وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورقيبة يصطدم بعبدالعزيز الثعالبي ويرثه: كوّنتُ شعباً من «حفنة غبار» (1 من 2)
نشر في الحياة يوم 19 - 01 - 2012

الكاتب التونسي حسونة مصباحي يختزل، في كتابه «رحلة في زمن بورقيبة»، حياة رئيس تونس الأسبق، ويتتبع في مساحة مختصرة مفاصل حياة الزعيم الغنية، نشأة، ونضالاً، وحباً، وحكماً. وسجل الكاتب بتقدير ل «المجاهد الأكبر» كما يحب أن يلقب، أنه كان سابقاً لعصره بحدسه السياسي الخارق، فقد كفر بالألمان في عز سطوتهم، وبالاشتراكية في أيام فتوّتها، كما هجر الوحدات العربية والإسلامية، ولم يقتنع بمثالية رمي إسرائيل في البحر!
وفي جانب ملفت يعتبر الكاتب أن أحد الجوانب الأكثر تأثيراً في الراحل، كان «المسرح»، إذ انضم إلى إحدى الفرق المسرحية، ومثل إلى جانب حبيبة مسيكة، الفنانة اليهودية الفائقة الجمال التي أحرقها أحد عشاقها غيرة، في مسرحية «شهداء الحرية» المقتبسة من مسرحية «الوطن» لفيكتوردو ساردو. ويبدو أن قلب الفتى خفق حباً للفنانة التي كان عشاقها كثيرين في المدينة. وعندما عرف أن الوصول إلى قلبها صعب بل مستحيل، طلب منها ذات ليلة، وهما يستعدان للصعود على خشبة المسرح أن تُقبله «لا قبلة الأم لابنها، ولا الأخت لأخيها، وإنما قبلة العشيقة للعشيق». واستجابت حبيبة مسيكة لطلبه. وبعد مرور عقود طويلة على ذلك، روى تفاصيل الواقعة في أحد خطبه الرسمية أمام شعبه المذهول، ولاحظ كثيرون أن المسرح علّم بورقيبة «سحر الكلمة، وسلطة الصمت، وأهمية الحركة، والتغير في مقام الصوت، والتعبير الخاطف على الوجه». في ما يلي حلقة أولى من مقتطفات، اخترناها من الكتاب الذي يصدر قريباً عن «دار جداول للنشر»، وغداً حلقة ثانية أخيرة.
في خطاب شهير ألقاه في جنيف في شهر حزيران (يونيو) 1973، أمام المنظمة العالمية للعمل، قال بورقيبة «من حفنة من غبار، من خليط من القبائل والعروش، كلها كانت مستسلمة للخنوع والمذلة، صنعت شعباً وأمة!». والحقيقة أن «حفنة من غبار» لم تكن من مبتكرات بورقيبة التي كانت كثيرة، وإنما هي عبارة تلفظ بها أحد المقيمين العامين الفرنسيين واصفاً بها الشعب التونسي. وقد استعملها بورقيبة، أو «المجاهد الأكبر» كما كان يحب أن يسمى، للتأكيد على أنه لعب الدور الحاسم والأساسي في صنع تونس الحديثة مقصياً الزعماء الآخرين، أو مقلّصاً من أدوارهم. ونحن نقر أن هناك مبالغة من جانبه في هذا الأمر. غير أننا لا ننكر أنه كان أحد الصانعين الأساسيين لصورة تونس الحديثة. كما أنه أقام نظاماً جمهورياً عقب مسيرة نضالية طويلة عرف خلالها السجن والإبعاد، وأمن للمرأة حقوقها في التعليم والعمل والإرث والانتخاب، وأطلق ثورة تعليمية غيرت وجه البلاد، وقضى على الكثير من المظاهر القبلية والعروشية، وضمن الصحة لجميع التونسيين، وفتح دور الثقافة في كل مدينة وفي كل قرية، وجعل من تونس، البلد الصغير المحدود الثروات، جسراً بين الشرق والغرب.
باختصار يمكن القول إن بورقيبة نجح إلى حد بعيد في إقامة المرتكزات والأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة. وكان من أكثر القادة العرب والأفارقة المعاصرين له إدراكاً لمتطلبات العصر، وفهما للحضارة الغربية ولنواميسها، ومستفيداً منها، استطاع أن يحقق نجاحات كثيرة في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية.
غير أن بورقيبة لم يأت من فراغ وإنما كان ثمرة حركة إصلاحية هامة عرفتها البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ عام 1857، عندما سُنَّ أول دستور تونسي حمل اسم «عهد الأمان». وقد تم ذلك تحت ضغط نخب تونسية مؤمنة بالإصلاح والتحديث. وعقب المصادقة على «عهد الأمان» عرفت البلاد التونسية إصلاحات كبيرة في مجالات عدة. وقد أشرف على عمليات الإصلاح تلك، الوزير خير الدين باشا التونسي (1822-1890) صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي صاغ فيه رؤيته الإصلاحية لمجمل العالم الإسلامي.
وعلى رغم الصعوبات التي واجهها، فإن الوزير خير الدين واصل عمليات الإصلاح بانياً لها أسساً متينة كان من أبرزها تشجيع الطباعة والنشر، وإنشاء «المدرسة الصادقية» عام 1874. وكان لإنشاء هذه المدرسة التي تخصصت في تعليم اللغات الأجنبية، والعلوم الصحيحة أثر كبير في تاريخ البلاد. فقد تخرج منها جل النخب التي سوف تلعب أدواراً مهمة في مجال النضال الوطني بالخصوص، وفي مجالات أخرى، ثقافية واجتماعية وتربوية. وكان الحبيب بورقيبة أحد خريجي هذه المدرسة العتيدة.
ومنذ مطلع القرن العشرين، بدأت النخب السياسية المتخرجة من «المدرسة الصادقية» أو من «المدرسة الخلدونية» التي أسسها المناضل الوطني البشير صفر عام 1896، تنظم صفوفها لمواجهة الاحتلال الفرنسي. وكانت النوادي الثقافية والصحف هي وسيلتها المفضلة لنشر أفكارها. ثم لم تلبث هذه النخبة أن أسست حركة سياسية أطلق عليها اسم «تونس الفتاة». وقد تزعم هذه الحركة التي كانت تحثّ السلطة الفرنسية على تمكين التونسيين من الاضطلاع بالمسؤوليات السياسية، المناضل المرموق علي باش حامبة الذي سوف يموت في ما بعد في منفاه السويسري. ومن خلال جريدة «التونسي» التي أسسها عام 1907، استطاع علي باش حامبة ورفاقه المحيطون به أن يبعثوا الحيوية في الحركة الوطنية، وأن يوقظوا المشاعر الوطنية لدى عدد كبير من التونسيين.
الطريق إلى الزعامة
ومن المؤكد أن بورقيبة الذي ولد عام 1903 في المنستير (البعض يقول إنه ولد عام1900) قد تأثر منذ طفولته الأولى بالحركات السياسية والثقافية التي ظهرت في البلاد. وكانت منطقة الساحل، من أكثر المناطق تأثراً بالأفكار الوطنية والإصلاحية. ومثلما يؤكد المؤرخ الفرنسي شارل اندريه جوليان، فإن عائلات هذه المنطقة، بما في ذلك الفقيرة منها، كانت حريصة على تعليم أبنائها، وعلى إرسالهم إلى أرقى المدارس. وكان والد بورقيبة، علي بورقيبة الذي كان يعمل في عسكر الباي من ضمن الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل لأبنائهم. لذا أرسل كل أبنائه إلى المدارس العصرية. وكانت عائلة بورقيبة المتواضعة قد شاركت عبر الجد والعم في الانتفاضة الشهيرة التي هزت منطقة الساحل التونسي عام 1864. وقد قام الجنرال زروق بقمع تلك الانتفاضة بشدة و عنف. فكانت الضحايا بالمئات بين قتلى وجرحى ومساجين و مشردين.
كان بورقيبة في الخامسة من عمره حين غادر المنستير إلى العاصمة تونس، ليستقر مع أخويه الكبيرين اللذين كانا يعملان في حي «تربية الباي» الواقع في قلب المدينة العتيقة حيث كانت تعيش العائلات التونسية العريقة. والملفت للانتباه هو أن بورقيبة لا يتحدث إلا قليلاً عن والده. أما والدته فقد كانت تحتل مكانة خاصة في قلبه. والثابت أنه كان شديد التعلق بها، هو الذي كان أصغر إخوانه وأخواته الثمانية. وحتى عندما أصبح رئيساً، كان يجهش بالبكاء كلما ذكرها في خطبه الرسمية. وفي واحد من هذه الخطب تحدث عنها بتأثر بالغ قائلاً: «كانت أمي تعمل دون انقطاع من الصباح حتى المساء. والإرضاع المتواصل، والأعمال الشاقة الأخرى هدت صحتها». وفي خطاب آخر، ذكر بورقيبة أن الآلام التي تجرعتها والدته في حياتها كأم وكربة بيت هي التي جعلته يعجل، حال تسلمه السلطة، في تأمين حقوق المرأة التونسية. والواضح أن وفاة الأم أثرت في عادات العائلة.
وفي كتابه «حياتي ،أرائي جهادي» يتحدث بورقيبة عن والده قائلاً: «اضطرته العزلة إلى قضاء جانب من وقته في السهر. وكان معظم جلسائه من قدماء العساكر الذين وصلوا مثله لرتبة ضابط». وفي عام 1913 توفيت والدة بورقيبة فكانت الصدمة الأشد في حياته حتى تلك الساعة. وفي ما بعد سوف يحدث عن ذلك قائلاً: «إن الحدث الجسيم الذي طبع حياتي عام 1913 كان موت أمي. وسيظل هذا الحدث حاضراً في كياني بصفة مؤلمة حتى اللحظة الأخيرة من حياتي».
ولم يلبث بورقيبة أن التحق ب «المدرسة الصادقية» التي كان يرتادها أبناء العائلات المرفهة. غير أن التعليم العصري لم يله الطفل الصغير الذي كان ينتعل حذاءً مثقوباً عن تعلم القرآن الكريم. وهذا ما سوف يساعده في ما بعد على كسب قلوب الناس في أنحاء البلاد. وفي مطلع الثمانينات، عندما بدأت حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي تتغلغل في أوساط الشباب، أراد بورقيبة أن يعطي درساً لمن كانوا متعاطفين معها. وفي «يوم العلم» الذي ينتظم كل نهاية سنة دراسية، كان يوزع الجوائز على المتفوقين عندما وقف أمامه طالب ملتح فسأله «هل تحفظ القرآن؟».. نعم، سيدي الرئيس رد الطالب الملتحي. وعندئذ تلا بورقيبة آية من القرآن الكريم، ثم طلب من الطالب إكمالها فتلجلج لسان هذا الأخير، وبدا عليه الارتباك. ومرة ثانية، تلا بورقيبة آية أخرى، ثم طلب من الطالب الشيء ذاته، فما استطاع هذا الأخير تنفيذ الطلب الرئاسي. وكانت المحاولة الثالثة شبيهة بالمحاولتين السابقتين. وعندئذ غضب بورقيبة، وخاطب الطالب الملتحي بشيء من الحدة قائلاً: «الأفضل لك أن تحفظ القرآن عوضاً أن تُطْلِقَ هذه اللحية!».
ومن المشاهد التي ظلت راسخة في ذاكرة بورقيبة عندما كان في المدرسة الصادقية، قدوم الباي إلى قصر الحكومة بالقصبة. وقد وصف ذلك في أحد خطبه قائلاً: «رأيته ينزل من العربة، وكان شعر لحيته ورأسه أشقر. أما صدره فكان مزيناً بالنياشين». ولعل هذا المشهد هو الذي ولّد في نفس الطفل الصغير الرغبة في أن يكون ذات يوم شخصية كبيرة لها تلك المهابة، وذلك الوقار، وتلك النياشين التي تزين الصدر.
في «حياتي، أرائي، جهادي» يروي بورقيبة أنه كان شغوفاً بالدروس التي كان يلقيها شيوخ جامع الزيتونة المتمكنين من اللغة العربية وأدابها القديمة بالخصوص، والذين كانوا يدعون التلاميذ إلى حفظ «المعلقات العشر». وقد وجد الطفل بورقيبة في تلك المعلقات ما حرضه على حفظها. ومن بين تلك المعلقات التي أعجب بها، لامية السموأل التي يقول في مطلعها:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
كما أعجب بمعلقة عمرو بن كلثوم التي يقول في مطلعها:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشعة كأن الحص فيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
في ما بعد، خلال الاحتفالات الضخمة التي كانت تقام لمناسبة عيد ميلاده في قصر «صقانس» بمسقط رأسه المنستير، كان بورقيبة يطرب بالخصوص للعكاظيات الشعرية. ويومياً كان يجلس محاطاً بوزرائه وبكبار الشخصيات في الدولة والحزب، وقد بدا شبيهاً بملوك العرب القدامى، ليستمع إلى شعراء الفصحى والدارجة وهم يتغنون بأمجاده وبطولاته. وكان أحمد اللغماني، أصيل قرية «الزارات» بالجنوب التونسي، شاعره المفضل، والأكثر صدقاً ونزاهة. وقد تكون القصائد التي كتبها هذا الشاعر في مدح بورقيبة هي أجمل قصائده على الإطلاق.
سرّ المسرح والحسناء اليهودية
في سن السابعة عشرة، اكتشف الفتى الحبيب بورقيبة سحر المسرح، وذلك بمساعدة أخيه محمد الذي كان رجلاً متفتحاً ومحباً للفن. وكان آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمره. وكان قد تعاطف في فترة من حياته مع الحزب الشيوعي التونسي، وطاف بحكم عمله (كان ممرضاً) في البلاد من أدناها الى أقصاها. وصادف أن توعكت صحة الحبيب بورقيبة، فذهب لزيارة أخيه الذي كان يعمل في مدينة الكاف. وخلال الفترة التي أمضاها في المدينة الشمالية الواقعة بالقرب من الحدود التونسية - الجزائرية، تعلم لعب الورق، وتناقش مع الجنود العائدين من جبهات القتال، وسمع لأول مرة باسم مصطفى كمال أتاتورك الذي سيصبح عقب سنوات قليلة على ذلك (نحن الآن في عام 1920) المثال الأرقى بالنسبة له، خصوصاً في مجال تحديث المجتمع وبناء أسس الدولة العلمانية. غير أن إعجابه المبكر بالزعيم التركي لن يثنه في ما بعد عندما أصبح رئيساً للجمهورية عن انتقاد بعض الجوانب في سياسته. ففي خطاب أمام الطلبة التونسيين عام 1973 أشار بورقيبة أن إعلان أتاتورك عن قيام الجمهورية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية كان «أشبه شيء بكارثة نزلت على المسلمين». إذ إن أتاتورك بحسب رأيه كان «يحب الظهور بمظهر المجدد المقتفي لآثار العصر. لذلك فضل تقليد مظاهر الحياة في باريس وجرّد الدولة التركية من كل صفاتها الدينية ليجعلها لائكية لا تعترف بالأديان رغم تشبث الشعب التركي بدينه الإسلامي إلى حد التزمت أحياناً». وأضاف بورقيبة قائلاً إن أتاتورك ذهب في نشر لائكية لم تذهب إليها فرنسا بعد ثورتها العلمانية.
غير أن المسرح كان أهم اكتشاف له وهو في الكاف. وكان أخوه محمد أحد المولعين بهذا الفن، وهو الذي كشف له عن أسراره وخفاياه، وعن المتع التي يجلبها للمتفرج. وعندما عاد إلى تونس العاصمة ازداد ولعه بالمسرح، بل إنه انضم إلى إحدى الفرق المسرحية، ومثل إلى جانب حبيبة مسيكة، الفنانة اليهودية الفائقة الجمال التي أحرقها أحد عشاقها غيرة، في مسرحية «شهداء الحرية» المقتبسة من مسرحية «الوطن» لفيكتوردو ساردو. ويبدو أن قلب الفتى خفق حباً للفنانة التي كان عشاقها كثيرين في المدينة. وعندما عرف أن الوصول إلى قلبها صعب بل مستحيل، طلب منها ذات ليلة، وهما يستعدان للصعود الى خشبة المسرح أن تقبله «لا قبلة الأم لابنها، ولا الأخت لأخيها، وإنما قبلة العشيقة للعشيق». واستجابت حبيبة مسيكة لطلبه. وبعد مرور عقود طويلة على ذلك، روى تفاصيل الواقعة في أحد خطبه الرسمية أمام شعبه المذهول.
ومثلما قال أحدهم فإن المسرح علّم بورقيبة «سحر الكلمة، وسلطة الصمت، وأهمية الحركة، والتغير في مقام الصوت، والتعبير الخاطف على الوجه». وهذا ما يفسر براعته الخطابية. تلك البراعة التي كانت تجعل التونسيين بجميع فئاتهم، يتجمعون أمام المذياع أو التلفزيون للاستماع إلى خطبه التي كان بعضها عبارة عن مسرحيات ممتعة من نوع ال «وان مان شو». وفي كتاب «العقود الثلاثة لبورقيبة»، يروي وزير الداخلية السابق الطاهر بلخوجة أن بورقيبة كان قبل إلقاء أي خطاب من خطبه، يمضي ساعات في التمارين، تماماً مثلما يفعل الممثل قبل الصعود الى المسرح!
الثورات الفاشلة!
عند عودته إلى العاصمة (بعد أن غاب في المشرق العربي فترة)، رفع بورقيبة تقريراً إلى المقيم العام الفرنسي الجديد يحتوي على جملة من المقترحات والمطالب بهدف إجراء إصلاحات، خصوصاً في مجال الإدارة والتربية، وتمكين الشعب التونسي من حقه في العدالة والحرية والكرامة. وفي انتظار الجواب، عاد بورقيبة إلى الطواف في البلاد طولاً وعرضاً بهدف إعادة تنظيم الحزب وتوسيع قاعدته. وفي كل قرية أو مدينة يصلها كان يجمع الناس ليلقي فيهم خطاباً بحماسته المعهودة مخاطباً إياهم ب «اللغة التي يفهمونها» كما كان يحب أن يقول. وأحياناً كان يسمح لمثقفين فرنسيين متعاطفين مع الحركة الوطنية، مثل «فيليسيان شالاي» و«جان روس» بمرافقته في تلك الجولات. وكان يحب أن يقود بنفسه سيارته المتواضعة من نوع «بيجو». وعندما يكون الطقس حاراً كان ينزع سترته ويعلقها على نافذة السيارة لتجف من العرق.
وبفضل تلك الجولات، اكتسب بورقيبة شعبية لم يكتسبها زعيم وطني آخر. فكان الناس يستقبلونه في كل مكان يحل به بترحاب كبير. وباهتمام وانتباه كانوا ينصتون إلى كل كلمة يقولها. وكان يحدثهم عن همومهم وعن مشاكلهم و عن وطنهم الذي أفقده الاستعمار «روحه ومعناه». وفي بعض المناطق تخلى الشعراء الشعبيون عن قصائد الحب والغزل ليلقوا أمام الزعيم الشاب قصائد تتغنى بالوطن وبالحرية. وبعد أن ينتهي من خطبه الحماسية كان بورقيبة يقول لمرافقيه: «لست من المولعين بالمشاريع الوهمية ولا من ذوي مذاهب الثورات الفاشلة». وكان يقول أيضاً: «إن إثارة الرأي العام و إعلامه بالأوضاع والإمكانات وإرشاده إلى الخطة المتبعة هو دور القائد بالذات».
حان وقت النزال!br /
في عام 1937 وجد بورقيبة نفسه مجبراً على خوض معركة سياسية جديدة. ففي تموز (يوليو) من تلك السنة، عاد الشيخ عبدالعزيز الثعالبي من رحلة استمرت سنوات طويلة، طاف خلالها في بلاد المشرق، وارتبط بعلاقات صداقة وثيقة مع زعماء من مصر والعراق واليمن والكويت وبلاد الشام. وكان الشيخ الثعالبي، خريج الجامعة الزيتونية يتمتع باحترام واسع داخل البلاد، خصوصاً عقب صدور كتابه «تونس الشهيدة». وكان إلى جانب نشاطه السياسي، فقيهاً بارزاً، ومؤرخاً قديراً، ورجل علم وخطابة. وإذا ما كان أنصار الحزب الدستوري القديم يأملون أن تساعدهم عودة الشيخ الثعالبي على كسب المواقع التي خسروها في معركة 1933 و1934، فإن الحبيب بورقيبة ورفاقه في الحزب الحر الدستوري الجديد كانوا يخططون لكسب الشيخ المناضل إلى صفوفهم. لهذا هرعوا لاستقباله في الباخرة التي أقلته من مرسيليا إلى ميناء حلق الوادي. وفي الكرسي الوثير الذي جلس عليه في الباخرة راح الشيخ الثعالبي يتحدث إلى مستقبليه بلهجة الأب المعجب بما قام به من أعمال واتصالات خلال رحلته الطويلة. وقد أعلمهم أنه أصبح صديقاً للعديد من الحكام والشخصيات في العالم العربي - الإسلامي مردداً في كل مرة أن الفكرة الصالحة تنتشر ولا تنقرض أبداً. غير أن الدستوريين الجدد سرعان ما أدركوا أن غياب الشيخ المديد قطعه عن واقع البلاد. لذلك سيعلن بورقيبة بعد اجتماع انعقد بين الحزبين أن المسيرة الوطنية سوف تتواصل برفقة الشيخ أو بمعزل عنه. غير أن الشيخ الثعالبي لم يكترث كثيراً بالدستوريين الجدد. بل لعله حسبهم شباناً متحمسين يسهل عليه ترويضهم. لذا كان واثقاً من أن الشعب سيكون إلى جانبه في المعارك السياسية التي كان يعتزم خوضها لاستعادة زعامتها. وكان أن بادر بالقيام بجولات دعائية رفقة أعضاء اللجنة التنفيذية. و قد تمكن من إحراز تأييد سكان الوطن القبلي الذين استقبلوه استقبالاً حاراً، خصوصاً في الحمامات. لكن، عندما انتقل إلى الساحل تعكر الجو وبدأ الشيخ يفتقد هيبته ووقاره، فقد استقبله الناس هناك بكثير من الجفاء بل نعتوه ب «الديكتاتور» و ب «الخائن»، ب «عميل بريطانيا». لذلك سارع الشيخ الثعالبي بالعودة إلى تونس موجع القلب. وقد استغل بورقيبة هزيمة خصمه فقام بجولة في القيروان لكسب تأييد أبناء الجلاص. وفي الخطب التي ألقاها هناك لم يتردد في انتقاد سياسة الشيخ الثعالبي وأفكاره التي لا تمت للواقع التونسي بصلة، بحسب تعبيره.
وساعياً الى استعادة الزعامة توجه الشيخ الثعالبي إلى مدينة ماطر، التي ظلت حتى ذلك الوقت معقلاً للحزب الدستوري القديم وأنصاره، وهناك تعرض إلى هجوم مسلح نجا منه بأعجوبة في حين قتل سائقه الخاص في عين المكان. و تكرر الأمر ذاته في «فيريفيل» (منزل بورقيبة الآن) وفي باجة. عقب تلك الأحداث الأليمة اعتزل الزعيم العجوز السياسة ولازم بيته في المدينة العتيقة إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 1944. وقبل ذلك كان قد حاول الانتقام من خصمه بورقيبة فأدلى بشهادة ضده عام 1939 متهماً إياه بالتآمر ضد أمن الدولة. أما بورقيبة الذي حقق انتصاراً جديداً في معركة لا تقل ضراوة عن معاركه السابقة، فقد أصبح سيد الموقف. ولعله كان يشعر أن تونس كلها، ببدوها وحضرها، وبمدنها وأريافها أصبحت خاضعة ومطيعة له. فالزعماء من طينته يتعاملون مع أوطانهم وكأنها ملك خاصّ له وحده. لذلك راح يسعى جاهداً الى كسب المزيد من الأنصار، والى وضع المنظمات الشعبية الأخرى تحت سيطرة الحزب الحر الدستوري. ولتحقيق هذا الهدف الأخير، نجح في فرض شاب من المنستير يدعى الهادي نويره كأمين للمالية في الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة فرحات حشاد، ومنذ تلك الفترة شرع بورقيبة يقسم التونسيين إلى صنفين: الذين مع الحزب، والذين ضده، وأثناء ذلك شرع المعمرون الفرنسيون يتحركون لإجبار السلطات الفرنسية على التراجع عن سياسة الانفتاح تجاه القوى الوطنية.
وعندما لم يتلق بورقيبة رداً إيجابياً على المقترحات التي كان رفعها إلى المقيم العام بعد عودته من معتقل «برج البوف»، تخلى عن اعتداله، وخلال مؤتمر الحزب الحر الدستوري الذي انعقد بين 30 تشرين الأول (أكتوبر)، و2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1937، خاطب الشعب التونسي بلهجة حازمة، مطالباً إياه بضرورة الثبات في الدفاع عن مصالحه الوطنية «اعتماداً على قواه الذاتية»، وليس «على الوعود الاستعمارية الكاذبة». وعبّر البيان الختامي الصادر عن المؤتمر المذكور عن تضامن الحزب الحر الدستوري التونسي مع الحركات الوطنية في كل من الجزائر والمغرب.
وبحلول عام 1938 شرعت السلطات الاستعمارية تضيق الخناق على الزعماء الوطنيين. وقامت باعتقال صالح بن يوسف، المحامي الشاب الذي درس في باريس هو أيضاً، والذي سيكون خصماً لدوداً لبورقيبة في معركة لاحقة. وفي 8 نيسان (أبريل) 1938، اعتقل زعيم الشباب، علي البلهوان، بعد أن قاد تظاهرة شعبية صاخبة في شوارع العاصمة احتجاجاً على السياسة الاستعمارية. وفي 9 نيسان من السنة ذاتها، خرجت الجماهير بأعداد وفيرة إلى شوارع العاصمة احتجاجاً على اعتقال علي البلهوان، فتصدت لها قوات الجيش والشرطة بالحديد والنار. وفي بضع ساعات تلطخت شوارع العاصمة وساحاتها بدماء عشرات القتلى والجرحى.
أثناء تلك الأحداث كان الحبيب بورقيبة على فراش المرض. وقد كتب مقالة جاء فيها: «لقد استولت على الشعب اليوم نشوة مقدسة إذ أثار عنف الاضطهاد عواطفه وإن لم يكن هذا الاضطهاد إلا في المرحلة الأولى، وإنه ليصعب علي اليوم أن أقود الحركة وأنا رهن الفراش، ولست أدري ما سيؤول إليه الأمر في المستقبل القريب عندما ألتحق بأقراني في السجون المضيقة، وعندما يلقى القبض على جميع القادة وجميع إطارات الحزب والمسؤولين، فليست عادتي أن أفارق زملائي ولا أن أتأخر عن القافلة عندما يسقط أصحابي الواحد تلو الآخر تحت اضطهاد الاستعمار الغاشم. إننا اليوم نسير حثيثاً نحو التحرير النهائي».
ما أن أكمل تلك المقالة حتى داهمت الشرطة الفرنسية بيت بورقيبة لتقوده إلى السجن من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.