"خريف" الشاعر اللبناني جورج شحادة حافل وطويل هذا العام في بيروت. وقد بدأ في رحاب متحف سرسق عبر معرض ضمّ "أشياء" الشاعر وأوراقه وصوره وملصقات أعماله المسرحية وبعض الرسوم التي وضعها له رسّامون لبنانيون وفرنسيون. وصدر في المناسبة كتاب ضخم وجميل عنوانه "جورج شحاده: شاعر الضفّتين" أنجزه ألبير ديشي ودانيال باغليون وكلاهما ينتميان الى مؤسسة "إيماك" الفرنسية ناشرة الكتاب مع دار النهار. والمهرجان الذي كان من المفترض أن يقام قبل أشهر أي في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر، تنظمه مؤسسة "ايماك" و"دار النهار" متعاونتين مع المركز الثقافي الفرنسي ومتحف سرسق. وفي البرنامج ندوة حول جورج شحادة يشارك فيها شعراء ونقاد وكتّاب من لبنان وفرنسا ومنهم ميشال دوغي، الطاهر بن جلّون، ميشال كورفان، صلاح ستيتية، روبير أبي راشد.... ويقدّم المخرج اللبناني الفرنسي نبيل الأظن مسرحية مجهولة للكاتب الراحل عنوانها "لوعة الحب" في رؤية إخراجية حديثة في "المسرح الكبير" وسط العاصمة. والمهرجان يستمرّ حتى مطلع كانون الأوّل ديسمبر. وكانت دار النهار أصدرت الأعمال الكاملة للشاعر بالفرنسية في طبعة لبنانية خاصة وفق اتفاق مع دار غاليمار في باريس. هنا قراءة في عالم جورج شحادة الشعري والمسرحي. قد تمثل صفة "شاعر الضفّتين" التي أطلقت على جورج شحادة، ملامح هذا الشاعر اللبناني الفرنكوفوني خير تمثيل. فهي تختصر بحقّ عالمه القائم بين عالمين أو ضفّتين: الشرق والغرب. لكن الضفتين لا تتقابلان في عالم جورج شحادة ولا تواجه الواحدة الأخرى بل هما تتداخلان وتنصهران لتؤلّفا بوتقة شعرية واحدة أو أرضاً يندمج فيها الحلم والواقع، الطفولة والحكمة، الوعي والمخيلة. وهذه جميعها بدت أشبه بالضفاف التي يطل عليها عالم جورج شحادة إذ يصعب حصره فعلاً داخل حدود يبدأ منها وينتهي فيها. عالمه لا حدود له أصلاً ولا ماضي ولا حاضر. والشعر هنا حال انفتاح دائم على تلك "المفاجآت" الأثيرة وانتماء الى ليل الوجود المتوهج بالأضواء الداخلية. وليت "الأشعار" إلا مساحات مضمّخة بالروائح والألوان والظلال ... أما الصور الشعرية، فمرسومة غالباً برهافة مطلقة، وهي أقرب الى "السرابات" التي تتجسد عبر الكلمات المقطوفة من حقول الطبيعة والطفولة والحلم. عالم أليف في عفويته وبراءته، عالم جورج شحادة، غريب في طرافته الفطرية، مزيج من طفولة عابثة وشيخوخة حكيمة يهدّدهما كلتيهما الزمن العابر الى غير رجعة. عالم يكاد يكون متوهّماً من فرط حسّيته، واقعياً من شدّة حلميته. وقد نجح الشاعر تماماً خلال تجربته الطويلة في محو الخطوط التي تفصل الواقع عن جذوره الوهمية والحلم عن واقعيته الممكنه، فأصبح الشعر واحة وسط الرمال التي تربك المسافر في "ذلك الليل الأشدّ لمعاناً من النهار". وان كان جورج شحادة شرقياً أو مشرقياً أو متوسطياً بامتياز، سواء في معجمه ولغته المتهادية أم في رؤاه ومخيّلته فهو أيضاً شاعر فرنسي بامتياز ولكن ليس في المعنى السياسي أو التاريخي وإنّما في انتمائه الى "عبقرية" هذه اللغة التي ورثها عن شعراء القرون السابقة وعن رامبو وبودلير. لغته الحديثة جداً والمبتكرة هي سليلة الماضي البهيّ، سليلة الكلاسيكية التي طالما ألفها الشاعر ومال الى شعرائها. ومثلما استطاع رامبو شاعره المفضّل أن يلغي الحدود بين غربيّته ونزعته الشرقية، بين مسيحيّته المهرطقة والغنوصية وشغفه بالإسلام، استطاع جورج شحادة أن يقيم حدوداً سريّة أو لا مرئية بين الضفتين اللتين انتمى اليهما من غير أن يحسّ أيّ تناقض بينهما. وعندما سئل مرّة لماذا يكتب بالفرنسية أجاب: لا أعلم. وأشار الى أن كلمة "لازورد" هي التي جذبته الى اللغة هذه والى الكتابة بها. وطوال حياته لم يعرف جورج شحادة "المأزق" الذي عرفه الكثيرون من الكتّاب الفرنكوفونيين، مأزق الهوية، مأزق الثنائية اللغوية، مأزق الانتماء... علماً أنّه أصرّ على لبنانيته حتى رمقه الأخير ورفض الحصول على الجنسية الفرنسية على الرغم من الإغراءات الكثيرة التي كان من الممكن أن توفرها له. غير أن لبنانيته لم تكن تشبه لبنانية مواطنه الشاعر الفرنكوفوني شارل قرم مثلاً وهي نفسها لبنانية سعيد عقل "المتضخّمة" والخرافية. كان جورج شحادة لبنانياً في المعنى الأرقى للانتماء اللبناني، في المعنى الطوباويّ. فلبنان ظلّ في عينيه لبنان "العهد القديم" ونظر اليه مثلما تغنت به بعض الأناشيد الغابرة. وأحبّ فيه أكثر ما أحبّ جباله التي أتى على ذكرها شاعر "نشيد الأناشيد" مشبّهاً بها جمال حبيبته. كان لبنان في نظر جورج شحادة "طريقة حياة" وموته هو أقرب الى "موت الضوء" كما يعبّر. يقول الشاعر: "أحبّ لبنان مثلما نحب كأس ماء نديّ، مثلما نحب عطراً، مثلما نحب البحر، الجبل، الفصول...". وقد هاله كثيراً ما شاهد وخبر ولمس خلال السنوات الأولى للحرب اللبنانية فهاجر الى باريس مدينته الثالثة بعد الإسكندريةوبيروت. لكنه ظل يعود الى لبنان وكله شوق الى رائحة التراب عندما يغسله المطر. "أرغب في أن أتقيّأ": هكذا كتب مرّة يقول حين حاصرته الحرب في منزله. وهي ربما المرة الوحيدة التي يكسر فيها صفاء جوّه وبراءة عالمه الأليف والغريب في الحين عينه. وإن أُخذ على جورج شحادة عدم ذكره لبنان في شعره ومسرحه فهو لم يتخلّ يوماً عن لبنانه "أرض العسل والبخور" وقد جسّده عالماً من ضوء وظلال، من ألوان وعطور، عالماً خرافياً وحلمياً. فهو لا ينتمي الى لبنان التاريخ مقدار انتمائه الى لبنان الجغرافيا، ولا الى لبنان الواقع بل الى لبنان الحلم. وإذ يتحدث شحادة عن تلك "الحدائق" التي "لم تبق لها بلاد" فإنّما ليؤكّد انتماءه الى تلك "الحدائق" الصاخبة بالينابيع والأضواء والأفياء والأشجار... فهو كما يقول لا سيرة له ولا تاريخ، بل شاعر فقط، ورسالة الشاعر كما يعبّر أيضاً هي أن يكون شاعراً، إذ أن "كلّ شيء حلم، غبار أحلام". لا أعتقد أنّ الشرق والغرب استطاعا أن يتصالحا في نتاج أدبيّ مثلما تصالحا في نتاج جورج شحادة شعراً ومسرحاً. فهما لم يتقاطعا فحسب بل مثّل تقاطعهما كي لا أقول انصهارهما حالة طوباوية نادرة لم تعرف ربّما إلا في بعض قصائد رامبو. الشرق هنا لا يسعى الى مواجهة الغرب ولا يعاني من وطأة حداثته وعصرّيته والغرب لا يبغي التسلّط على الشرق كما راج في التاريخ والسياسة. الشرق والغرب حالة واحدة من التآلف والاختلاف، من الحبور والكآبة، من التسامح والقوّة. شمس الشرق تبزغ هنا فوق بحر الغرب وسماء الغرب تظلل أرض الشرق. وإذا كان جورج شحادة شرقياً ومشرقياً في أجوائه الملتبسة بين الخرافة والحلم فهو كان فرنسياً في لغته النضرة والمتينة والأرستقراطية النزعة. وان كان هو "سيداً كبيراً من أسياد اللغة الفرنسية" كما قال عنه جان لوي بارو فهو أيضاً بحسب بارو نفسه "الحوذيّ السرّي الآتي من بلاد ألف ليلة وليلة". ولعلّ ما قاله فيه الشاعر الفرنسي جول سوبرفيال يمثل حقيقة تجربته: "ما أسعد شحادة: انّه يجمع بين مواهب أفضل الرواة العرب ومواهب الشاعر الفرنسي الأشد أصالة". لا يحتاج شعر جورج شحادة ومسرحه الى مَن يقدّمهما فهما يقدمان نفسهما بنفسهما. فعالمه آسر ببساطته وعمقه، بألفته وغرابته. ولغته شفافة كالبلور وصوره خاطفة كالبرق وكنوزه ساطعة. عالم هو أشبه بمعرض ظلال وأضواء، أخيلة وألوان، عالم من أثير وتراب، من حلم ونار. عالم "النعمة الصافية" كما يقول الشاعر الفرنسي فيليب جاكوتيه. ولعل الناقد الذي يتناول عالم شحادة يواجه قدراً من الصعوبة في الكتابة عنه لا لأبهامه وانغلاقه أو "هرمسّيته" وإنّما تبعاً لشفافيته ورقّته و"هوائيته" أو "أثيريّته". فقراءة شحادة الأولى تستدعي قراءة ثانية وثالثة. والكتابة عنه تفترض الاستسلام لاغراءاته ومزالقه الجميلة. ومن يقرأ شحادة، قراءة عادية أم نقدية، يصعب عليه أن يقاوم هذه الإغراءات وأن يتحاشى فتنتها وهي ليست إلا فتنة هذا العالم البهي المشرق كشمس الشرق والذي يتصالح فيه الحلم والواقع، الحقيقة والخيال، السخرية والمأساة. عالم بهيّ حقاً عالم جورج شحادة، عالم الطبيعة والماضي معكوساً على مرآة الخيال. عالم القمر والبحر والليل، عالم الينابيع والسواقي والحقول، عالم الحدائق الصامتة والسماء التي تعبرها الملائكة واليمائم والعصافير ... عالم يتحرر من واقعيته وطبيعيتّه عبر انفتاحه البريء على الخيال والماوراء، على "الصمت الرائع" والكآبة المشرقة والفرح الفردوسيّ. عالم مغلق ومفتوح، كامد ونقي، مشرق وكابٍ، المكان الواقعي فيه يوازي المكان الآخر الغائب أو كما يقول جان بيار ريشار إنّ "الهنا" يدلّ على "الهناك" الذي لا يتأكد إلاّ عبر الحدس بسرابه وحدوثه. لم يكلف جورج شحادة نفسه عناء البحث عن عالمه الغريب والأليف بل كان يجده وكأنّه يسترده جزءاً إثر جزء عبر تخيّله. فإحساسه العميق بالوجود أتاح له أن يرى الوجود من الناحية الأخرى، تلك الناحية "المثالية" الكامنة في حقيقة الوجود نفسه. تلك الناحية التي يكشفها الحلم فيجدد صورتها الأولى الواقعية ويسمها بالغرابة والطرافة. وهنا ربّما يكمن سره في قدرته الهائلة على الجمع بين الألفة العذبة والغموض العذب. كأن الألفة هي حنين الحالم الى الواقع وكأن الحلم حنين الشاعر الى جذوره القديمة. هكذا يؤكد شحادة أن الحقيقة الوحيدة الممكنة هي الحقيقة الشعرية في المعنى الكلّي والشامل. فالشعر حالة حضور داخلي في عالم يتجه دوماً الى مزالق الواقع والتاريخ. ولعلّ الشاعر يخاطب قارئه من "المكان البعيد" مضيئاً "المكان القريب" عبر نور العين الداخلية وأوهامها الحقيقية، تلك الأوهام التي تجدّد عناصر العالم وأشياءه. شعر جوررج شحادة كتاب غرائبي، صفحاته أشبه بالصور والحكايات والألوان الطريفة والأليفة التي تلامس حدود الفانتازيا الجميلة والدعابة العابثة من دون أن تتخلى أبداً عن صفاء الجذور ونقاء الحالات الروحية. ولكن وراء تلك المساحة المضاءة بالفرح والوهم ثمة مساحة داخلية أخرى تضيئها كآبات الفرد وأحزان الأرض. وهي تجربة جورج شحادة البهيّة تمزج "الورد" بالرماد والرحيل بالعودة والمطر بالشمس: مأساة اللحظة العابرة هي مأساة الوجود كما يجب أن تُختصر. وان حضرت الطفولة بشدّة في شعر جورج شحادة واسمة عالمه بألوانها الزاهية و"مفرداتها" العذبة فهي تظلّ الطفولة المختلفة، المشوبة ببياض الشيخوخة ودهاء الحكمة، انها "الزمن البريء للأشياء"، الزمن الذي يسترجعه الشعر ويحققه. بل هي حالة "الصفاء" الأول الذي لم يعكره الشر المعتمل في العالم. حالة البراءة الصافية للإنسان قبل سقوطه في الإثم، في فراغ الوجود وعبثيته. إنها الحنين الى الفردوس المفقود الذي يبحث الشاعر عنه وسط الدمار والصقيع اللذين يهدّدان العالم. غير أنّ الطفولة لن تجسّد الحنين فقط الى "عالم ضائع" كما يقول الناقد غايتون بيكون، بل سوف تكون "الصوت البسيط لحياة ليس لها أرض أخرى". تنتحل قصائد جورج شحادة طابع القصص الخياليّ، فعالمه هو "عالم الذهول والبراءة والشعر وحكايات الجنّ" كما يقول ليونار برونكو. كأنّ الشاعر يروي قصائده وصوره الملتمعة بضوء الخيال وكأن القصائد نفسها فصول من حكايات وهمية لا تنتهي، يحيط بها إطار واقعي شديد الألفة والبساطة. كي يعود الربيع لا بدّ من انتظاره: لكنه لن يعود إلاّ عبر استدعائه... والاستدعاء جزء من لعبة شحادة السحرية التي يدرك أسرارها تماماً وان كان "ساحراً بلا وهم" يمزج الكآبة والسرور بلمسة مرهفة. ولعل الطابع الغرائبي الذي يساكن شعره إنما يؤكد علاقته بتراثه الشرقي المجبول بالخرافات والأوهام والطقوس الغريبة. يقترب الشعر من الأسطورة من دون أن يكون أسطورياً تماماً ومن غير أن يفتعل الترميز والتخييل. انه حالة وهمية شاملة كامنة في عمق أسطورة الوجود. بل هو اقتراب وهميّ من حقيقة الوجود التي لا تتخلى لحظة عن جذورها الضاربة في عمق الخيال الأسطوري. وإذا كان السورياليون قد رجعوا الى أساطير الشرق كي يفسروا ثورة الحلم ويرسخوا أسرارهم الجديدة فإن جورج شحادة وجد نفسه منذ مراحله الأولى في عالم مفعم بالأساطير والرموز والأوهام والغرائب. وربّما جذوره الأولى هي دفعته الى أن يلتقي السورياليين مصادفة فيجد فيه بروتون الصديق الأمين للحركة المتمردة على الواقع والتاريخ. وليس غريباً أن يعجب الشاعر الرائد بهذا اللبناني الحالم وأن يصفه "بالمكتشف" وأن يدعو الى السير وراءه من "دون قنديل"، ففي عالمه "نشعر أنّنا نقبض على الأشجار وأننا نتحد بها أخيراً" كما يعبّر بروتون. ويعترف جورج شحادة أنه وجد نفسه سوريالياً قبيل قراءته النتاج السوريالي ونظرياته. ولئن بدا شعر جورج شحادة غاية في البساطة، فلأنه غاية في العذوبة التي تسم عادة المخيلة الطفولية الساطعة. لكنه شعرٌ على قدْرٍ من التعقيد إذ أنّه ينطلق من بنيته "الغائبة" أو المتوارية، تلك البنية المتينة الكامنة في عمق اللعبة الشعرية. وإذا أوحى هذا الشعر بفضاء من الحرية المطلقة فلأنه أسير مخيلة الشاعر وثمرة "الهندسة الصافية" التي يتحدث عنها سان جون بيرس، في شعر شحادة، هذه "الهندسة" التي تجسّد الوردة من خلال عبيرها واللؤلؤ عبر أبعاده المجهولة. ولعلّ الصور الشعرية التي تنبثق بين لحظة وأخرى في سطوعها المرئيّ المفاجىء هي وليدة الخيال الممزوج بالوهم الفانتازيّ والواقع الآيل الى غرابته. وهكذا لم يكتب جورج شحادة قصيدة مغلقة بل بنى عالماً شعرياً رحباً قائماً على بنية داخلية تلغي نفسها باستمرار. فالسياق الشعري الذي يجمع القصائد داخل مناخ طبيعي - رؤيوي هو متماسك تماماً من دون أن يجاهر بنفسه. وهو يجسّد الوحدة العميقة للتجربة الشعريّة والوجودية التي يحياها الشاعر. ولم يكن من المستغرب أن يكتب جورج شحادة "أشعاراً" لا قصائد وأن يسمّي نتاجه الشعري ب"الأشعار". وهو لم يعمد الى عنونة "قصائده" أو أشعاره في معظمها كي لا يستقل بعضها عن بعض. كأن الشاعر شاء أن يكتب عالماً شعرياً رحباً، مشرعاً على المصادفات والمخيلة متخطياً مبدأ القصيدة المغلقة التي تبدأ في لحظة ما وتنتهي في لحظة أخرى. وقد غدت أشعاره على مقدار كبير من الانسياب وتخلّصت من جاذبية "هندسته" الحكيمة من غير أن تقع طبعاً في الفوضى والخواء. شعر ومسرح من يقرأ أعمال شحادة الشعرية والمسرحية يفاجأ فعلاً كم أن المسرح والشعر لا ينفصلان لديه واحدهما عن الآخر. فمسرحه لا يحقق دراميته إلا عبر شعريته، وشعريته درامية في عمقها وفي تجلياتها اللغوية. وإن وُصِف مسرح شحادة في كونه شعرياً فهو درامي أولاً وأخراً وقابل كل القبول لأن يقدم على الخشبة. والشعر فيه ليس مادة خارجية أو تزييناً مستعاراً بل هو النسيج الدرامي نفسه وجوهر الدراما. ولكن من الممكن جداً أن يُقرأ هذا المسرح كنصّ من دون أن يفقد خصائصه المسرحية. ولعل النقلة التي أنجزها شحادة من عالم الشعر الى عالم المسرح لم تكن انقطاعاً عن الشعر وانصرافاً الى المسرح بل كانت تواصلاً واستمراراً لتجربة واحدة. ومعروف أن شحادة أصدر مجموعاته الشعرية في باريس قبل أن ينصرف الى الكتابة المسرحية. ولم يكن دخوله عالم المسرح إلاّ في العام 1951 عبر مسرحية "السيد بوبل" التي أثارت سجالاً في باريس حين قدمها المخرج الفرنسي المعروف جورج فيتالي على خشبة "لاهوشيت" الشهيرة في العام نفسه. وقد مدح بروتون هذه المسرحية واجداً فيها نموذجاً لما يسمّى "الشعر في المسرح". ويوضح شحادة أبعاد احترافه الشعر والمسرح معاً قائلاً "كتبت أشعاراً، ولكني بعدما بلغت حالة من التوتر رغبت في فتح النافذة. حاولت أن أعرض في المسرح ما علّمني إياه الشعر. لكن الشعر درامي في طبيعته". وكان شحادة لامس في "أشعاره" فضاء أثيرياً وشفافاً من شدة صفائه، وبات الشعر معه مكثفاً ومتقشفاً بحدة حتى كاد يفقد نفسه من كثرة ما وجدها. بل أصبح الشعر أشد "بلّورية" ولكن أشد إلغازاً بعدما أصاب "كيمياء" اللغة. حينذاك كان على شحادة أن يصمت كشاعر وأن يفجّر صمته درامياً. وإذا المسرح بمثابة المخرج الملائم من الصمت، صمت الشعر واستحالته. غير أن لغة شحادة في المسرح لم تتبدل كثيراً بل ظلت شعرية بامتياز وانها هنا تنفرد بمداها التخييلي الفائض من كونها لغة "تلميحية" أو "إلماعية" قادرة على صهر العناصر الغريبة والمتنافرة في طريقة مفاجئة تتيح للصور أن تتدفق وللكلمات أن تنساب انسياباً موسيقياً. انه الشعر الذي ينبثق من كل الجهات وينساب طبيعياً في نصوصه. فكل ما يقوله شحادة في مسرحه هو شعري وشعره يدهش ببراءتته وعفويته. ومهما أوغل شعره في حلميّته وأثيريّته وشفافيّته فهو لا يهمل الواقع كل الإهمال بل ينطلق منه ليعيد اختلاقه لا خلقه. صحيح أن الشاعر قال "من يحلم يمتزج بالهواء"، لكنه قال أيضاً "إذا هجر الشعر الواقع فإنما ليتوّجه". ولعلّ ميزة هذا الشعر في كونه يدمج بين الواقع والحلم دمجاً سحرياً وكأنه قائم حقاً على تخوم الواقع والحلم معاً، تلك التخوم الغامضة والمتشابكة. فالحلم ليس إلاّ جزءاً أساسياً من الحياة، ان لم يصنعها هو ويؤكدها. يقول شحادة "النوم هو كمال الحياة لأنه حافل بالأحلام". كان جورج شحاله يتمنى، كما قال مرّة، أن يمثل اسمه في "القاموس" بين شهرزاد وشكسبير. وبعد مماته مَثَل اسمه حيثما شاء وفي بضعة معاجم أدبية ومسرحية. ولم تكن رغبته في اختيار هذا "الموقع" بين نجمة "ألف ليلة وليلة" ورائد المسرح الغربيّ مجرّد رغبة أو نزوة بل كان يدرك تماماً أنّه استطاع أن يلغي تلك المسافة التي تفصل بين شهرزاد وشكسبير جامعاً بين سحر "ألف ليلة" وبهاء عالم "هاملت" و"الملك لير" و"عطيل" وسواها. وقد نجح فيليب جاكوتيه في الجمع بين اسم شحادة واسم شهرزاد فهو "الساحر" بل "الساحر النقي" الذي يشعل "مصباحاً آخر" أو "قمراً ثانياً" ليضيء الليل، "الليل النديّ والخالي من أي أثر أسود". كان جورج شحادة شاعراً وشاعراً فقط، وشاء طوال حياته أن يتوارى خلف هذه الهالة التي رسمها لنفسه من غير افتعال أو ادّعاء. وقد كفاه أن يكون شاعراً يشاهد ك"عصفور هامد" كلّ ما يعبر أمام عينيه. لكنّه كان "سيد الكلمات" كما يفترض هو نفسه بالشاعر أن يكون، سيّد "البعد الرابع" كما يعبّر أيضاً، ذاك البعد الذي شرّع عالمه الشعريّ على منافذ واحتمالات شتى، فإذا الظل بحسبه "ضوء ثان" مثلما أنّ "ظلّ الوردة" هو "وردة أشدّ خفّة من الوردة". كان جورج شحادة شاعراً حتى في صمته وفي عجزه عن الكتابة الذي ساوره في أحيان. وكان شعره ذاك الذي كتبه أم الذي عاشه بصمت خير شاهد لا على شعريته الكبيرة والخفيضة الصوت فقط بل على رسالة الشاعر في عالم يفقد براءته وجماله عصراً تلو عصر. ولم يمتدح جورج شحادة الشعر إلا من كونه حلماً نافذاً، حلماً ليس إلا "امتزاجاً بالهواء". وكم كان جورج شحادة بحق، شاعر الحلم، شاعر الفردوس المفقود، شاعر الهواء المشبع بالألوان والأجنحة. * هذه المقالة هي مقاطع من دراسة طويلة عن جورج شحادة.