لا يخفي مئير زامير في مقدمته، الرغبة في دمج التأريخ بالسجال، موجّهاً سهامه الى "مدرسة" بشارة الخوري والدستوريين ممن خفضوا اهمية اميل اده، وبالغوا في تضخيم اسطورة "المعجزة اللبنانية" تعايشاً بين المسلمين والمسيحيين من ضمن ديموقراطية برلمانية واقتصاد رأسمالي. واذا كانت الحرب سبباً اضافياً لاعادة كتابة التاريخ اللبناني وتأويله، على العكس مما أسسه وأوحى به كتاب "حقائق لبنانية" لبشارة الخوري، فان اعادة تصنيف الارشيف الفرنسي التي جرت في السبعينات والثمانينات سهّلت المهمة على زامير. وعلى اية حال ففي "البحث عن لبنان - الطريق الى الدولة 1926 - 39" أي. بي. تاورس، يستأنف المؤرخ الاسرائيلي مشروعه لكتابة التاريخ اللبناني الحديث، الذي غدا لا ينقصه الا الجزء الاخير لاستكمال ثلاثيته التي تنتهي بالاستقلال. ولئن تناول الجزء الاول "تشكّل لبنان الحديث 1918 - 26" فان الجزء هذا يدور حول بناء الدولة والجمهورية والصراعات السياسية والاجتماعية، لا الطائفية وحدها ولا الطائفية اساساً، بدليل الموقع البارز الذي احتله تنافس اميل اده وبشارة الخوري المارونيين، كما يرى. وإذا سجّل المؤرخ الدؤوب والمدقق للنظام السياسي اللبناني قدرةً على كبت الطائفية الصريحة أو على الأقل تمويهها وتحويرها، فما يبدو له، عملاً بمواد الارشيف الفرنسي، ان الاستقلال لم يكن كما تقول الرواية الرائجة "اتفاقاً فريداً بين بشارة الخوري ورياض الصلح البعيدي النظر، بل جاء تتويجاً لعملية بدأت في العشرينات والثلاثينات، وفيها لعب اده والمفوضون السامون الفرنسيون على اختلافهم دوراً ليس عديم الاهمية". وفي خلفية هذه التطورات جميعاً كانت هناك تجربة الاخفاق الفيصلي في ميسلون، وتجزئة الرقعة التي نعرفها الآن باسم سورية، والعداء المسلم لفرنسا، وتحول موضوع الوحدة السورية مضموناً للعلاقة التناحرية بين المسلمين السنّة والاقليات، كما بين سورية ولبنان. وفي الموازاة تنامى العداء الأكثري الخاص والمميز للموارنة و"لبنانهم" وحمايتهم التي وفّرت الذريعة لحضور فرنسا في المنطقة، في حين ان تجزئة سورية بدت نتيجة مباشرة لرغبتهم في دولة مستقلة لهم تكون بمثابة سابقة، كما تكون مصدر تقليد الاقليات و الجماعات الاخرى. واذا كان المفوضون السامون الفرنسيون وبشارة الخوري واميل اده، والبطريرك عريضه والمطرانان عبدالله الخوري واغناطيوس مبارك، ورياض الصلح ومحمد الجسر وعبدالحميد كرامي وخير الدين الاحدب وميشال شيحا وجورج نقاش، الابطال الاساسيين لتلك الحقبة، فانها تبقى حقبة لا تقبل اي تبسيط وردٍّ الى آحادية سهلة. مع هذا، لئن ارتسم الخطر السوري على لبنان واقعاً ضمنياً ممتداً منذ نشأة الكيانين، فان زامير في توزيعه المسؤولية يضعها كلها تقريباً على عاتقي السياسة الفرنسية والسياسة المارونية ان جاز القول. فالانتداب الفرنسي لم يقم بدوره الاساسي في تعليم السياسة وتمكين قيم الحداثة السياسية والادارية والتنظيمة بين اللبنانيين. لكنه ايضاً برفضه "اعادة" الاراضي والملحقات في البقاع والشمال الى سورية، وبرفضه مبادرة دي جوفنيل في "اعادة" الأراضي، وتّر العلاقة الفرنسية - السورية واحال لبنان مسرحاً دائماً لذاك النزاع. لقد حُسمت هذه السياسة كلياً منذ اواسط الثلاثينات باتجاه اعتماد لبنان قاعدة استراتيجية اساسية في شرق المتوسط، وذلك بفعل تضافر عوامل عدة كتردّي علاقات فرنسا مع "الكتلة الوطنية" السورية واكتمال بناء انابيب النفط، في 1935، ما بين الموصل وطرابلس، وظهور ايطاليا كقوة في المتوسط يمكنها ان تجذب بعض العواطف المارونية، بيد ان السياسة هذه ارتبطت بأزمات باريس في العقد السابق على اندلاع الحرب الثانية 24 حكومة بين 1930 و1940، وكان التشدد فيها يعكس رجحان الكفّة الاكثر كولونيالية ويمينية وكاثوليكية في سياسة فرنسا وادارتها. لكن الاهم ان فقدان السياسة المحددة للدولة الانتدابية، ثم حسمها بعض الخيارات الاساسية منذ اواسط الثلاثينات، عملا على ارساء لبنان يعتدّ بالاتكال على فرنسا اكثر من اعتداده بالتفاهم مع سورية. وتحوّلت صعوبات هذا اللبنان مأزقاً عصياً لأن "الاكثرية" المسيحية التي أنشىء الكيان من حولها ولضمانتها، لم تكن اكثرية واضحة وقاطعة، او انها كانت اكثرية تخسر اكثريتها بصورة متسارعة، ما يجعل سطوتها السياسية غير مؤسسة على مقدمات ديموغرافية صلبة. اما الموارنة والمسيحيون وساستهم ورجال دينهم عريضة، مبارك، عبدالله الخوري فذهبوا بعيداً جداً في تقديم عيّنة ناصعة على التخلف السياسي: اولاً - لم يقبلوا ب "اعادة" الاراضي والرجوع الى "لبنان الصغير" على نحو كان ليطمئن سورية ويبقي على الاغلبية المسيحية الواضحة والحاسمة لكيانهم الجديد. ثانياً - لم تأت سياستهم المنفتحة على سورية والعرب والتي مثّلها بشارة الخوري، تعبيراً عن قرار واضح ومبكر، سياسي وايديولوجي، بل جاءت ملحقاً متأخراً بسياسة الصغائر التي رعاها الخوري نفسه. ثالثاً - ينطبق الامر نفسه على الموقف من المسلمين اللبنانيين: صحيح ان اده والخوري، وفي هذه الفترة او تلك، لعبا "اوراق" محمد الجسر وخير الدين الاحدب، وصولاً الى ترشيح الجسر لرئاسة الجمهورية. وهذا يوحي ان منافستهما انما فتحت باب السياسة للمسلمين، كما يلغي الصورة المبسّطة عن النزاع الطائفي داخل المستوى السياسي اللبناني. لكن الصحيح ايضاً ان هذا النزاع المعقد، والذي صاغت النخبة السياسية المارونية عناوينه ووجهته العامة، ساهم بدوره في تعقيد الوصول الى مجتمع سياسي لبناني. رابعاً واهم مما عداه - ان سياسة المنافسات الوضيعة بين اده والخوري، كما داخل الكنيسة المارونية لازاحة عريضة والحلول معه، بدت دائماً اقوى من كل اعتبار، داخلياً كان ام خارجياً. لقد استحال، كائناً ما كان التهديد،الوصول الى جبهة او تحالف، او حتى فرز للمستويات يتبلور بنتيجته الخط الفاصل بين جواز الخلاف والحاح الاتفاق. واذا كان لهذا العامل ان أضعف لبنان ككل، فإنه امعن في اضعاف الموقع الماروني ذي الاكثرية المهددة في اكثريتها اصلاً. وزاد الطين بلة ان الادارات والمؤسسات التي ترافقت مع هذا البناء الجديد جاءت شديدة التخلف، محكومة بمنطق الزبونية العائلية والسياسية. والى ذلك عمل التنافس الماروني - الماروني على توسيع هامش السلطة والتحكيم الكنسيين، الامر الذي يستمد خصوبته من ايديولوجيا الكيان المصنوع تعريفاً لأقليةٍ دينية. وما بدا امتيازاً للكنيسة المارونية كان من الطبيعي تعميمه على الطوائف الاخرى، بحيث ان المفتي توفيق خالد ما لبث ان فكّر بتقليد الحاج امين الحسيني وبناء مركز سياسي - سلطوي حول دار الافتاء. ومن جهة أخرى، فإن ما مثّله المثقف الدستوري المسيحي ميشال شيحا صب في الوجهة اياها. ذاك أن الجمع بين حداثية اقتصادية، ليبرالية ومدينية قصوى، وبين تخلف سياسي ودستوري مهجوس بضبط التشريع، هو جمع متفجر لا يفضي الى وجهة، تماماً كما أن التقدم اللبناني والبيروتي ظل دائماً قابلاً للتعايش مع أكثر القيم والعلاقات تخلفاً ورجعية. وبكلمة، تعزز التناقض بين البرلمانية سياسةً وثقافةً وبين العلاقات التزلمية والزبونية، أتشكّلت الادارة بموجبها ام اتخذت شكل الرشوة الملازمة لكل حدث انتخابي. ولما كان معظم سياسيي المسيحيين ابان الانتداب زعامات سياسية وادارية استغلت مواقعها الجديدة، اكثر منهم ملاكي اراض، ولما استطاع هؤلاء الحاق عائلات ملاكي الاراضي المسلمين والدروز والطرفيين بهم، ثم استطاعوا ضمّ العائلات المدينية السنية بعد الاستقلال، أمكن توطيد اوليغارشيا حاكمة لم تتعرض للهزّات العسكرية التي تعرضت لها مثيلاتها في البلدان العربية المجاورة. وبتضافر تفاهة الساسة الموارنة، وسلوك الانتداب الفرنسي المتأرجح بين التخلي عن مسؤوليته وبين مراضاة العواطف المارونية الاكثر عامية، تمت الاساءة لا الى المؤسسات وحدها، بل ايضاً الى الدستور فكرةً وواقعاً. هكذا أمكن التلاعب الفرنسي به تماماً بقدر ما اضحت المطالبة "الدستورية" باستعادته تنتمي الى التكتيك السياسي في أرذل معانيه. واذا فسّرت الصغائر جزءاً كبيراً من سياسات بشارة الخوري، فان في وسعها هي نفسها ان تفسّر جزءاً كبيراً آخر من سياسات اميل اده الذي جمع بين مبدئية دستورية متطرفة واستعدادات لا تقل تطرفاً للتغاضي عن الدستور اذ غدا يرتبط باسم خصمه بشارة الخوري. وفي عالم كهذا استحال بناء سياسات جامعة وهموم جامعة على نطاق وطني. فالمعركة ضد احتكار التبغ في اواسط الثلاثينات، مثلاً، لم تكن، لدى تعريضها لتشريح دقيق، مبرأة من الصغائر. لكن هل جاء كتاب زامير عادلاً في توزيع المسؤوليات؟ لقد جاء نقده المساهمتين المارونية المسيحية والفرنسية في التأسيس لخراب لبنان شاملاً وبالغ الاصابة، الا أن الحؤول دون بناء الأمة - الدولة في لبنان مهمة تعدد صانعوها، فلم تقتصر على طرف أو طرفين، الشيء الذي لا يبدو واضحاً تماماً في تأريخ زامير. فحين يغلق القارىء دفتي الكتاب المهم هذا، يتساءل عما اذا كان شعورٌ اسرائيلي بالذنب حيال "العرب" وهم، هنا، سورية والمسلمون اللبنانيون قد خلّف آثاره على التأريخ قيد التناول. بيد أن خلاصة مئير زامير، ومفادها أن فكرة الكيان الملجأ لم تعد ممكنة، وان الشيء الوحيد الممكن دولة ديموقراطية وتعددية، هي ما لا يمكن الا الموافقة بالحذافير عليها. * كاتب ومعلّق لبناني.