(إلى فؤاد بطرس وغسان تويني) يروي نقولا بسترس، وهو الاجتماعي المتمرّس بين باريس نهاية «الحِقبة الجميلة» وبيروت الانتداب، والمشارك، على طريقته، في تعرّجات السياسة اللبنانية من أوائل الانتداب إلى نهاية عهد كميل شمعون، يروي في كتابه بالفرنسية «أتذكّر» كيف أن خلال مأدبة عشاء أقامها في منزله بحي السراسقة على شرف المفوض السامي، هنري ده جوفنيل، في أيار (مايو) 1926 غداة صدور الدستور اللبناني، كيف أن الأخير التفت نحوه سائلاً على مسمع الجميع، «هل تعرف يا نيقولا أن رئيس الجمهورية اللبنانية العتيد موجود هذا المساء بين ضيوفك؟» فما لبث كلام الكونت ده جوفنيل أن شغل اهتمام الحضور بهوية الرئيس اهتماماً بالغاً، على حساب عشاء فاخر ذهب سُدى. أهو يا تُرى إميل اده، أم هو شارل دباس، أم حبيب باشا السعد، أم نخلة التويني؟ وما لبث أن أتى الجواب في الصباح التالي بشخص شارل دباس، الأرثوذكسي والإداري الرزين في وزارة العدل، كأول رئيس للجمهورية الفتية. إذاً، أتى تعيين الرئيس دبّاس وإبرام الدستور تجسيداً لقيام الجمهورية، بعد ست سنوات من مخاض عسير على إعلان الجنرال غورو، في الأول من أيلول (سبتمبر) 1920، «دولة لبنان الكبير» بحدودها القائمة. وقد نتج هذا الإعلان من تضافر حركتين تاريخيتين، كانت إحداهما صراعاً على سوريا ما فتئ يحتدم بين بريطانياوفرنسا مع انهيار الدولة العثمانية غداة الحرب الكونية. إنّما الأمور تسارعت بإعلان الأمير فيصل ابن الشريف حسين من دمشق، خلافاً لاتفاقه وكليمنصو قبل أشهر، استقلال سوريا التي اشتملت أيضاً على لبنانوفلسطين، وتتويجه ملكاً عليها، مما دفع برئيس وزراء فرنسا، ميلران، إلى موقف حازم وإطلاق يد غورو في سورية ولبنان. وأما الحركة التاريخية الأخرى، وكانت طويلة في الزمن، هي نشاط الكنيسة المارونية المتواصل بدءاً بالبطريرك بولس مسعد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم البطريرك الياس الحويك من بعده، بعيد الحرب العالمية الأولى، من أجل ترسيخ استقلال جبل لبنان تحت حكم ذاتي وتوسيع حدوده. كما لعب لبنانيو المهجر، في موازاة نشاط الكنيسة، دوراً أساسياً في بلورة فكرة الكيان اللبناني. فلا مجال هنا لتفصيل هذه الحركة المتشعبة، إنما نكتفي بذكر بولس نجيم الذي أسس في كتابه «القضية اللبنانية» (La Question du Liban عام 1908، تحت اسم M. Jouplain)، لمفهوم «الوطن» اللبناني الذي ما لبث أن تطور إلى طموح من أجل كيان مستقل على أن تضمنه القوى العظمى، عملاً بمبدأ ويلسون في «تقرير المصير»، وذلك في «حدوده الطبيعية والتاريخية»، بحسب أوغست أديب باشا في كتابه بالفرنسية «لبنان بعد الحرب» (1919)، أي بحدود يُفترض أنها امتداد تاريخي لحدود الإمارتين المعنية والشهابية التي «سلخها» عن لبنان نظام المتصرفية، وهو البروتوكول الخاص بجبل لبنان الذي أُبرم بين «الباب العالي» و»القوى العظمى» عام 1861 (ثم عُدّل في 1864) عقب فتنة 1860 الطائفية. وعلى رغم امتعاض البطريرك مسعد من نظام المتصرفية لتحجيمه لبنان إلى مساحة محدودة الموارد وتحت حاكم مسيحي إنما غير لبناني، إلا أن البروتوكول هذا سمح لجبل لبنان باستقلال ذاتي، تحت إشراف دولي، ومهّد لكيان أوسع، كما أمّن للبنان، بوصف أنغن أكرلي، «سلماً طويلاً» استمرّ حتى قيام الانتداب الفرنسي. في طموحهم إلى لبنان مستقل عن الداخل السوري، لجأ ناشطو المهجر اللبناني، ومعهم الكنيسة المارونية، إلى حجج نمت من معاناة مباشرة، فيما تبلورت عقيدتهم الوطنية من خلال سجالاتهم في المهجر مع دعات «قومية سورية» تحددت معالمها هي أيضاً في موازاة الهوية اللبنانية، كما تصفها كارول حكيم في بحثها في أصول الهوية اللبنانية، وذلك على خطين. الأول هو من أجل «سوريا كبرى» تشتمل على لبنانوفلسطين بإدارة فرنسية، وأمّا الثاني فمن أجل «سوريا كبرى» إنما عربية وفيصلية، أي تحت رعاية بريطانية. وما كان إعلان فيصل «مملكته الحجازية» من دمشق، إلاّ ليزيد من ريبة المسيحيين اللبنانيين، فبعد ما عانوا ما عانوه من طغيان عثماني إبّان الحرب ومجاعة أودت بثلث عددهم، أي بمئتي ألف لبناني أكثرهم من المسيحيين، ما كانوا في وارد التخلي عن طموحهم الاستقلالي، مبررين إياه في التاريخ، وفي إدارة جبل لبنان المستقلة، كما في مبادئ حقوقية، فضلاً عن تربية و»ثقافة أوروبية» تميّزان لبنان عن الداخل السوري، على ما ورد في مذكّرة البطريرك الحويك إلى «مؤتمر باريس للسلام» في تشرين الأول (أكتوبر) 1919. غير أن ما لم يذكره البطريرك، ولا غيره من المدافعين عن الهوية اللبنانية، في التمايز بين لبنان وسورية هو أن لبنان، أي الجبل، كان بأغلبيته مسيحياً، فيما سورية فهي في أكثريتها مسلمة. يرسم البطريرك الحويك، إذاً، في مذكّرته إلى «مؤتمر باريس» حدود لبنان كما حددتها خريطة رئاسة الأركان الفرنسية التي وُضعت إبّان حملتها في لبنان بين العامين 1860 و1861. فإلى جبل لبنان، اعتبرت الكنيسة المارونية طرابلس وأقضية عكار والبقاع وحاصبيا وراشيا وجبل عامل جزءاً لا يتجزأ من لبنان، فضلاً عن مدن الساحل، صور وصيدا وطرابلس، وخصوصاً بيروت. فليس من غريب الأمر، بعد تجربة الحرب وحظرٍ اقتصادي ومجاعة فتّاكة، في أن يصرّ البطريرك على ضم أراضي البقاع الزراعية وسكانها المسيحيين إلى لبنان، وكذلك منافذ بحرية على الساحل. إنما اللافت هو رفضه القاطع، بعد إعلان حدود «لبنان الكبير»، التخلي عن مناطق ذات غالبية مسلمة، إمّا رفضت الانضمام الى لبنان، مثل طرابلس وبعلبك، أو انضمت على مضض أو «قلق» (التعبير لوضاح شرارة)، مثل جبل عامل جنوباً. وقد حاول إداريون فرنسيون على فترات، من بينهم جوفنيل وخصوصاً روبير ده كيه، ثني الموارنة عن الإبقاء على مناطق لربما وضعت غلبتها الرافضة تماسك الكيان اللبناني على المحك. إذ أن الإحصاءات لسكان لبنان في 1921 و1932 مقارنة بإحصاءات السنجق المستقل في 1911 لم تنحُ لمصلحة «الكيان المسيحي». ففي 1911 شكّل المسيحيون، بغالبية مارونية، 80 في المئة من عدد السكان. وفي 1921 كانوا، بعد ضم الأقضية إليه، 55 في المئة، ومن ضمنهم اللاجئون الأرمن ومغتربون سُجّلوا كمقيمين. أما في 1932، فلم يتجاوز عددهم 51 في المئة. وتقدّم ده كيه باقتراحات عدة، أحدها إقامة وضع إداري خاص بطرابلسوبيروت، إنما محاولاته لم تفلح. نحو لبنان لبناني لا شك في أن الجغرافيا الأوسع التي أرادها الموارنة للبنان كانت ببنائها دقيقة إن لم نقل هشّة. فعلى حد وصف جورج سمنة لها في «المراسلات المشرقية» (Correspondance d'Orient) من باريس في أوائل العشرينات، فإن الطموح المسيحي في كيان مستقل ذي أكثرية غير مسيحية هو أشبه ب «تربيع الدائرة». إلاّ أن الدائرة، مع الوقت، بدأت تدور، وتدور في منحى غير متوقع عندما وجد المتحفظون عن الكيان من زعاماته السياسية الإسلامية مصلحة لهم فيه. والفضل في هذا التحول إنما يعود في جزئه الأكبر إلى الإدارة الفرنسية من خلال ما بنته من مؤسسات سياسية وإدارية استوعبت هذه الزعامات بدرجات متفاوتة، فضلاً عن دستور، وقوانين مدنية جامعة، ومساواة أمام القانون، واعتراف بالطوائف وحقوقها. إلاّ أن الخلل في طموحات الجماعات اللبنانية في تعددها وتفاوت قدراتها التمثيلية لم يتبدد، بل تعيّنت إدارته بحكمة. وما انتقال سياسي مثل رياض الصلح، بنى رصيده على قومية سورية واسعة (وعروبية)، ما انتقاله من الوحدة السورية إلى الكيان اللبناني بعد عقدين على إعلان غورو الدولة، إلاّ دليل على واقعية مستحدثة وجدت نفعاً أكبر في سلطة لبنانية في متناول اليد بدلاً من طموح سوري لا بدّ فيه من هيمنة الداخل بمدنه الكبرى مثل دمشق وحلب. إذ لدينا من «براغماتية» الصلح نموذج في تحفظه عن انعقاد «مؤتمر الساحل» في آذار (مارس) 1936 وما أفضى إليه من مطالبة بضم أراضٍ إلى سورية، ومراعاته البطريرك عريضة في بكركي. إلاّ أن عملية الانخراط في حراك السياسة اللبنانية وما نتج منها من مسؤوليات وتمسك بالكيان لم يكن محصوراً برياض الصلح بين السنّة. إنّما بروزه هو في صدارة الحركة الانتقالية من الانتداب الفرنسي إلى الجمهورية اللبنانية المستقلة، وتحديداً تعيينه رئيساً للوزراء من قبل بشارة الخوري بعد انتخابه في أيلول 1943، الأمر الذي لم تستسِغه العائلات السنيّة البارزة في بيروتوطرابلس، يستحق التوقف عنده، من أجل إضاءة دور الجنرال سبيرز في استقلال لبنان وسورية، وما تبعه من صراع على سورية جراء سياسة الضباط الإنكليز. الصراع على سورية الأرشيف الفرنسي الذي يكشف للباحث مشهداً لافتاً عن نشاط الضباط البريطانيين وأجهزة استخباراتهم في لبنان وسورية بداية الأربعينات وما تبعها، وهو نشاط يسمّيه مائير زامير «القطبة الخفيّة» (The Missing Dimension)، يضفي ضوءاً جديداً على آلية انتقال السلطة في لبنان وسورية وخروج الفرنسيين من المنطقة. سبيرز في لبنان وسورية، كورنوالس في العراق، غلاب (غلوب باشا) في الأردن، وكلايتن في مصر، هم من الذين لعبوا دوراً محورياً في رسم سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية، وهي سياسة لم تعكس بالضرورة وجهة نظر «وايتهول»، أي سياسة الحكومة البريطانية الرسمية، وخصوصاً بالنسبة إلى العلاقة مع «فرنسا الحرة» والجنرال ديغول. فقد انطلق «مفوّضو» بريطانيا في المنطقة من خطأين تاريخيين، في نظرهم، لا بد من تصحيحهما. الأول هو «معاهدة سايكس - بيكو» في 1916 التي سمحت للفرنسيين بالدخول إلى دول المشرق. والثاني هو «إعلان بالفُور» في 1917 الذي وعد بوطن قومي لليهود في فلسطين. وفيما ازداد الوضع تفاقماً في فلسطين في الثلاثينات، ارتأى ضباط بريطانيا في الشرق الأوسط إصابة عصفورين بحجر واحد من خلال إقامة «سورية كبرى» تشتمل على سورية والعراقوالأردنوفلسطين، تحت حكم هاشمي، تحل مشكلة اليهود، من وجه، باستيعابهم ضمن «اتحاد سوري» واسع يتمتعون فيه باستقلال ذاتي، كما تضمن، من وجه آخر، مصالح بريطانيا العظمى. فلا مكان للفرنسيين في صيغة كهذه، ولا بدّ من طردهم إذاً من لبنان وسورية بأي ثمن. هذا في حين كان وزير الخارجية في لندن، أنطوني إيدن، يعتبر التحالف مع ديغول في أساس الاستراتيجية البريطانية، وكان تشرتشل قد سلّم بأولوية لفرنسا في سورية ولبنان، ولو أراد هو ضبط ديغول ما أمكن. يتعيّن النظر، إذاً، إلى وصول رياض الصلح إلى الحكم في هذا السياق، شأن وصول شكري القوتلي إلى الرئاسة السورية في دمشق وتعيين جميل مردم بك وزيراً للخارجية. فعلاقة الصلح بسبيرز ونائبه في لبنان، الكولونيل فرلونغ، أعطت ثمارها عندما قطع سبيرز الطريق على إميل إده في أيلول 1943 مهدداً ب «كسر الانتخابات» إن لم ينسحب، كما اشترط على بشارة الخوري، للحصول على تأييده، تعيين الصلح رئيساً للوزارة. فدعم سبيرز لرياض الصلح سياسياً (ومالياً عبر خدمات «بنك فرعون وشيحا») وإيصاله شكري القوتلي إلى الرئاسة، كانا جزءاً من منظومة وضعها الضباط الإنكليز لدعم أخصام فرنسا وإجبارها على تنفيذ الوعد الذي قطعه الجنرال كاترو، عندما دخلت قواته إلى المشرق عام 1941، بإجراء انتخابات ومنح البلدين استقلالهما. إلاّ أن ضبط إيقاع أصدقاء بريطانيا السياسي، سواء في لبنان أو في سورية، بعد وصولهم إلى الحكم ما كان كما قبل الحكم. فرياض الصلح، على رغم طموحاته «السورية»، تعيّن عليه أن يأخذ في الحسبان حساسيات المسيحيين لضمان استقلال لبنان وسيادته، الأمر الذي كلّفه كلاماً حاداً من جانب نوري السعيد، رئيس وزراء العراق النافذ في الحقبة الهاشمية، الذي رفض الاعتراف بالسيادة اللبنانية. فلبنان برأيه كان «شوكة في خاصرة العرب» لرفضه الاندماج في اتحاد سوري تحت حكم عراقي. وكان الصراع في سورية وعليها في أوجه. فالرئيس القوتلي يقاوم الضغط العراقي بتحالفه مع الملك السعودي عبدالعزيز والملك فاروق في مصر، بينما جميل مردم، منافسه في السلطة، يلين في اتجاه العراق والسياسة البريطانية. أمّا في الطرف اللبناني، فعلى خطى سبيرز وزملائه نحو «سورية كبرى» وهاشمية، كان كميل شمعون، وزير لبنان المفوض في لندن ووزير داخليته الأسبق ذو العلاقات الوطيدة بالأجهزة البريطانية، كان يوجّه من بغداد رسالة سريّة إلى جميل مردم في أيار (مايو) 1945، قبل أن تقصف القوات الفرنسية دمشق بأيام، يعلمه فيها بأن العراقيين على أُهبة الاستعداد للدخول إلى دمشق، إنما إذا دخلوا فسيبقون، ليستخلص قائلاً: «في كل حال، أفضل لنا أن يحكمنا العراقيون من أن نعيش مجدداً تحت النير الفرنسي». هذا كلام لكميل شمعون حينما كان لم يمضِ بعد عامان على استقلال لبنان الناجز. إلاّ أن اصطفاف شمعون لم ينتهِ عند هذا الحد بل أخذ منحى في عهده الرئاسي أكثر «جسارة»، بما أن كل اصطفاف في السياسة الخارجية تترتب عليه نتائج في الداخل اللبناني لدقة توازناته. فما تطور سياسة شمعون من حلف مع الهاشميين بالعراقوالأردن في صراعهم على سورية في الأربعينات إلى «حلف بغداد» في الخمسينات في وجه مصر الناصرية، ما هو إلاّ عود على بدء في الاصطفاف، كان بمثابة الشرارة التي أشعلت فتنة 1958. * مدير «دار النهار للنشر» سابقاً * غداً حلقة ثانية أخيرة