لا شك في أن الفيلم الوثائقي يشكّل جزءاً بارزاً ومهماً في الانتاج السينمائي العالمي، ذلك أن هذا النوع الفني يتطلب العديد من التقنيات السينمائية، ويحاول أن يعكس الواقع الإنساني والاجتماعي، بكل أبعاده والخلفيات، كما بكل تداعياته والطموحات، ويسعى الى بلورة المشهد السمعي - البصري، بإيغاله في تصوير الحياة اليومية، مرتكزاً على لغة فنية خاصة به. الفرنسيون أطلقوا اسم "الوثائقي" على أفلام الرحلات، وهي عبارة عن أفلام تسجيلية تقضي بأن تصوّر الكاميرا "المكان الحقيقي"" وفي كتابه "السينما، آلة وفن"، رأى الأميركي ألبرت فولتون أنه، بهذا المعنى، "تصبح الجرائد السينمائية الأخبارية أفلاماً وثائقية"، مضيفاً أن ذلك ينسحب، بالتالي، على أفلام الأخوين لوميير الأولى، ويشير فولتون الى أن الفيلم الوثائقي "أكثر من مجرد عرض واقعي للحياة"، معتبراً أنه "يتضمن عملية تفسير أيضاً"، ومتوقفاً عند تلك المقارنة: فالفيلم الوثائقي بالنسبة اليه، "يشبه الفيلم الروائي من حيث أنه يسرد موضوعاً" ويشبه فيلم الرحلات بتناوله حقائق واقعية. لكنه، في الوقت نفسه، تسجيل موحد البناء والموضوع". وظهرت كلمة "الأفلام الوثائقية"، للمرة الأولى، في مقالة كتبها جون غريرسون في مجلة "نيويورك صن" في شباط فبراير من العام 1926، في معرض وصفه لفيلم "موانا"، الذي حققه روبرت فلاهرتي حينها، مصوراً فيه حياة سكان جزر البحار الجنوبية. فيما بعد، كان لا بد لغريرسون من أن يحدد مقصده من كلمة "وثائقي" التي توازي كلمة "تسجيلي"، عند بعض العرب، فقال أن الفيلم الوثائقي "معالجة للأحداث الواقعية الجارية، بأسلوب فيه خلق فني"، مضيفاً أنه يتناول الواقع "إبداعياً"، أي أنه "لا يعتمد على السينما كأداة فحسب، بل كفن أيضاً". تأتي هذه المقدمة حول بدايات الفيلم الوثائقي وبعض أبرز تحديداته النقدية، في مناسبة "المهرجان الأول للأفلام الوثائقية 99"، الذي أُقيم أخيراً في بيروت، من تعظيم "الشركة العربية للراديو والتلفزيون والسينما"، بالتعاون مع صحيفة "النهار" وفندق "ماريوت" وشركة "كوداك" وادارة مجمّع "أمبير" السينمائي ومؤسسة عصام فارس" ضمن الاحتفالات اللبنانيةببيروت "عاصمة ثقافية للعالم العربي لعام 1999". كان لا بد من تقديم تأريخي - نقدي كهذا، للدخول في بعض تفاصيل هذا المهرجان الأول من نوعه في لبنان، بعد انتهاء الحرب اللبنانية، مع أن للفيلم الوثائقي مكانته وثقله الثقافيين والفنيين في العالم" علماً أن ثمة شركات انتاج عدة، ومحطات تلفزيونية عالمية، متخصصة بالفيلم الوثائقي، وفي لبنان أيضاً، أنجز السينمائيون اللبنانيون، بغالبيتهم، أشرطة وثائقية، لا يزال بعضها يعتبر بمثابة موروث ثقافي وفني، قد يكون أهم بكثير من أفلام روائية طويلة عدة. وإذا بهذا المهرجان يأتي ليفسح المجال أمام جيل سينمائي لبناني مختلف، يسعى بجدية الى مواكبة التحولات الحضارية والتقنية والفكرية، كي يعبّر عما يعتمل في داخله من هواجس وأحلام وتداعيات. فالمهرجان - الذي عرض نحو سبعين فيلماً وثائقياً في صالة سينما "ايليت"، في فندق "ماريوت" الجناح، التابعة لمجمع "أمبير" - اهتم بأفلام الطلاب، الى جانب عرضه أعمال محترفين وانتاجات مؤسسات، مخصصاً حيّزين اثنين للأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة، الى ذلك، رعت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عروض أفلام ذات توجه اجتماعي" في حين أن منظمة "غرينبيس" العالمية، المهتمة بشؤون البيئة، رعت بدورها أفلاماً بيئية متنوعة. ازاء كل ذلك، يمكن القول أن المهرجان الأول لم يكن لبنانياً بحتاً، فهو ساهم في إغناء التواصل السينمائي بين اللبنانيين والأجانب، بعرضه أفلاماً أنجزها مخرجون وثائقيون وأنتجتها، تحديداً، شركة "كابا" الفرنسية و"الجمعية العالمية للأفلام الوثائقية" الأميركية. غير أن السؤال الأبرز يكمن في ضرورة البحث عما إذا توصل هذا المهرجان الى تحقيق أهدافه الثقافية والفنية. فعلى رغم أهمية اقامة مهرجان سينمائي متخصص بالفيلم الوثائقي، بدا واضحاً أن سوء التنظيم أدى الى ارتباكات عدة، أبرزها كثرة الأفلام المعروضة، وعدم افساح المجال أمام الإعلاميين والنقاد لمشاهدة الأفلام في عروض خاصة بهم" وبالتالي، لم يهتم منظموه بالإعلان المكثف عنه، بحيث أن غالبية المشاهدين كانت تنتمي الى طلاب جامعيين وزملائهم ومعارفهم، في حين أن أفلاماً عدة عرضت أمام عدد قليل من المشاركين. أضف الى ذلك، غياب البرمجة الواضحة، وعدم توزيع كراسات صحافية خاصة بالمهرجان وبأفلامه المتنوعة. علماً أن مشاكل عدة سبقت أطلاق الدورة الأولى، خصوصاً لجهة الرقابة على الأفلام المختارة: المعروف أن الأفلام التي تشارك في مهرجانات سينمائية، لا تمر على دائرة الرقابة على المصنفات الفنية، كون مثل هذه المهرجانات لا تبغي عروضاً تجارية مربحة، بقدر ما تنتمي الى النشاطات الثقافية والفنية. لكن جهاز الرقابة اللبنانية أصرّ على مراقبة الأفلام، قبل أيام قليلة على بدء الدورة الأولى، علماً أن وزارة الثقافة والتعليم العالي كانت وعدت منظمي المهرجان بعدم اخضاع الأفلام للرقابة، مما أدى الى نزاع خفي بين الطرفين. أياً يكن، فإن المهرجان الأول للأفلام الوثائقية هدف الى استنهاض الكفاءات والخبرات. ورأى مرسيل برسودير أحد المشاركين في تنظيم المهرجان، أن التحضيرات استغرقت ستة أشهر، في حين أن المهمة الصعبة، برأيه، كانت في انتاج أفلام وثائقية لبنانية، فإذا بالجهود تتركز على نشر فكرة المهرجان بين الطلاب الجامعيين، علماً أن بعض المعاهد الأكاديمية المتخصصة بالدراسات السمعية - البصرية، تطلب، ضمن أعمال التخرج، أفلاماً وثائقية. غير أن "الشركة العربية للراديو والتلفزيون والسينما" وضعت في تصرف هؤلاء الطلاب الراغبين في المشاركة في المهرجان ما يحتاجون اليه من أجهزة تصوير ومونتاج متطورة، بأسعار معقولة "بهدف تكريس صناعة سينمائية وتلفزيونية حقيقية، لا تزال تحاول ايجاد موطىء قدم لها"، كما قال برسودير. وكانت النتيجة أن "الشركة العربية" أنتجت، خلال ثلاثة أشهر، خمسة وثلاثين فيلماً. لا يمكن تقديم الأفلام المشاركة في المهرجان، بسبب كثرتها وتشعب أنواعها ومواضيعها، لكن نظرة نقدية متكاملة، تكشف أن الطلاب والمخرجين اللبنانيين قدموا أعمالاً ترتبط مباشرة بمجموعة من القضايا الإنسانية والاجتماعية الحساسة، ان لجهة البحث في موضوع المخطوفين "حكاية انتظار" لمنى سعيدون، مثلاً أو على مستوى القراءة النقدية للواقع الاجتماعي عمالة الأطفال في فيلم "ما بدي مصاري" لأمير كريدية، ووضع العمال السوريين في لبنان، في "جوكر" لمي قاسم، الى صناعة الكلسات في فيلم "كلسات" لكامين عبيد، وأحلام الشباب اللبنانيين في "... الخ". لراني بيطار، مروراً بانتقاد الواقع التلفزيوني في "طالبين رماد العاصفة" لزينة حداد وربى قرفلي، من دون تناسي المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبعض الشخصيات السياسية والتاريخية كمال جنبلاط، كوزو أوكوموتو والشعرية عصام العبدالله في "جن الحكي" لنعمة بدوي، كما عن مدن طرابلس، بيروت.... هادي زكاك مزج الوثائقي بالروائي، في الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين الأولى، في "ألف ليلة و ... ليالي"، أما ديمتري خضر قصور حياة المسيحيين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ايقونات حية. وعرض فيلم كانت مجلة "النهار العربي والدولي" أنتجته مطلع الثمانينات، بعنوان "عبدالناصر: الرجل والتاريخ"، "أرخ عبر الصور والخطب وعناوين صحيفة "النهار" لتاريخ عبدالناصر، وبعده لحقبة من تاريخ مصر والأمة العربية ودول عدم الانحياز، على مدى ساعة حول "الزعيم الذي أدخل العرب العالم من درب عدم الانحياز، وجعل القاهرة مركز ثقل في العلاقات الدولية".