ميشال دوغي شاعر فرنسي يكاد يكون نسيج وحده في الحركة الشعرية المعاصرة، شاعر متفرّد لا ينتمي الى جيل ولا الى مدرسة بل الى تجربته الخاصة جداً التي جمعت خير جمع بين الشعر والفلسفة، بين الصنيع اللغوي والتأمل، بين الحداثة والأصالة. وان عرف ميشال دوغي مواليد 1930 كشاعر مجدّد ومثقّف عبر دواوينه الكثيرة وعبر مقالاته في الشعر والفلسفة فهو عرف أيضاً عبر مجلته "شعر" التي أسّسها منذ أكثر من عشرين عاماً وباتت احدى أهم المجلات الشعرية في فرنسا اليوم. وقد شاءها منبراً للأصوات الجديدة و"القديمة" وحقلاً للترجمة الشعرية من لغات العالم أجمع. ميشال دوغي يزور بيروت حالياً مشاركاً في "مهرجان جورج شحادة" ويلتقي الليلة قراءه اللبنانيين في ندوة شعريّة يشارك فيها الناقد شريف مجدلاني والشاعر شوقي عبدالامير. ويقرأ الشاعر مختارات من شعره بالفرنسية وترافقها ترجمات بالعربية في كليّة الآداب في جامعة القديس يوسف. هنا حوار معه: أحب أن أبدأ بالحديث عن كتابك ما قبل الأخير "الى ما لا ينتهي" الذي اعتمدت فيه أسلوب المرثية الإغريقية القديمة. لماذا اخترت هذا النوع الأدبي أو الشعري القديم لتستعيد ذكرى زوجتك الراحلة، علماً بأن النشيد مقطّعٌ كما لو أنه نص ينتمي الى الحداثة، بل أكثر من ذلك، كما لو أنه من نوع الكتابة التجريبية؟ - لا يمكن حقاً القول ان هذه الكتابة هي نوعٌ أدبي في حدّ ذاته بالمعنى الدقيق للكلمة. الكتاب نشيدٌ جنائزي ينتمي الى الحقبة اليونانية القديمة، ولطالما كنتُ على علاقة وثيقة باللغات اليونانية. أنا أراه قصيدة نثر طويلة جداً، من مئتي صفحة تقريباً، أتنقّل فيها بين أسلوب وآخر، فأكتب تارة نوعاً من الرثاء، وطوراً الشعر، وأحياناً حكاية صغيرة أروي فيها على سبيل المثال قصة نرسيس على طريقتي. إنّه عمل يشبه الى حدّ بعيد عمل المؤلف الموسيقي: أستخدم مقامات مختلفة وأنغاماً متعدّدة لأؤلّف نشيدي هذا. وهو لا ينتمي الى نوع الكتابة التجريبية بمعنى أنني لا أسعى خلاله الى تقديم أدب طليعي مجدِّد. لكنه متحرّر جداً وقد ألغيت فيه ترقيم الصفحات لأظهر طابعه الدائري. انها دائرة الموت، حلقة مقفلة لا تكف عن الدوران، وأردت أن أبيّن هذا الأمر في كتابي الذي لا تحتاج قراءته الى تسلسل أو ترتيب معيّن. عندما نعود الى كتبك نلاحظ أنك اخترت الشاعر الفرنسي من القرن السادس عشر دوبلليه وكتبت عنه كتاب "قبر دو بلليه". لماذا دوبلليه؟ هل ترك عليك أثراً وما الذي يجمعك فيه وأنتَ من القرن العشرين؟ - في رأيي أنّ دو بلليه اخترع الغنائية الفرنسية للأزمنة الحديثة. شهد الأدب معه انفتاحاً على إمكانات غنائية جديدة، وأسلوبه المتحسّر شكلٌ من أشكال الاستناد الى كلّ ما غاب والارتباط به واسترجاعه. إنّه نوع من العلاقة الحاسمة بالزمن الحاضر بقدر ما هو نشيد للأطلال، كما لو أن الطريقة الوحيدة لاستبقاء الماضي وحفظه هي الشهادة على غيابه. هو إذاً سعيٌ الى إدامة الغياب عبر جعل آثار الماضي غير قابلة للإمحاء. وقد أعجبني دو بلليه كذلك في أنه كان مقتنعاً بأنه فاشل كلياً: كان ثمة سوء تفاهم مأسوي بينه وبين نفسه ساهم في تصعيد حدّة غنائية التحسّر لديه. مالارميه في هذا المعنى يشكّل ثاني أكبر لحظة في تاريخ هذه العلاقة مع الماضي. إذ أن اللعبة الشعرية في رأيي مرتبطة الى حدّ بعيد بلعبة الظهور والغياب - وأعني الغياب في كل أبعاده: الاحتجاب، النسيان، الرحيل، الموت... إلخ، ودو بلليه هو الأوّل في سلسلة أدّى فيها مالارميه دوراً رئيسياً. لذا كان هذا "القبر" في آنٍٍ واحد قراءةً لنصوص دوبلليه، وتحيةً، خلال قصائد كتبتها أنا، لتمجيد ذكراه. لقد قصدت أن أحييه بالإخلاص له وبخيانته على حدّ سواء، إذ لم يكن المطلوب تقليده، خصوصاً أن دو بلليه نفسه كان من أكبر الرافضين للتقليد. هناك سؤال آخر يواجه قرّاءك، وهو انتقالك في الترجمة من الألماني هولدلن الذي شاركت في ترجمة كتاب هايدغر عنه، الى الشعر الأميركي عبر مشاركتك في ترجمة مختارات في عنوان "عشرون شاعراً أميركياً". كيف استطعت التوفيق بين هاتين الذائقتين، بين النزعة الميتافيزيكية الوجودية المتمثلة في قراءات هايدغر لهولدرلن، والنزعة الاحتجاجية واليومية والحميمة التي يتميّز بها الشعر الأميركي؟ - أولاً، يمكن أن أقول في بساطة انها من مصادفات الحياة، إذ صدف أنني درست الألمانية في الثانوية، ودرست من ثمّ الفلسفة. من جهة أخرى، لم أكفّ عن الذهاب الى الولاياتالمتحدة كل سنة منذ عام 1960، وانخرطت في الوسط الشعري الأميركي المعاصر الذي يتميّز بالتبادلات الشعرية التي تتم على نحو طبيعي وكثيف. من جهة أخرى، لا يمكن القول انه تقارب متصنَّع أو مغتصب. السؤال المطروح هنا هو: "من أين أتينا؟" لقد أتينا جميعاً من الشعر، وننتمي كلّنا الى موطن شعري فلسفي واحد، فالعلاقة بين الفكرين الألماني والإنكليزي قديمة جداً، إذ تعود الى زمن الرومنطيقية التي كانت قضية ألمانية وإنكليزية في الوقت نفسه. رحم الشعر الرومنطيقي هذا، هو الذي احتضن علاقات الفكر الفلسفي والشعري التي ما زلنا نعيشها حتى اليوم. وأوساط الشعر الأميركي المعاصر مرتبطة هي الأخرى بأوروبا، بألمانيا وإنكلترا، وتطرح السؤال نفسه الذي يحدّد جوهرها: "من أين أتينا"؟ لذا لم يكن ثمة جهد خاص تحتم عليّ بذله، وكان هذا التقارب، هذا التوفيق بين النزعتين، عملية طبيعية للغاية بالنسبة إليّ. ليس هذا التقارب دخيلاً أو غريباً إذاً، بل ينبع من أجواء حميمة واحدة، هي أجواء الانتماء الى عالم الشعر والفلسفة الأوروبيين. تغلب على معظم شعرك النزعة الفكرية، حتى أنك تسمّى "الشاعر الذهني"، فما رأيك بهذه التسمية؟ - لا أحبّذ كثيراً هذه التسمية، انّ شعري على الأصح هو شعر الأفكار، شعر تجريدي بمعنى أنه مجرّد من الانفعالات والعواطف. أحب أن يقال عن شعري انه شعر "ذكيّ"، يتصارع مع الأفكار والمفاهيم، لكنه بعيد كل البعد عن "الاحتقان الذهني". والفن الشعري في نظري يقوم في الدرجة الأولى على التساؤلات التي يطرحها الشعر على نفسه. لا يمكن الفصل بين الأشياء والكلمات والأفكار: إنها الأقطاب الثلاثة للمثلث الشعري، أي لا يمكن أن يكون شعر من دون أفكار، من دون فلسفة. العلاقة بين الشعر والفلسفة هي علاقة جوهرية، تعود الى الجذور، الى الأصل، وهي أساسية وتكوينية للإثنين على حدّ سواء. لم تأتِ الفلسفة لتقلق الشعر، بل ليسموا معاً. من جهة أخرى، أعتقد أن على الشعر أن يحفظ ذاكرة تاريخه، أي لا يمكن للشعر ألا يستشهد بالشعر. أن أكون "ذهنياً" يعني أن أكون صاحب ذاكرة غنية، ولا يمكن أن نحقق شيئاً من دون ذاكرة، فهي في رأيي تغذّي الشعر. ألا تعتقد إذاً أن الفلسفة تهدّد جوهر الشعر إذ تحيله الى عمل ذهني محض؟ كيف ترى الى هذه العلاقة الجدلية بين الشعر والفلسفة، وهل يمكن الفلسفة أن تحلّ مكان الشعر أو العكس؟ - الفلسفة لا تهدّد الشعر، ولا يمكنها أن تحلّ مكانه، فالفنون متعدّدة، لكنها مرتبطة دائماً واحدها بالآخر. وتقوم هذه العلاقة في رأيي على مبدأ المواكبة. المواكبة مهمة للغاية لأن كل عنصر يحقق أقصى ما يمكنه تحقيقه بفضل الآخر. علاقة التعاون هذه تشكل جوهر الفن بالنسبة إليّ. الشعر هو أحد آلهة الفن، والفلسفة كذلك، لكن المهم هو دورانهما معاً، الرقصات التي يؤديانها معاً، ذوبان واحدهما في الآخر من دون أن تنطمس هويتاهما. ليس ثمة تهديد على الإطلاق، فالفلسفة تنتمي الى الأدب، وهي تتحدث بلغة الجميع. طبعاً التعقيد موجود، لكنني أعود لأكرر أهمية المواكبة. يمكن الفلسفة السيئة أن تهدّد الشعر ربما والعكس صحيح كذلك. في إطار هذه العلاقة بين الشعر والفلسفة، ألا تعتقد أنّ هذا النوع من الشعر يوسّع الهوة بين الشاعر والقارىء، وخصوصاً أنّ عدد قرّاء الشعر ينخفض أكثر فأكثر يوماً بعد يوم؟ وهل من الممكن أن تشكّل العودة الى الغنائية نوعاً من المصالحة بين الشعر والجمهور؟ - تكمن المشكلة في أنّ الشعر بات في القرن العشرين لا اجتماعياً، غير قابل "للمعاشرة" إذا صحّ التعبير. فالتجارب الشعرية المتتالية انكبت على حذف علامات تمييز الشعر، كالقافية والوزن وغيرها. لقد انسحب الشعر كلياً من اللعبة الغنائية. ولا أعلم ما إذا كانت العودة الى الغنائية أسلوباً للتخفيف من عزلة الشعر، لكن الذنب ليس ذنب الفلسفة. السؤال الذي يجب أن نطرحه على الأصح في هذا الإطار هو: كيف يمكن الشعر أن يكون على مستوى زمنه؟ من جهة أخرى، يعاني الشعر مصير الأدب عموماً. ثمة قلق شامل، وأزمة عامة. لذا من المهم أن يتحالف الشعر مع الفنون التي يمكنها مواكبته. وحدها هذه التحالفات قادرة على انقاذ الشعر وعلى جعله اجتماعياً و"أليفاً" من جديد. آمل أن الطريق ليس مسدوداً. آمل أنه ليس مصيراً يذهب حتماً الى الكارثة. تقول في إحدى قصائدك: "كل صورة هي صورة فكرة". هل هكذا تفهم مبدأ الصورة الشعرية؟ - يهمّني هنا أن يؤخذ مفهوم "الصورة" في كل أبعاده. وانني أستخدم هذه العبارة لأقول ان كل فكرة هي مجازية. لا يمكن أن يتم صوغ الأفكار على نحوٍ ليس مجازياً أو استعارياً. أقصد أن أقول ان الفكر يصنع صوراً في كل مجالات الحياة. أن نفكّر يعني في معنى ما أن نصوّر العالم، والشكل لا يمكن أن يظهر إلا بواسطة الفكر الذي يقول الشيء تصويرياً أو مجازياً. انها عبارة ذات طابع جدلي. تقول في قصيدة أخرى "ما لا يمكن قوله يجب كتابته"، كأنّك ترد هنا على جملة فيتغنشتاين شتاين الشهيرة: "ما لا يمكن قوله يجب كتمانه". فكيف تربط بين القول والكتابة، وبين الكتابة والصمت؟ - في رأيي أن الصمت الداخلي مملوء بالكلمات. لا أؤمن في وجود صمت لا يعجّ بالكلام الداخلي. ثمة أشكال عدة من الصمت والفرق بينها قابل للتفسير. لكن ليس ثمة فرق جوهري بين التفكير والقول والكتابة. المهمّ هو التعبير، أكان فكرياً، أي بين المرء وذاته، أم شفهياً، أم كتابياً. الصمت هو استمرار للتفكير، لكن من دون اشراك الآخر فيه. المحادثة، مهما كان الشكل الذي تتخذه، أمرٌ جوهري في نظري. منذ عامين خصصت عدداً مميزاً من مجلتك محتفلاً بعشرين عاماً على ولادتها. كيف تصنّف هذه المجلة التي أهم ما يميزها في رأيي أنها كانت منبراً مفتوحاً للتيارات الشعرية الجديدة والتجريبية في فرنسا والعالم، أكثر من كونها مجلة تيار أو مجموعة، مثلما كانت على سبيل المثال مجلة L'ژphژmڈre ؟ - تبلغ مجلة Poژsie الآن 22 عاماً من العمر، وهي موجودة لتبقى. ثمة في الواقع نوعان من المجلات الأدبية: نوع يبذل ما في وسعه طوال بضع سنوات ثم يتوقّف، ونوع آخر قابل للاستمرار. مجلة Poژsie مكرّسة لأربعة أهداف رئيسية تولي الأهمية نفسها: أولاً: ترجمة الأعمال الشعرية من كل الأزمنة وكل الثقافات، ما يشكل مطمحاً ضخماً. ثانياً - احتضان القادمين الجدد الى عالم الشعر. ثالثاً - المعالجة الفلسفية والتاريخية والأدبية لقلق الشعر على طبيعته وجوهره، ومحاولة الإجابة عن سؤال: ما هو الشعر؟ رابعاً - استرجاع نصوص قديمة منسية، واعادة وضعها قيد التداول. إنّها مجلة قد يكون عيبها الوحيد نزعتها الى الانتقائية، ليس ثمة نوع أدبي غريب عليها، باستثناء الرواية بسبب حجمها الكبير. ونعدّ من حين الى آخر أعداداً خاصة، إذ خصصنا على سبيل المثال أحد الأعداد للشعر الكوري المعاصر. إنها أعداد يتطلب تحضيرها بذل جهود هائلة ووقتاً طويلاً، لكنني راغبٌ حقاً في تخصيص عدد للشعر اللبناني المعاصر. ميشال دوغي: قصائد فتاة الفتاة الصبية تنطلق محرّكةً الهواء كمثل حصان أو راقدةً بهدوء نهداها منغرزين في الرمل مثل قارب قديم على ساحلٍ رملي الفتى الشاب فتى شاب كان يؤمن بالسفر لا يغلق الأبواب أبداً ولم يعد يعرف كيف يوضّب سريره في المدينة من طابق الضوضاء يسقط دوماً في ساقية الصمت بلا ألم يميل الى الريح التي تمحو، يُؤثر مُقدّم السفينة، وتلك الشقوقَ المفاجئة في السماء يستعير من الحب حركاته "الأرواحية" ومن النسوة كم يحلو له أن ينهب الغناء الذي يتملّكه ينقّب في أقفال الآخرين ليباغت الوقت الذي ينامون فيه والخمور التي يفضّلونها والمظهر الذي يسعون الى اقتطاعه في الفضاء بشعرهم ومسحاتهم. فهو يستمزج عادات فضلى فتى شاب كان يحلم بالأسفار منزلقاً على السكك الحديد الحادّة، سكك زيزان الحصاد وفي رحيل العشب السريع، العشب المقتلع تكون له الريح مثالاً إلى ما لا ينتهي مقاطع - 1 - وبما أني ما عدت أُشرع ولا أغلق الستائر ولا مصاريع النوافذ، باتت الغرفة على حداد - سوداء. وإذ يبقى الباب منها شبه منفرج، يتبدّى ذاك الخطّ العمودي القاتم، ذاك العمود الضيق المظلم الذي يدلّ على الانفصال في الردهة. - 2 - كنتُ أدّللك. "لم يكن من أمرٍ آخر" - إنّي لم أجعل من نفسي جلاّداً إلا من كوني جعلت من هذه الحكمة حكمتي المفضّلة، بغية قُلامة، بغية كلٍّ ما. هل ترانا يغفر واحدنا للآخر؟ - 3 - إنْ لم يحدث أمر آخر - إنْ لم يحصل من أمر سوى ذاك اللقاء الخاطف الذي فيه قلنا كلّ ما يعترينا وتبادلنا الوجيز اللامتناهي باللامتناهي الوجيز، كأنْ لم يحصل سوى تلك اللحظة، سوى ذاك الخاطىء كلّه وقد دمّره أننا علمنا أنّ لا شيء هو - ولعلّه هذا نفسه ما يذكرُ كلٌّ منّا إذ يلتقي الآخر: أتذكر؟ أتذكر المطر، الخردل، وثوبها في ذاك النهار، ويبتسم كلٌّ منا. ولعلّه ذاك اللاشيء الذي نأسف له. فما من شيء لم نأسف له. - 4 - في الوجود أنتم ولن تعودوا في الوجود. قليلاً ولن تبقوا في الوجود بل إنكم لم تعودوا الآن في الوجود. لتنسحبوا. ها قد أضحى الزمن كونياً وأنتم ما برحتم في الوجود، ولكننا بعد قليل لن نبقى في الوجود. وما من أحد يبقى. وإذ يتمّ ما سوف يتمّ فافعلوا كما لو أننا كنّا في الوجود كما لو أننا لم نكن قطّ في الوجود. - 5 - لا شيء في ما ينتظرنا في الحياة عقب الموت - إذاً: عقب الموت، موتِ الأقربِ إلينا، موتِ الأنا - الآخر، موتِ نصفه الآخر - لا شيء يتيح لنا الكلام عن حياة ثانية، عن حياة أخرى غير هذي الحياة، عن حياة تُستأنف فيها الخيبة، عن حياة مقفرة، مضطربة: إنه باطل الأباطيل كما في سفر الجامعة، الجفاف بعد الرغو، ملؤه الآمال والخيبات، الحفيّ إذ يحيل الى حكمة. محطات معهودة أتفهم أنّه بوح بالحب؟ كما لو شعاع ما تماماً، ومن بينه وشاح الفجر، يُنزي غامراً بنفسه، كلّ ما يمكن تعداده، مرتقياً به ببريقه، هكذا القصيدة في الضوء الموسوم للكسوف: كسوف الكائن يجعل الكلّ مرئياً أشياء مسمّاة في الجزء الذي يطول الكلّ وكذلك الضوء: اللغة. أتحدّث عن هذه الصبيحة الزرقاء الرقيقة المنعشة، صبيحة الخريف، المتشحة بزرقة فاتنةٍ وعن الصيد وطيور الماء، وهذا المذاق للمذاقِ نفسه، خارج الكل ولكن ككلّ، منفصلاً ومصغّراً. كيف نفقده؟ ينبغي لنا أن نمتنع عنه. طرائح أعمى، كانوا يقولون غابراً عن الشاعر إذ كان يبدّل أيّ مكان كي يجد، هكذا من أقصى حادثة حب الى أطوار لم تُنحت أبداً كان يكشف ما يكشفها. كان يصف ما يصف كمثل رقادكِ المنحني، كمثل سفينة طريحةٍ ملءَ يسارها عند الجزر، والمنخرين كشراعين لدى هبوب ريح المساء المفاجئة وحركة أيدينا إذ تجهز السفينة، حبل الصارية، الصاري المائل، منعكسات أضواء كواكبكِ على وجهكِ، مرقدكِ، وزاوية أرصفة الشاطىء بحسب ورككِ. - ورككِ بيمناي على رصيف الشاطىء... أترين أنني أكتب الطرائح فيما أنت لا تنامين. حركة ثابتة "وداعاً انني سأموت"، هكذا شرع يركض طيف المرأة الشابة التي لم تظهر إلا من خلف في الفيلم، وقد التقطت الطيفَ وأوقفته لحظةً قبضةُ الموسيقى المتنامية ولكن سرعان ما ينفلت صوب الموت الذي يهرب منه ذاك الطيف، طيف المرأة الشابة. لقد سبقتكم فرافقوني! - لا، لا تتركينا! لا تقعي في الهوّة الخارجية. كثيرون يهبطون معاً الى أعماق الجحيم، متمسكين بالجذور على منحدر النداء، متوسّلين مَن راحت تتلاشى وتنخطف، وهوذا النشيد الذي كانوا يصغون اليه كمثل ما يكبح الصاعقة: كانت المرثية تعظّم انبساط برهة الموت التي تستعيدها وفق إيقاع متهادٍ، يا له من هول؟ هول ذلك الردح الفريد، ردح اللارجوع اليه. كانت موسيقى الموتى تردّد ذلك المستهل، مستهل الذهول، ذهول ما لا يمكن أن يُشاطَر، والذي يتقاسمه هو المحتضر ونحن المشرفين على الجنازة، نحن الذين نتمسك به، نرافقه ونرفض أن يُقبل على الموت. ترجمة: عبده وازن