في مبادرة أكاديمية لتسليط الضوء على تجربة بناء الدولة الوطنية تحت قيادة الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة ناقش باحثون وسياسيون ووزراء سابقون جوانب مختلفة من "الحقبة البورقيبية" التي استمرت ثلاثة عقود 1957 - 1987 في اطار حلقة دراسية أقامتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في زغوان تونس مطلع الشهر الجاري. اشتملت الحلقة الدراسية التي أتت بعد نسيان استمر منذ تنحيته في 7 تشرين الثاني نوفمبر العام 1987 على تسع جلسات قدم خلالها مؤرخون وعلماء اجتماع 20 بحثاً عن علاقة الزعيم التونسي بأوروبا ومواقفه المتغيرة من العرب والوحدة العربية خصوصاً الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر والظروف التي سن في ظلها أول مجلة أحوال شخصية في العالم العربي وصدامه مع علماء جامعة الزيتونة ومفاهيمه للزعامة التي كانت مرادفة لابوة الشعب والأمة. وحاول وزير الثقافة في عهد بورقيبة بشير بن سلامة ان يثبت في بحثه عن "الأسس الفكرية لبناء الدولة التونسية ودور بورقيبة فيه" ان مشروعاً جاهزاً للحكم كان ينام في ذهن بورقيبة ورفاقه من قادة الحركة الوطنية قبل الاستقلال 1956. واستند بن سلامة على كتابات المحامي بورقيبة ليؤكد انه لم يكن ينظر الى "الشخصية التونسية" الا بوصفها شخصية عربية اسلامية مستدلاً بمقال شهير كتبه في الثلاثينات دفاعاً عن الحجاب في وجه غلاة المستوطنين الفرنسيين. إلا أن الدين في فكر بورقيبة لم يكن اسلام الفقهاء المنغلقين وانما "الدين الذي يعتمد على الاجتهاد والتقدم". وفي هذا السياق ركز بن سلامة على دور الحملات التي شنها بورقيبة خصوصاً في العام 1933 على نزعات التجنيس التي كانت ترمي "لفرنسة التونسيين" وانعكاساتها في وقف تيار الهوية المزدوجة وتكريس السيادة الوطنية. لكن كيف انتقل زعيم الحركة الوطنية الى رئيس للحزب الواحد وصار يلاحق معارضيه؟ يجيب بن سلامة بأن الزعيم أعطى مكانة خاصة لوحدة الأرض والشعب في مجابهة الاحتلال وهو ما يسر لاحقاً إرساء نظام الحزب الواحد المستند على "الجبهة القومية". خطاب مزدوج على عكس بن سلامة رأى المؤرخ عبداللطيف الحناشي ان خطاب بورقيبة في شأن مفهوم الأمة كان مزدوجاً وأتى متناقضاً من مناسبة الى أخرى فهو شدد أحياناً على "الأمة التونسية" ورأى احياناً أخرى أن تونس جزء من الأمة العربية ودافع احياناً ثالثة عن "الشخصية التونسية المتميزة" في الاطار العربي. واللافت أن بورقيبة ربط موضوع الوحدة دائماً بالعراقيل التي تعيق تحقيقها خصوصاً العناصر السيكولوجية وقلة الاندماج الاقتصادي وعمق التفاوت بين البلدان العربية، لينتهي الى طرح بديله الشهير المعروف "بسياسة المراحل" التي تؤمن بضرورة الاعتراف بالكيانات السياسية القائمة. ورأى الحناشي ان بورقيبة وان كان يرفض الصيغة الاندماجية للوحدة فإنه قبل بها لدى اعلان الوحدة مع ليبيا في العام 1974 الا أنه تراجع عنها سريعاً. وفي هذا السياق اثار تفسير الدوافع التي حملت بورقيبة على القاء خطابه الشهير في أريحا العام 1965 الذي اثار سخطاً واسعاً في العواصم العربية جدلاً بين المشاركين. فذكر الدكتور التميمي ان الباهي الادغم أسرَّ له قبل وفاته بأن مستشار بورقيبة سيسل حوراني هو الذي أوحى له بمضمون الخطاب. بينما نفى الوزير السابق محمد الصياح، الذي يعتبر أقرب المقربين للرئيس السابق، هذا التفسير وأكد ان موقف بورقيبة من قضية فلسطين كان ثابتاً، اذ ظل يدعو الى اعتماد قرار التقسيم منذ نكبة 1948 الى أن ترك الحكم بعد أربعين سنة. أكثر من ذلك انتقد الباحث علي الزيدي موقف بورقيبة المتناقض من التعريب، اذ أنه أعلن في العام 1958 عن خطة شاملة لاصلاح التعليم تعتمد على اللغة العربية في مختلف المقررات الدراسية على أن يبقى استخدام الفرنسية "في صورة مؤقتة وعند الاقتضاء ريثما تعد المدارس التكوينية الكادر التدريسي اللازم باللغة العربية في جميع التخصصات". واستدرك الزيدي مؤكداً أن "ما حدث في الواقع كان خلاف ذلك. فبعد عشر سنوات من الاعلان عن الخطة ظل تعريب التعليم الابتدائي مجمداً عند مستوى الصف الثاني وحذفت شعبة أ المعربة وأغلق باب البعثات الطلابية الى جامعات المشرق العربي، ما دل على أن هناك خطة أخرى غير معلنة ثم تنفيذها في الواقع". وربط الباحث بين هذه "الخطة" و"مشروع اصلاح التعليم في تونس" الذي وضعه الخبير الفرنسي جان دوبياس الذي نصح بدراسة المسألة اللغوية في تونس "من جميع جوانبها دراسة موضوعية" وأفتى بقصور العربية عن حمل مضامين الفكر العلمي والتقني وأشار بمتابعة تدريس العلوم والتقنية بالفرنسية. بورقيبيون وزيتونيون تجاوز الدكتور الحبيب الهيلة وهو أحد رموز الجامعة الزيتونية مشروع دوبياس وتداعياته ليضع الاصبع على الشرخ الثقافي داخل النخبة الوطنية بين الزيتونيين والحداثيين وكان الهيلة الوحيد الذي حاول التمييز بين بورقيبة والحزب الدستوري اذ اعتبر ان الحزب كان "افرازاً لحركات الاصلاح في مطلع القرن الحالي اما الحديث عن بورقيبة فهو يرتبط بالانتاج الأول للتعليم الثانوي والجامعي الفرنسي". وأوضح ان الخريجين التونسيين الأوائل من الجامعات الفرنسية كانوا يعتقدون انهم "النخبة الوحيدة التي عليها أن تغير المجتمع وكانت غالبية النخبة الزيتونية تسعى أيضاً للتغيير، لكن الاختلاف بينهما دار حول كيفية التغيير: هل الى مجتمع عصري يحافظ على الثقافة واللغة العربية والدين، وهو خيار الزيتونيين أم الى مجتمع عصري فرنسي اللغة غربي المناهج الفكرية والسلوكية مع تحرر من العروبة والدين وهو الخيار البورقيبي". ورأى الهيلة ان الصراع بين الفريقين الذي استمر 50 عاماً انتهى بانتصار "من كان قوياً بالسلطة والسلاح والدعم الخارجي" وذلك لأن تنفيذ مشروع دوبياس كان في مثابة حكم الاعدام الثقافي على الزيتونة، اذ اغلق بورقيبة الجامعة العريقة وانشأ نواة الجامعة التونسية التي كانت متصلة اتصالاً عضوياً بالجامعات الفرنسية. وأشار الباحث الى أن بورقيبة نفسه رأى في تصريح لصحيفة "لوموند" في 1976 ان ذلك القرار كان من أهم انجازاته الحضارية التي لم يفهم الغرب أبعادها. نقابات وليبراليون الى هذه الابعاد الثقافية في التجربة البورقيبية تطرقت ورقات أخرى الى جوانبها السياسية خصوصاً علاقات بورقيبة بالأحزاب والحركات العمالية والطالبية. وركزت ورقة سالم الأبيض على خصوبة الحياة السياسية في العقود الثلاثة من حكم بورقيبة على رغم "الانغلاق والتقوقع بل الاقصاء والتهميش لجميع مكونات المجتمع السياسي التي أظهرت اختلافاً مع سلطة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم". ورأى ان غالبية الأحزاب بقيت خارج اللعبة القانونية فيما عاشت الحركة الطلابية حال رفض متبادل بينها وبين الحكم طوال عقدين. وتطرقت ورقة مختار العياشي الى مشاركة الاتحاد العام التونسي للشغل في صنع القرار بعد الاستقلال وهو الذي كان شريكاً للحزب الدستوري في معركة التحرير، وأظهرت الورقة ان الاتحاد صار يقتصر على دعم خيارات الحكم باسم تعزيز اللحمة الوطنية خصوصاً في المجال الثقافي. وتناولت ورقة علية العلاني علاقة بورقيبة بالتيار الليبرالي الذي أفرزه مؤتمر الحزب الدستوري العام 1971 وحمله على تقديم تنازلات لم يكن قابلاً بها لجهة تكريس قيادة جماعية للحزب واعطاء صلاحيات أوسع للحكومة ومجلس النواب، إلا أنه هزم معارضيه وطردهم من الحزب في المؤتمر التالي 1974. ورأى الباحث ان الصراع بين التيارين الليبرالي بزعامة أحمد المستيري والمحافظ بزعامة الهادي نويرة كان محركه الأساسي حرب الخلافة. وعزا فشل الليبراليين الى كونهم لم يملكوا وسائل ضغط مثل التي كان يملكها الجناح الآخر الذي سيطر على المناصب الحساسة في الحزب والدولة، وكذلك لمراهنة التيار الليبرالي على التغيير من داخل الحزب بشكل سلمي ومؤسسي.