طمس التونسيون بحركتهم الأخيرة كلمة الحبيب بو رقيبة حينما قال عنهم إنهم كانوا: "ذرّات جاء فأحياها" وبأن البورقيبة هي:"تونس وبأن تونس هي البورقيبة"؛ طمسوا ذلك الزعم إلى الأبد، أخذت تونس خياراً شعبياً قوامه نزع الرئيس عن سدة عرشه، ليدخل الشعب في صميم تشكيل البلاد، وهي الحركة الأشجع والأكثر ضراوةً في تاريخ العرب الحديث. ثمة طريقة صبغت الحالة السياسية التونسية هي حالة "الاستئصال"؛ كفاح الحبيب بورقيبة من أجل الاستقلال الذي حصلت عليه تونس في 20-3-1956 لم يثمر عن حريات عريضة في تونس، بل امتد بطش بورقيبة بالمعارضين له، بدأه بتصفيات شملت حتى صالح يوسف الذي اغتيل في ألمانيا بإذنٍ صدر منه وهو ضمن جناح معارض داخل الحزب "الدستوري" الحاكم. وإذا أردنا أن نقرأ تاريخ ظاهرة "الاستئصال" في تاريخ تونس السياسي نجده في الاستثمار السياسي الذي مارسه الحبيب بو رقيبة سنة 1962 في سبيل قمع الحزب الشيوعي، ليلغي على خلفية المحاولة حريات الإعلام ومظاهرة التعددية الحزبية وليجعل من حزبه حاكماً يمسك بجميع أجهزة الدولة، ليكون هو المفتي والحاكم والمثقف الأوحد في تونس واطئاً إرادة الشعب، لتكون جمهورية "بورقيبة" بدلاً من كونها وطناً "تونسية". بلغت ذروة امتلاك بورقيبة لمفاصل تونس بإجراء تعديل على الدستور التونسي في 27-12-1974 ليكون الرئيس حاكماً لتونس مدى الحياة، وكالعادة أحداث الطغيان لا تثمر إلا عن طغيانٍ آخر؛ اندلعت شرارات العنف، وتمردت تيارات كثيرة على سياسة "الاستئصال" من حركات قومية وشيوعية وإسلامية، وهي أحداث كثيرة طبعت تاريخ تونس الحديث. ساهمت استفزازات مارستها النظرية "البورقيبية" في تأجيج غضب الشعب التونسي في غالبه، لكنه بقي منصاعاً للنظام العلماني التونسي مرغماً، وصمت بعد أحداث عنف واستئصال مورست من قبل النظام، تمددت النظرية "البورقيبية" ليلقى هو حتفه بما جنته عليه نظريته حين أعلن زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر 1978 عن عجز الحبيب بورقيبة عن آداء مهامه، كان "الانقلاب غير الدموي" ثمرة ثقافة "الاستئصال" التي سار عليها النظام السياسي في تونس، ولئن لم يصل الإسلاميون إلى سدة الحكم غير أن وصول سليل البورقيبية الاستئصالية كان إيذاناً بدخول تونس في "زمن الغياب" وهو ما جعل من زين العابدين بن علي رئيساً انتظر نموّ عظام الأبناء الذين ولدوا سنة ولايته ليبدؤوا ثورتهم الكاسحة بعد بلوغ أغلبهم سنّ العشرين مطيحين به في ثورة هي الثورة الشعبية الأساسية عربياً، ليرحل عن تونس في حالة درامية في 14 يناير 2011، ليفتتح التونسيون سنتهم الجديدة على أنقاض نظام الاستئصال البورقيبي اللابس أردية "علمانية ديكتاتورية". لم تكن ثورة تونس علمانية أو إسلامية أو قومية، بل كانت ثورة عادية من العاملين في المجتمع، والمتحركين على أرض الواقع، لم يسمح التونسيون لوطنهم أن يكون "كعكة" تتنازعها الأحزاب، لا تزال المطالبات "غير أيديولوجية" وإنما تخضع لمنطق الاقتصاد وسبل العيش، وهذا سر سحرها الدولي ومغزى ألقها التاريخي. لم تثر إعلانات عودة المعارضين من الخارج صخباً في تونس، لأنها لم تكن ثورة دفاعٍ عنهم، وفي حال عودتهم سينضمون إلى مكينة الحكم التي سيرسمها المجتمع، بالتأكيد ستخضع تونس لحالة استقطاب ودخول من قبل القوى الدولية، وسيحاول بعض "الأيديولوجيين" إعادة تحقيق أحلام "الخلافة" وفق أحلام الإسلام السياسي، لكن المناعة التي أخذها الشعب التونسي ضد سياسة "الاستئصال" ربما تكون هي المصل الذي سينجيهم من تمدد الأصوليات بأنواعها إلى جسد النظام ... ربما! الثورة لا تزال في بدايتها، لن أدخل في أساليب الحسم متشائمة كانت أو متفائلة، يكفينا أن نقرأ تاريخ الاستئصال وتجارب تونس ... ثم نراقب، هذا ما نستطيع ممارسته كباحثين وكتّاب، لكن الدرس الأهم الذي قدمته تونس أن سياسة الاستئصال لا تثمر إلا عدواناً ... وثورات كبيرة ... كبيرة ومؤلمة أيضاً!