناء الحداثة الشعرية العربية في أفق شعراء الغرب، وهو ما أثار ريبة واستغراب كثيرين. ولكن هذه البوصلة غير السوية ل «شعر» لم تكن ضرراً كاملاً، فقد كان لها دور تحريضي على التساؤل وإعادة النظر بكثير من المسلمات وفحصها. وإذا كان أحد لا ينكر أدواراً أخرى كثيرة الأهمية لعواصم عربية مختلفة في تجديد وتحديث الشعر العربي، فإن الدور اللبناني سواء في لبنان بالذات أو في الأندلسات اللبنانية الأخرى، يبقى الدور الأول أو الأبرز على هذا الصعيد.