كتاب باتريك سيل الجديد «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» يتخذ من أحد أبرز زعماء الاستقلال وواضعي الميثاق الوطني عام 1943، نموذجاً للاستقلاليين العرب الذين عاشوا مراحل الانتقال الصعبة من العهد العثماني الى عهود الانتداب والاستعمار، وصولاً الى المشكلات التكوينية للدول العربية الحديثة المترافقة مع مأساة فلسطين والصراع العربي - الاسرائيلي المديد. زعيم عروبي ثم لبناني - سوري ثم لبناني، لكن حياته التي انتهت بالاغتيال جسدت حجم المشكلات التي اهتم بها ولم تقعده، مشكلات محلية جداً، كأن يصالح عائلات وزعامات في منطقة محدودة من لبنان، لكنها تتسع الى الاقليم كله اهتماماً بمشكلة فلسطين منذ نذرها الأولى وبالصراع الدولي على المنطقة الذي بدأ مع ضعف السلطنة العثمانية وعنف مع انهيار السلطنة والسيطرة البريطانية - الفرنسية، والى حدّ ما الايطالية والاسبانية، على العالم العربي. يصدر الكتاب بعد أيام في ترجمة عربية أنجزها عمر سعيد الأيوبي، وتنشره الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت، التي سمحت ل «الحياة» بنشر مقاطع منه قبل اطلاقه. في ما يلي حلقة ثانية: في أواسط ثلاثينات القرن الماضي، برز رياض الصلح قائداً فعلياً للطائفة السنية في لبنان دون منازع. ولم يكن من السهل البتة تبوّؤ مثل تلك المكانة. فأن تكون قومياً عربياً في لبنان الكبير في فترة ما بين الحربين يعني الشعور بالغربة في بلد يجد المرء صعوبة كبيرة في الاعتراف بحدوده، ولا يسعه سوى النفور من إيديولوجية دولته، وتعمُّد استبعاده من حياتها السياسية. كانت الدولة تهدّد هوية المرء بأكملها. لم يكن المسلمون السنّة يستسيغون اعتبار أنفسهم «لبنانيين»، لأن وطنهم الحقيقي هو العالم العربي الكبير. ولم يرتضوا أن يجدوا أنفسهم مواطنين - بل مواطنين من الدرجة الثانية - في دولة مسيحية تحت جناح فرنسا، اقتطعها الجنرال غورو في 31 آب (أغسطس) 1920 من قلب سورية «الجغرافية»، وأعلنها على الملأ حقيقة واقعة في اليوم التالي. كان رياض ينتمي إلى عائلة من الوجهاء المالكين للأراضي، الذين عملوا أجيالاً عدة في خدمة الحكم العثماني. وعلى رغم ن أن جذور العائلة تعود إلى صيدا، فإنهم كانوا يشعرون بالارتياح في المناطق السورية الداخلية، كما في الساحل. والواقع أن المسلمين السنّة في صيدا، على غرار أقرانهم في بيروتوطرابلس، اعتبروا أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الغالبية السنية في سورية التي تربطهم بها علاقات عائلية وتجارية وسياسية وثيقة. على سبيل المثال، تزوج جدّ رياض، أحمد باشا، من ابنة مفتي دمشق، وخدم والده الإمبراطورية متصرّفاً، وعضواً في مجلس «المبعوثان» أو البرلمان العثماني، وعندما انهارت الإمبراطورية عيّن وزيراً للداخلية في حكومة الأمير فيصل في دمشق. بل إن رياض نفسه تزوّج من عائلة الجابري الحلبية البارزة. وكان في مشاعره ورؤيته وإحساسه الوطني، عربياً بقدر ما هو «لبناني»، بل ربما أكثر بكثير (...). وحين رسم غورو الحدود الموسّعة للبنان الكبير، رأى من المناسب أن يضمّ إلى جبل لبنان أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، بما فيها قسم كبير من ساحل البحر المتوسّط. وقد أدخل هذا الإجراء الأحادي تحوّلاً جذرياً على متصرفية جبل لبنان العثمانية في القرن التاسع عشر إلى لبنان الكبير. ففي تموز (يوليو) 1920، لم تكن مساحة جبل لبنان تزيد على 4500 كلم مربع؛ وبعد شهر واحد فقط، أصبحت مساحة لبنان الكبير ضعف ذلك، أي 10452 كلم مربعاً. شملت الأراضي التي ضمّت سنجق بيروت في الوسط، وسنجق صيدا في الجنوب (فُصل عن منطقته الجنوبية التي ضُمت إلى فلسطين)، وسنجق طرابلس ومناطقه الداخلية في الشمال. كما فُصلت أقضية البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا في شرق وجنوب شرق جبل لبنان عن ولاية دمشق وأُلحقت بالدولة الجديدة. قبل الحرب العالمية الأولى، كان موارنة جبل لبنان أكثرية واضحة، يشكّلون 58 في المئة من مجموع السكان، مقارنةً بنحو 12 في المئة للأرثوذكس، و11 في المئة للدروز، و8 في المئة فقط للسنة والشيعة معاً. لكن طرأ على التركيبة الطائفية تغيّر كبير في سنة 1921. فبإضافة الأراضي الجديدة، أصبح الموارنة الذين يعدّون 176,000 نسمة يشكّلون 31.3 في المئة من إجمالي السكان. وشكّلت الطوائف المسيحية مجتمعةً، التي بلغ عددها 300,000 نسمة، 53.4 في المئة من إجمالي السكان، أي بزيادة قليلة على المسلمين (السنّة والشيعة والدروز) الذين بلغ عددهم 262,000 نسمة، ونسبتهم 46.6 في المئة. رفض غالبية المسلمين السنة والشيعة المقيمون في المدن الساحلية، والأقضية الأربعة الداخلية الانتداب الفرنسي، وتمرّدوا الى دمجهم قسراً في لبنان الكبير، مطالبين بإعادة توحيدهم مع الوطن السوري. ومما يشير على موقفهم العدائي أنهم قاطعوا إلى حدٍّ كبير المشاورات التي أدت إلى وضع مسوّدة الدستور اللبناني في سنة 1926، واعتبروا أنه يقنِّن انفصالهم عن سوريا. وفي 9 كانون الثاني (يناير) 1926، أرسل مفتي بيروت السني، الشيخ مصطفى نجا، رسالة إلى موسى نمّور، رئيس اللجنة الدستورية، يبلغه فيها رسمياً أن المسلمين يرفضون أي صلة بالترتيبات المؤسساتية الجديدة. سيطرت قضية «الأراضي المتنازع عليها» التي أُلحقت بجبل لبنان سنوات عدة على النقاش السياسي في المشرق. فهل ستُعاد إلى سورية، كما طالب القوميون العرب، أم إنها أصبحت جزءاً غير قابل للتصرّف من الدولة الجديدة، كما أصرّ الموارنة، وأكّدت المادة الثانية من دستور 1926 التي تنصّ على أنه «لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه»؟ كانت معضلة رياض الصلح، بصفته زعيم الطائفة السنّية في لبنان في ثلاثينات القرن العشرين، كيف يوفّق بين قوميته العربية - وهي أساس وجوده منذ سنواته الأولى - والشعور الجديد بالوطنية اللبنانية الذي نما بصورة حتمية وتجذّر داخل الحدود الجديدة. فانصبّت جهوده في العقد التالي على استقطاب التأييد لاقتراح عدم وجود تنافر أو تناقض بين الوطنية اللبنانية والقومية العربية؛ وأن الوفاء لدولة لبنان الكبير الجديدة يمكن أن يتوافق مع الإيمان باستقلال العرب ووحدتهم؛ وأن الاستقلال اللبناني خطوة ضرورية نحو الغاية العربية الكبرى. غير أن أقل ما يقال إن هذه الفكرة لم تلقَ قبولاً لدى المتشددين في الجانبين (...). في 20 كانون الثاني (يناير) 1936، (...) انتُخب المحامي اللبناني البارز إميل إده رئيساً للبنان، متغلباً على منافسه الماروني بشارة الخوري. كان إميل إده على علاقة ودية برياض الصلح وغيره من الشخصيات البارزة في المعسكر المسلم والقومي العربي، لكنه يمثّل كل ما يكرهونه في السياسة. فقد كان من المناصرين المخلصين للبنان كدولة مسيحية تحت حماية فرنسا؛ ومعارضاً شديداً للوحدة السورية والعربية (...). كان المجتمع اللبناني في الثلاثينات، ولا يزال حتى اليوم، يدور حول عشرين عائلة تقريباً، تقوم مكانة كل منها على شهرتها في طائفتها؛ أو ثروتها أو ملكية الأراضي؛ أو وظائفها الدينية الموروثة؛ أو نشاطاتها في مجال الأعمال والتجارة والصيرفة والوساطة بين المورّدين الغربيين والأسواق العربية، كما هو حال النخب البرجوازية في الساحل اللبناني. وكانت أسماؤهم في تلك الفترة، كما اليوم، معروفة لدى الجميع (...). ومن المعروف أن آل الصلح من مالكي الأراضي في جنوب لبنان، انتقلوا إلى بيروت في أواخر القرن التاسع عشر، واكتسبوا الاحترام في خدمة الإمبراطورية العثمانية. واكتسب رياض الصلح شهرة كبيرة من خلال السمعة العالمية التي حقّقها في النضال لمصلحة القضية العربية في جنيف وباريس؛ ومناصرته الطبقة العاملة والحركة النقابية الناشئة في لبنان؛ ونشاطاته القومية العربية في سورية وفلسطين، بل في شمال أفريقيا (...). غير أن إنجازات رياض العالمية الكبيرة لم تكن كافية لخرق حصن التفوّق الماروني في بلده. ففي لبنان، صاغ دستور 1926، الذي أوحى به الفرنسيون، الإطارَ المؤسسي للحياة السياسية؛ ووضع رئيس الجمهورية الذي مُنح سلطات تنفيذية كاملة، في قلب النظام. وكان هذا الرئيس مارونياً دائماً، باستثناء أول شاغل للمنصب، شارل دباس (1926 - 1932)، الذي كان ينتمي إلى طائفة الروم الأرثوذكس. فباستطاعة الرئيس أن يسمّي الوزراء ويقيلهم، وأن يحلّ البرلمان، وأن يحكم عن طريق المراسيم إذا شاء. كانت سلطته مطلقة على الورق، لكنّه يخضع لإرادة المفوّض السامي الفرنسي من الناحية العملية. أعلن دستور 1926، الذي صيغ على نسق دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا لسنة 1875، لبنان الكبير جمهورية مستقلة عاصمتها بيروت. وفي اعتراف بالطوائف والمجموعات المتنوعة في البلاد، أقرّت المادة 95 أنه «بصورة موقتة... تُمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وفي تشكيل الحكومة». وقد أبقت هذه المادة على النظام الطائفي الموروث من المتصرفية العثمانية، لكنها لم تفعل الكثير للحدّ من الهيمنة المارونية التي تدعمها فرنسا. ولم يبدأ المسلمون بانتزاع قدر من السلطة التنفيذية من الموارنة إلا عندما عُيّن رئيس وزراء سني في 1937، على الرغم من أن رئيس الوزراء، على غرار جميع الوزراء الآخرين، معرّض دائماً لخطر الإقالة الاعتباطية من قبل رئيس الجمهورية. نتيجة لهذه المعطيات، كانت السياسة اللبنانية تقوم على الصراع بين القادة الموارنة المتنافسين ومناصري كل منهم، وهي منافسة استبعدت الطوائف الأخرى إلى حدٍّ كبير. لم يكن هناك صراع أشدّ من ذلك الذي دار بين إميل إده وبشارة الخوري (...). في صباح 20 كانون الثاني (يناير) 1936، في جلسة استثنائية للبرلمان اللبناني، هزم إميل إده بشارة الخوري في السباق على رئاسة الجمهورية، على رغم الحملة الانتخابية القويّة التي أدارها الأخير وموّلها إلى حدٍّ كبير ابن عمة زوجته، هنري فرعون. منح الاقتراع الأول 14 صوتاً لإده و11 صوتاً لبشارة الخوري، ولكن بما أن إده لم يحصل على أكثرية الثلثين، أُجري اقتراع ثانٍ نال فيه إده الأكثرية المطلقة بحصوله على 15 صوتاً مقابل 10 لخوري. في هذه المنافسات، يستطيع كل زعيم الاتكال على مجموعة حرة من المؤيّدين البرلمانيين. عُرف أصدقاء إده باسم الكتلة الاتحادية أو كتلة إدّه، بينما شكّل أصدقاء خوري مجموعة باسم الكتلة الدستورية. وكان أعضاء المجموعتين من الموارنة إلى حدٍّ كبير ويتبعون النهج الكياني، أي أنهم كانوا ملتزمين بالكيان الجغرافي والسياسي للبنان الكبير (...). مؤتمر الساحل وفي 10 آذار (مارس) 1936، عقد مسلمون بارزون، من المدن الساحلية في لبنان، مؤتمراً في بيروت، باسم «مؤتمر الساحل»، للمطالبة بإعادة بيروتوطرابلس وصيدا، والأقضية الأربعة التي أُلحقت بلبنان في سنة 1920 إلى سورية - أي ما يسمى «بالأراضي المتنازع عليها». باختصار، دعا المؤتمر إلى تفكيك لبنان الكبير الذي أنشأته فرنسا. وكان ذلك تكراراً لمؤتمرين سابقين عقدهما قادة الساحل في سنتي 1928 و1933، مع الأهداف الاتحادية نفسها تقريباً. لم يحضر رياض الصلح اجتماع سنة 1936، إذ كان في طريقه آنذاك إلى فرنسا، تشغله المفاوضات بشأن المعاهدة التي يوشك الوطنيون السوريون على إجرائها مع الفرنسيين. بيد أن ثمة سبباً أكثر أهميةً دفعه إلى عدم حضور المؤتمر. فقد أخذ يتوصل تدريجياً إلى أن لبنان الكبير أصبح أمراً واقعاً بعد مرور خمسة عشر عاماً على إنشائه، ولم يعد بالإمكان الاعتراض على حدوده بشكل واقعي. كان رياض سياسياً براغماتياً، ذا إحساس حادّ بما يمكن تحقيقه وما لا يمكن. عندما أُنشئ لبنان الكبير في العشرينات، عارضه رياض تماماً، مثل غيره من المسلمين. ولكن بعد سنوات، بدأت آراؤه بالتغيّر. وفي سنة 1928، نُقل عنه أنه يفضّل «العيش في كوخ داخل وطن لبناني مستقل، على أن يعيش في إمبراطورية عربية تحت حكم استعماري». وتوحي مثل هذه الملاحظة أن أولوياته أخذت تتبدّل. لم يتخلَّ بأي شكل من الأشكال عن غاية عمره بتحقيق الاستقلال والوحدة العربية، لكن أصبح الاستقلال اللبناني أولى الأولويات في حياته السياسية (...). في لبنان، أخذت تحدث بعض التغيّرات التي جعلت صيغة رياض الصلح أكثر قبولاً في نهاية المطاف. فقد بدأ الشبان في البرجوازية السنّية والمسيحية، يكتشفون أن القواسم المشتركة بينهم أكثر مما كانوا يعتقدون. فهم ينتمون إلى العالم نفسه من الناحية الاجتماعية، بل إن بعض الزيجات المختلطة تحدث بينهم؛ وهو أمر لم يكن يُسمع به قطّ من قبل. وبدأ رجال الأعمال المسيحيون يدركون حماقة السعي لفصل لبنان عن الأراضي الداخلية العربية، حيث لديهم مصالح تجارية ومالية مهمة. ولم يعودوا يقبلون دون جدال بعلاقة التبعية مع فرنسا التي حرّض عليها آباؤهم، لأنهم اكتشفوا أنها تقيّد علاقاتهم التجارية مع البلدان الغربية الأخرى. بل إنهم بدأوا بالاستياء من ممارسات الانتداب الفرنسي، لا سيما الجشع المكشوف للشركات الامتيازية الفرنسية، التي تريد الحق الحصري في السيطرة على الأسواق السورية واللبنانية. وأدرك رجال الأعمال المسلمون، بدورهم، أن هناك إمكانية لاستغلال الصلات المتينة التي تربط اللبنانيين المسيحيين بأوروبا لمصلحتهم أيضاً. فبدؤوا ينظرون في التعاون مع المسيحيين في إطار «لبناني» لا سوري. وهكذا تطوّر في المعسكرين ميل إلى بناء الجسور فوق الانقسام الطائفي (...). المعاهدة ومعارضوها (وكان) إبرام المعاهدة الفرنسية اللبنانية مسألة سهلة. فقد بدأ الكونت دو مارتيل ووفد لبناني برئاسة الرئيس إميل إده محادثات في بيروت في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 1936، من دون مشاركة أي من الوطنيين العرب. بالتالي، تم التوقيع على المعاهدة بالأحرف الأولى في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، وصدّق عليها البرلمان اللبناني في 17 من الشهر نفسه. وخلافاً للمعاهدة مع سورية، كانت المعاهدة اللبنانية قابلة للتجديد لمدة 25 سنة أخرى، ولم يحدّد وقت لبقاء القواعد الفرنسية في لبنان. عكست السرعة التي تمت فيها تسوية الأمور انسجام وجهات نظر الوطنيين اللبنانيين والغالبية في فرنسا التي رأت أن لبنان يجب أن يبقى مركزاً لنفوذ فرنسا، وقاعدة لقوات فرنسا المتوسطية في المستقبل المنظور. وكانت حكومة الجبهة الشعبية ومعارضوها اليمينيون مقتنعين جداً بذلك (...). اجتمع إبرام المعاهدتين (الفرنسيتين مع سورية ولبنان)، والاضطرابات الطائفية التي تلتهما، واقتراح تشكيل اتحاد كونفيديرالي دعا إليه رياض الصلح، وتضافرت معاً لإحداث بعض التطور في الرأي العام المسلم في لبنان. فقد ركّز القوميون العرب حتى نهاية عام 1936 على قضية الأراضي المتنازع عليها، لكن بعد إبرام المعاهدتين مع سورية ولبنان، أدرك المسلمون أن هذه القضية لم تعد ذات أهمية ملحّة سواء في باريس أو في دمشق. بل إن اللبنانيين السنّة اضطروا إلى الاعتراف بمرارة أنه لم يعد في وسعهم الاعتماد على «أشقائهم» السوريين، في هذه القضية على الأقل. فرغبة من الكتلة الوطنية في حماية معاهدتها مع فرنسا، أرسلت إلى طرابلس وفداً يتكوّن من جميل مردم، وسعد الله الجابري، وعفيف الصلح، لتهدئة الأوضاع (...). وكانت النتيجة أن اللبنانيين المسلمين تقبّلوا تدريجياً وجود لبنان كدولة عربية بين غيرها من الدول (...). في الثلاثينات، لم يألُ رياض جهداً للتمهيد لتسوية مع فرنسا عن طريق المفاوضات تؤدي إلى استقلال سورية. ورأى أن الحوار، لا النزاع المسلح، هو السياسة الوحيدة التي يمكن أن تفضي إلى نتائج. فسعى عبر الاتصالات المباشرة بالسياسيين والصحافة في فرنسا، إلى إقناع الرأي العام الفرنسي أن الانتداب - وطريقة تطبيقه الفجة - أضرّ بالمصالح الفرنسية في المنطقة بدلاً من أن يُعززها. وقد منحته زياراته المتكررة إلى باريس فهماً معمّقاً لعالم السياسة الفرنسية المضطرب، حيث يتجادل اليسار واليمين، والمفكّرون الأحرار ورجال الدين، والليبراليون والإمبرياليون، ويتصارعون بأساليب تذكّر بالبرلمان العثماني القديم الذي عرفه والده في شبابه. في الوقت نفسه، كان رياض الصلح رائداً في مفهوم التفاهم الإسلامي - المسيحي في لبنان بغية تعبئة المسيحيين لمصلحة قضية الاستقلال. لقد تعلّم في طفولته أن يفتخر بجهود جده، أحمد باشا، في مساعدة اللاجئين المسيحيين اليائسين وأنقاذهم من مذابح 1860، حيث كان متصرف عكا في ذلك الوقت. وشكّلت تلك الأعمال جزءاً أساسياً من تراث عائلة الصلح. ونتيجة ارتياد مدرسة لليسوعيين وتمضية المراحل الأولى من الشباب في بيئة إسطنبول العالمية، تعلّم رياض الأساليب الغربية وعرف شيئاً عن المعتقدات المسيحية، ومخاوف الأقلية المسيحية في الشرق العربي. وكان رياض علمانياً في تفكيره، ولم تكن هناك أي إشارة إلى تعصّب إسلامي في تركيبته الشخصية، أو تعصّب في القومية العربية التي دعا الآن مواطنيه المسيحيين إلى الانضمام إليها. حقّق رياض الصلح في هذه المرحلة المبكرة قدراً من التعاون الإسلامي - المسيحي في إطار لبناني. وهو تعاون يقوده بشكل أساسي تفاهم بين وجهاء الطوائف المختلفة، ويدعمه مالياً التعاون في المجتمع التجاري في بيروت بين المسلمين والمسيحيين الذين تزايدت مصالحهم التجارية المشتركة. من ناحية أخرى، أخذ يتكوّن بين المفكرين رابط من نوع آخر، بغضّ النظر عن خلفيتهم الطائفية، يقوم على التقدير المشترك لإحياء اللغة العربية في الصحافة، والتعليم العالي، والأدب والنشر. وقد جعل ذلك بيروت من أكثر المدن إثارةً للاهتمام، والعاصمة الفكرية للعالم العربي من دون منافس لمدة طويلة. * غداً حلقة ثالثة أخيرة