من عقلية لا تعيش إلا في الماضي الى عقلية لا تتصور التقدم الا نقيضا لكل ما درج عليه ذاك الماضي سواء من القريب أو البعيد، عاشت بيئات واسعة من النخب العربية وشعوب الأمة ومنها لبنان الشعب والدولة تكاليف ازدواجية في الفكر والتصرف أقل ما يقال فيها إنّها مناقضة لفكرة الدولة العصرية ومفاهيم التطور والتجدد الذاتي والانفتاح التي بدونها لا تكون هناك امكانية عند أي دولة للتعامل مع وقائع عالم سيتغير باستمرار وبوتيرة متصاعدة وكأن أمس القريب أقرب الى الماضي السحيق مما هو المتبدل والمستقبل الهارب دائما الى أمام. ويكاد النمو السريع لمجتمعاتنا في عالمنا العربي بل التراكم المتصاعد دائما في زخمه يفرضان فرضا مواصفات المركبة السلطوية القادرة على الانتقال بشعوبنا من حال الى حال. من هنا حاجة مجتمعاتنا العربية الضاغطة الى قيادات فذة تقليدية وغير تقليدية عارفة معرفة جيدة بفن الامساك بالسلطة متجذرة في محيطها غيورة على موقع امتها بين الأمم واعية على وتيرة التقدم والتطور في الخارج والداخل مدركة لواقع التنافسية الصارمة والمتصاعدة باستمرار التي تفرض نفسها على العلاقات الدولية فتزداد بذلك أهمية الصفات والمزايا ورصيد التجارب المتراكم عند الحاكم في كل دولة، ولهذا نجد الآن الشكاوى عند الغربيين والشرقيين سواء في الدول المتقدمة أو النامية من أن صفات الحاكم الصالح والمناسب غير متوفرة في معظم الأقطار المتقدمة قبل غيرها، وانّك لتجد أحيانا أن حديث بعض الغربيين الايجابي عن صفات الحاكم الذي يحكمهم، كما في حالة الولاياتالمتحدة الاميركية بالحديث عن الرئيس باراك أوباما، شعورا ضاغطا بالعطش الى نوعية من الحكّام غير تلك التي عودتهم عليها في معظم الحالات نتائج الانتخابات. كثيرون من الكتّاب والمفكرين في كل بلدان العالم خاضوا هذا المضمار ومنهم في ماضي الزمان الفرس والعرب الذين كتبوا منذ زمن بعيد حول الموضوع، وهناك نصوص عربية قديمة وفارسية وتركية في صفات الحاكم القادر أدهشت بعمقها دوائر الاستشراق الغربية، الا أنها ليست موضوعة مع الأسف في أيدي الطلاب مع أنّها ضرورية. الرئاسة الموثوقة والمفوّضة أو الفوضى والضياع، حكمة نطق بها المتنبي امام سيف الدولة وكأنّه يدعو بها الى تقديس الرجل الأول حتى عندما يخطئ وذلك حين خاطبه قائلا: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم". طيلة أيام الرؤساء المتعاقبين على رئاسة الجمهورية في العهد الانتدابي الفرنسي على لبنان، من شارل دبّاس الى حبيب السعد الى اميل ادّه، ظهرت بتصاعد مستمر صعوبات التوفيق بين فعالية الرئاسة الأولى المسيحية للدولة والسلطة المعطاة بفعل صك الانتداب للمفوض السامي الفرنسي. وهكذا كان على صاحب المنصب اللبناني الأول في البلاد أي رئيس الجمهورية أن يكون منذ البدء عمليا ونظريا وبشكل حاسم رمز الوجود الوطني الحر للدولة اللبنانية فهو محصّل حقوقها لا من قوى الخارج فحسب، بل من قوى الداخل أيضا، في وجه كل متنطح لأخذ حقوق الدولة والوطن لحسابه الخاص لا لحساب الشعب اللبناني ككل. واليوم، أكثر من كل يوم مضى، تظل رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس العماد ميشال سليمان حصنا لاستقلال لبنان وحقوق شعبه وتآلف مكوناته ومحل فخرها جميعا بالانتساب الى جمهورية ذات فرادة ورسالة في محيطها العربي، هي رسالة الالتزام بالحقوق الفردية والجماعية في وجه كل طامح باحتكارها سواء أكان شخصا أم حزبا أم طائفة. فلبنان يكون للجميع بروحية رئيسه وشعبه أو ينزلق متهورا كما انزلق مرات ليكون في غربة عن ذاته وروح دستوره وطن المحاصصات الجشعة والأطماع الشخصية ليس الا على حساب دور لبنان الوطني الديموقراطي والحقوق الفردية والجماعية والرسالة التقدمية المنفتحة في أرض العرب. هكذا ولد لبنان عام 1943 وهكذا يجب أن يستمر. أول ما أحبّه كرام اللبنانيين بل سوادهم على الاطلاق في شخص رئيسهم العماد سليمان هو تجذّره في التراث اللبناني الاستقلالي العربي وكأن هذا التراث هو أولا وآخرا بوصلة الوحدة اللبنانية في الداخل ومعنى وجوده التاريخي والطليعي في أرض العرب، فلبنان يظل منهم حتى حين لا يرى في الأمور رأيهم، فكما أن النقد الذاتي هو شرط التقدّم بل الدليل عليه في كثير من الأحيان كذلك الحوار الأخوي الحر الصريح داخل لبنان ومع اشقائه، هو دعامة الاستقلالية وغذاؤها ومعطي العروبة حلاوتها في العقول والنفوس وفاعليتها في وجه أعدائها ولا سيما اسرائيل التي جلبت ولا تزال تجلب الى لبنان أضرارا لم تجلبها الى أي بلد عربي آخر. توفر في شخص الرئيس سليمان من الرمزية الوطنية والانسانية ما أعطى معظم اللبنانيين المناعة ضد كل ما عرفوه في تاريخهم من افراط وتفريط في الحس الاستقلالي الذي كثيرا ما كان يحوّل الاستقلالية بسبب سوء الممارسة الى مشكلة مع الآخر داخل لبنان وخارجه مع العالم العربي أيضا. وهكذا جاءت استقلالية الرئيس العماد جامعة في الداخل وغير مسيئة للعلاقات في الخارج كما جاءت معطّرة بذلك التميّز اللبناني الأخوي داخل العروبة. المعروف عن البيئة العمشيتية التي لم تجد نفسها بالكامل في السياسة اللبنانية الا مع وصول الرئيس اللبناني الحالي الى رأس السلطة وقد كان الأديب والمحامي العمشيتي الكبير عبدالله لحود يقول:"إن روح عمشيت هي اسم لدواء يحتاجه اللبنانيون بدءا بمسيحييهم أصحاب المصلحة الأساسية بوجود لبنان". ان الإحباط الذي عاناه اللبنانيون ويعانونه منذ فترة غير قصيرة هو نتيجة أزمة حكم مصدرها، والله أعلم، نزعة التعطيل عند الأقلية وقلة الحيلة عند الأكثرية، وكأن الأمرين جاءا ليخدم كل منهما الآخر. ولكي لا نظلم أحدا نقول إن تأخر تأليف حكومة في لبنان رغم الإجماع على تكليف سعد الحريري عكس ضعفا بنيويا مخيفا في الكيان السياسي اللبناني، بل تسبب بأصرح الأشكال بوجود أزمة حكم عميقة في لبنان كادت تعيدنا الى تذكّر تلك الأيام المحبطة التي وصف فيها الشاعر اللبناني الكبير عمر زعني الحال اللبنانية بقصيدة شعبية قال فيها:"كيكي كيكي ما بيفهم فيكي لا خير بلجيكي ولا طبيب مكسيكي"، وقد كان الحكم في لبنان والشعب راهنا معا على كبيرين معروفين في ذلك الزمان بقدرتهما الاستثنائية على الوصفات الانقاذية لدول محبطة لم تعرف كيف تداوي نفسها من مشكلاتها الا باللجوء لذينك اللذين نجح طبهما السياسي الانقاذي في كل مكان ولكنّه لم ينفع لا كثيرا ولا قليلا في لبنان. ترى هل نحن الآن أمام ذلك الدواء الذي طالما وصفه الأقدمون القائل بأن مفتاح كل شيء آخر في الأزمات اللبنانية القديمة والجديدة هو توسيع صلاحيات الرئيس اللبناني، لا سيما بعد زمن الانقلابات العسكرية في البلدان العربية التي أقنعت البعيد والقريب بأن الحاكم العربي إن لم يكن ملكا وارثا للسلطة من أبيه وأجداده فلا مفر من أن يكون حاكما متمتعا بصلاحيات دستورية واسعة تعطيه القدرة على مواجهة الأزمات وحلّها على غير طريقة الدعسات الناقصة التي أوصلت بلادا شرقية الى اعتماد الدكتاتورية بديلا وحيدا عن الأزمات الدستورية المفتوحة والدائمة. ان لبنان الديموقراطي الفخور والمتمسك بديموقراطيته يزداد أكثر فأكثر مع الأيام اقتناعا بأن وجود صلاحيات دستورية واسعة في يد رئيس الجمهورية كان ولا يزال ضرورة ماسة للحفاظ على الديموقراطية اللبنانية والا ظل لبنان دائما رهين الأزمات وظلّت أزماته الدستورية ممسكة بعنق دولته وشعبه وحائلة دون تمكينه من إنجاح الدولة والديموقراطية معا وليس الواحدة دون الأخرى. ان الخوف من الديموقراطية اللبنانية يجب أن يتوقف ليحلّ محلّه الخوف عليها ومن اجلها، خصوصا وأن الديموقراطية اللبنانية كانت ولا تزال مفيدة لا للبنانيين وحدهم بل لكل العرب في وجه ادّعاءات اسرائيل المشوّهة لسمعة لبنان والمنطقة؛ فالديموقراطية في لبنان منارة اشعاع داخلي وخارجي بل حصن حضاري عربي في وجه الأعداء ولا بد لمصلحة لبنان والمنطقة العربية وأنظمتها وشعوبها من أن تتمتع الرئاسة اللبنانية في هذا العهد الواعد بالذات عهد العماد ميشال سليمان، بصلاحيات تزوّد المقام اللبناني الأول اليوم قبل الغد وعلى المدى الطويل بكل السلطات المطلوبة لوقف تفاعلات المصالح والتيارات القائمة المسيئة للاشعاع اللبناني الحميد في دنيا العرب اساءتها للشعب اللبناني ونظامه الديموقراطي. ان الديموقراطية اللبنانية ما تزال بحاجة لتزويد مقام الرئاسة بكل مقومات النجاح في مواجهة الازمات دفاعا عن الديموقراطية وسمعتها ودورها في المحيط العربي والدولي. هنا لا بد من القول إن رئاسة الجمهورية في لبنان لمارونيتها بالذات كانت ضرورية لأخذ الاستقلال عن فرنسا التي حاولت أن تناور بالقول إن الحماسة للاستقلال تجيء من المسلمين وزعمائهم لا من المسيحيين لتجعل من هذه الأكذوبة ذريعة لاستمرار الحكم الفرنسي ولكسب الوقت وتأجيل خروجها ومعها امتيازاتها من الوطن اللبناني، ولكن هذا ارتدّ عليها دائما بالضرر ليحجب عنها التأييد المزعوم بل مجرد المهادنة من الأكثرية المسيحية الساحقة والمارونية بالذات، وقد كانت الاضرابات الطلابية الأشد تأثيرا ضد السلطة الانتدابية تخرج من المعاهد الوطنية المسيحية مسبغة على النضال الاستقلالي أبهى الحلل وأوضحها دلالة. وقد تساءل الصحافي جورج نقّاش صاحب "الأوريان" الصادرة بالفرنسية والمنحاز بنزق ضد الاستقلال والاستقلاليين "أين الحكمة في مدرسة الحكمة ولماذا يثور فيها الطلاب على اعتقال بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما؟؟"