سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أحمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات خواطر وذكريات . تعلمت من سيرة ابن هشام أدب الكتابة وفن السرد على جيلنا تسجيل وكتابة تاريخ نضال شعبنا الذاكرة قطعة قماش تنسج الايام والسنون خيوطها شبرا بعد شبر
لم أكن أفكر يوما أنني سأضع قلمي في خدمة أحد. فهذا القلم هو فرحي، وحزني، وملاذي، وهويتي. وذات يوم دعاني الاستاذ أحمد بن سودة لتناول الافطار معه، ومائدة بن سودة "الافطارية" سارت بذكرها الألسن مشرقا ومغربا، بعد الافطار أمسك بيدي وأدخلني الى مكتبه، وقال لي: أنظر. هذه الملفات المكدسة. هذه الاوراق، الدفاتر، الصور، إنها أسراري، ومستودع رحلة عمري، وقد اخترتك دون غيرك لفحصها. والعكوف على ترتيبها، فأنت ترى: إن اليوم لا يتجاوز أربعا وعشرين ساعة، وأنا كما ترى لا وقت لي. صمت لحظة وسألني: هل أطلب لك كأس قهوة. أجلس هناك وراء المكتب. فأنت في بيتك! كانت هذه هي بداية رحلتي مع ذكريات. ومذكرات الأستاذ أحمد بن سودة. ووجدتني منجذبا بكل جوارحي إلى تلك الأوراق… والملفات… والدفاتر. وعرفت أحمد بن سودة للمرة الثانية! المرة الأولى في مكتب كان يجمعنا في مقر جريدة "الرأي العام" في بداية الستينات حينما انضم الاستاذ بن سودة إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أو على الأصح كان من المؤسسين له. ثم التقينا في الاذاعة والتلفزيون حينما تولى الاستاذ بن سودة مسؤولية ادارتهما. ثم في مناسبات عمل أخرى.. ولكن الأستاذ أحمد بن سودة الحقيقي، المناضل، الانسان، السياسي المحنك، الدبلوماسي، الشاعر، الأب. بن سودة الحقيقي كان مختفيا في أوراق وملفات ودفاتر ذلك المكتب. وكان الجزء الآخر من شخصيته كامنا في حياته اليومية. وبدأت رحلة مرافقة هذا الرجل البالغ الثراء والتنوع. وبدأت رحلة الاستماع إليه… والعودة به إلى الوراء. فكان أن أذهلني بقوة ذاكرته، بمخزون هائل من المعلومات والتفاصيل عن كل شاذة وفاذة مما رآه أو سمعه أو عاشه على امتداد أكثر من خمسين سنة. لا، بل انه حينما يتذكر حادثة، تعود به الذكرى الى لحظتها، فكأنه يعيشها من جديد، يروي حتى الجوانب التي تعتبر من قبيل الإكسسوار المؤثث للمشهد بجميع تفاصيله وتقاطيعه وألوانه. وأصبحت أسير أحمد بن سودة. وأصبح بتاريخه الكامل في خدمة قلمي… وليس العكس. وبدأت الفصول تترى. والصفحات تكتب. وهو بدقة لا مثيل لها يراجع الفكرة، والجملة، والكلمة، والصياغة، ويلبس ذلك كله روحه، وشخصيته وفلسفته! وكنت استفيد. بل إني دخلت جامعة تاريخ المغرب من خلاله، ومعه. كنت الوحيد المنخرط في هذه الجامعة السودية. وأصبحت حياتي كلها مرتبطة بهذه الجامعة. وهاهي فصول من ذكريات الأستاذ بن سودة تخرج الى القارىء العربي. ولقد كان ذلك قرارا امتنع الاستاذ بن سودة عن اتخاذه طوال رحلتي معه من سنة 1981… إلى الآن. انها فصول من حياة عامرة. ولقطات من سيرة غنية، ولازالت. لمحات من فكر رجل لا يأتي الدَّهر بأمثاله إلا نادرا. ولا زلت في رحاب جامعة بن سودة شفاه الله وأطال عمره. إن كتابة مذكراتي أو قصة حياتي رافقتني وواكبتني منذ صغري، في البداية، وعندما كنت يافعا كان تسجيل ما أراه أو أسمعه وأصادفه وأعيشه يمنحني شعورا خاصا بأنني أعيش الحدث في المرة الاولى، وأعايشه وأعيد تشكيله في المرة الثانية، فيغدو الحدث بالنسبة لي حياة متجددة، هذا فضلا عن أنني بذلك استجيب وأنفذ الوصية التي لم يكن والدي يفتأ عن اسدائها لي، فيقول: "اغنم ثلاثا قبل ثلاث: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك"، وكنت أملأ وقت فراغي بكتابة المذكرات، ولا أذكر انني في تلك المرحلة من عمري كنت أعرف معنى الملل أو الفراغ أو السأم. لم أكن أفكر لحظة انني، بتسجيل وإعادة صياغة ما أرى واسمع واعيش في سطور وصفحات، أكتب مذكرات تكون شهادة أضعها بين يدي القراء في يوم ما. ولا شك إضافة إلى الاستجابة لنصيحة والدي، أن تسجيل ما كنت اراه وأسمعه وأعيشه كان يشبع رغبة عميقة في نفسي، فقد كنت شغوفا بقراءة كتب السير وخاصة سيرة ابن هشام التي تؤرخ بروعة لا مثيل لها لسيرة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكنت أجد في الروايات والقصص التاريخية والأسطورية أيضا متعة تعيد الحياة إلى الاحداث والرجال، وأذكر انني كنت أتردد، خلسة من والدي وكلما سنحت لي الفرصة، على حلقات رواة قصص ألف ليلة وليلة، وكان لهؤلاء الرواة أماكن معينة يعقدون بها حلقاتهم. أذكر من بينها رأس الحمراء قرب سيدي علي بوغالب، وباب الفتوح، وبيت بني مرين قرب باب عجيسة1 وكان الشيوخ الرواة لهم مكانة رفيعة داخل المجتمع الفاسي يتمتعون بالاحترام ويعدون من علية القوم ويتكفل الاغنياء بحياتهم وضمان العيش الكريم لهم فيشترون لهم "العولة"2 من خليع وقمح وزيت إلى غير ذلك. وكان يرتاد هذه الحلقات، في مواعيدها المحددة، عدد كبير من الناس من مختلف طبقات المجتمع وتتكون الحلقة وتبتدىء وتنتهي وسط طقوس يحترمها الجميع، تماما كما لو كان القادم على الحلقة متوجها الى قاعة مسرح كلاسيكي، عليه أن يأخذ مكانه بهدوء، ويتابع العرض باحترام، ويعبر عن انفعالاته في حدود لا تشوش على الراوي أو تقطع حبل حديثه. وقد تستغرق قصة من القصص اسابيع يقدم الراوي حلقاتها موزعة مقسمة يراعي في اجزائها وحلقاتها ابقاء مستمعيه في حالة تشويق وتطلع ولهفة لما سيحدث لعنترة بن شداد أو سيف بن ذي يزن أو السندباد من مغامرات ومواجهات ومعارك وغرائب. أدب الرحلات وإذا كانت قصص ألف ليلة وليلة وبطولات عنترة بن شداد وأساطير السندباد قد وردت على المغرب من المشرق من بين ما حمله الوافدون من مظاهر التراث الفني والأدب الشعبي، فإن تراثنا الثقافي المغربي يتميز بقدر هائل من كتب السير الذاتية أو مايعرف الآن بالمذكرات، وهذا النوع من الأدب التاريخي إن كان كتاب المشرق قد خلفوا منه آثارا فهي قليلة بالمقارنة مع ماخلفه الكتاب المغاربة، فالرحلات المغربية لا نجد لها، في كمها وقيمتها الثقافية والأدبية، والتوثيقية التاريخية، مثيلا في آداب البلدان العربية الاخرى، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تعلق المغاربة بالدين الاسلامي وتلهف أفئدتهم الى زيارة الاماكن المقدسة للحج أو العمرة حيث كانوا يشدون الرحال من المغرب جماعات ووفودا على ظهور الدواب والجمال وعلى الأرجل ايضا قاطعين الطريق الطويلة من المغرب الى المشرق، مستهينين بالصعاب من اجل ابلال عطشهم الروحي للكعبة المشرفة ومقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الشرق بالنسبة للمغاربة مصدر إلهام وموطن قداسة وتقديس، وكانت قافلة الحجاج المغاربة تنطلق في رحلتها متطلعة بلهفة ومحبة إلى كل ما تراه وتشاهده في الطريق، وكان يوجد عادة في القافلة فقهاء وعلماء يؤطرون القافلة فيأمون رجالها ونساءها في الصلاة ويعقدون في الطريق مجالس الوعظ والتوعية الدينية، وهؤلاء الفقهاء والعلماء هم كتاب تلك المذكرات المعروفة بأدب الرحلات. وفضلا عن شغفي بقراءة ما كانت تقع عليه يدي من كتب الرحلات، وأغلبها كان مخطوطا، فقد كان لي في أسرتي ذاتها رحالون تركوا كتبا قيمة عن رحلاتهم، فعمي شقيق والدي المرحوم عبدالقادر بن سودة له رحلة مطبوعة، وترك مخطوطا هو عبارة عن سيرة ذاتية، كذلك ترك الشيخ المهدي بن الطالب بن سودة رحلة مشرقية ضمنها فهرسة للاعلام والاماكن، والشيخ التاودي بن سودة له رحلة شرقية تعتبر واحدة من أهم ما خلفه من أثر مكتوب فاق الاربعين كتابا في الحديث والتفسير والشريعة والأدب وعلوم عصره. ولتلميذه سليمان الحوات الذي ألف كتابا توجد عندي مخطوطته يعتبر مرجعا في التعريف بالعلماء وشيوخ الاسلام من العائلة السودية عنوانه: "الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة" لسليمان الحوات. هذا الكتاب عنوانه "ثمرة أنسي في التعريف بنفسي" وعنوانه يدل على انه كتاب في السيرة الذاتية. وتضم الخزائن العمومية والخاصة مئات المخطوطات لعصور مختلفة لتلك السير المذكرات التي يسجل فيها كتابها من الفقهاء والعلماء والكتاب مشاهداتهم ورواياتهم وكل ما سمعوه ووقفوا عليه على امتداد الرحلة من المغرب الى المشرق ذهابا وإيابا، وتحفل تلك المخطوطات بذخيرة غنية يجهلها الكثيرون عن احوال العالم العربي الممتد من المغرب إلى الأماكن المقدسة، سواء ما يتعلق منها بالجانب الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، ورغم اختلاف المستويات الفكرية لكتاب تلك الرحلات، فإن القاسم المشترك بينهم هو تلك الامانة المتناهية في تسجيل كل صغيرة وكبيرة مما يصادفه الرحالة في طريقه، كما يتجلى الجانب الذاتي بقدر كبير من الوضوح، لذلك يجوز القول، بل اثبات أن الأدب المغربي كان سباقا قبل غيره من الآداب العربية والعالمية إلى اختطاط هذا الفن الأدبي الذي انتشر في العقود الأخيرة في بلدان الغرب وأمريكا، واصبح موسوما بخصائص مميزة وقائما على قواعد معلومة ومتفرعا إلى مدارس ومناهج، وحسبي أن أذكر ابن بطوطة الرحالة المغربي العظيم الذي خلد اسمه كأبرز كاتب مذكرات وصفية وتسجيلية وذاتية عرفه التاريخ. فأدب المذكرات إذا هو أدب مغربي بالدرجة الأولى.. "وهذه بضاعتنا ردت إلينا". كانت البداية إذا في طفولتي، وأصبحت فكرة مختمرة في ذهني مع توالي الأيام والسنين، ثم اصبحت مشروعا يلح علي وأعتبر أن تحقيقه يتجاوز الرغبة الذاتية في كتابة قصة حياتي، فهو مشروع لكتابة صفحات في قصة كفاح عرش وشعب. في سنة 1937 كنت قد كتبت مئات الصفحات عن الأحداث التي عشتها منذ سنة 1930، وعندما ألقي علي القبض لأول مرة في حياتي وكان عمري آنذاك 17 سنة كانت تلك الصفحات معي، وهكذا احتجزها البوليس مني ولم اعرف بعد ذلك مصيرها. ثم عدت إلى الكتابة بعد خروجي من السجن. ثم كتبت الدفتر الأسود بسجن القنيطرة سنة 1940. وكل ذلك ضاع مني في ظروف مختلفة. كيف أحرقت مذكراتي أتذكر بحزن كيف ضاعت تلك الحقيبة التي اودعت بها عددا من الوثائق والسجلات والخواطر والمذكرات، ولازلت لا اعرف لحد الآن من هو ذلك الزائر المجهول الذي طرق باب بيتي ذات صباح باكر وأبلغ زوجتي انني بعثته ليأتي بتلك الحقيبة، وأعطى وصفا دقيقا لشكلها ولونها وبعض محتوياتها لدرجة أن زوجتي لم يخامرها الشك فيه فناولته الحقيبة وزودته ببعض أخبار العائلة التي تسرني مبلغة معه دعواتها وشوقها لعودتي القريبة إلى البيت. وحينما عدت بعد ذلك وعرفت الحقيقة اتخذت قرارا بأن أي شيء اريده من البيت آخذه بنفسي أو أبعث بخط يدي وتوقيعي ما يبعد الشك في طلبي. كما أتذكر تلك الليلة التي أحرقت فيها بيدي كمية هامة من الأوراق والدفاتر كنت دونتها وسجلت بها أحداث ووقائع فترة هامة من نضالي الوطني. حدث ذلك في شهر آب غشت 1953 وكنت في مدينة سبتة المغربية شبه لاجىء وشبه معتقل، وكانت المخابرات الاسبانية تراقب تحركاتي واتصالاتي مراقبة دقيقة، وكنت أعرف أن السلطات الاسبانية متضايقة من وجودي بالمدينة السليبة بسبب النشاط السياسي الذي كنت أقوم به والاتصالات التي عقدتها من هناك مع الحركة الوطنية والمقاومة بمدينة تطوان والمقالات التي كنت أحررها اسبوعيا بجريدة "المعرفة" التطوانية تحت عنوان "غبار المعركة". وذات مساء اخبرني أحد المناضلين الذين كنت على اتصال بهم انه علم أن السلطات الاستعمارية قد عزمت على وضع حد لنشاطي واعتقالي لترحيلي من المدينة أو وضعي في السجن، لذلك لم اتردد في احراق تلك الاوراق والدفاتر لماكانت تحتويه من معلومات واسرار، وخاصة ما يتعلق منها باتصالات وتحركات الحركة الوطنية على المستويين العربي والدولي في الفترة ما بين سنة 1951 1953، وهي الفترة التي قضيتها خارج المغرب متنقلا بين سويسرا وايطاليا والقاهرة ونيويورك. بخلاء.. وكرماء وذات مساء ربيعي كنت والصديق العزيز سامي الدهان رحمة الله عليه وكان وقتها استاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، نقوم بجولة على متن السيارة على الطريق المحاذية لشاطىء المحيط الاطلسي غرب مدينة الرباط، كان المشهد الطبيعي أمام انظارنا ساحرا فتانا، ففي الأفق بحر مخضب بلون الشفق الذهبي يتماوج ويلامس زرقة المحيط في عناق وداع نهار واستقبال ليل. كان ذلك في سنة 1963، وكنت وقتها عاملا لإقليم الرباط، وكان الصديق الراحل العزيز يطيب له بين الحين والآخر أن يقول لي: إنك تحكم منطقة أوسع مساحة وأكثر سكانا وأوفر أرزا من لبنان! كان شغف الاستاذ سامي الدهان بالمغرب شغفا بلغ درجة الوله والعشق الجميل، فهو لا يفتأ يعيد ويكرر لي: بقدر ما أنتم بخلاء في التعريف بقدر بلدكم وتاريخه الاسلامي الجهادي والحضاري العظيم، بقدر ما يزخر تاريخكم ولايزال بالعطاء والكرم والأمثولة، وبين بخلكم وكرم تاريخكم فإننا إخوانكم الشرقيون، وخاصة المؤرخين والمثقفين منا، قد ظلمناكم وظلمنا تاريخكم معكم، واعتبرنا دائما انكم امتداد لنا، وجدول متفرع من أنهارنا، وهذا هو الخطأ الجسيم الذي علينا أن نعترف به ونشرع في قراءة تاريخكم بوعي جديد مختلف. وكان رحمه الله في جولاتنا وجلساتنا يستدرجني بلباقة خلقه وبتلك الحاسة التي يتميز بها العالم الباحث في استكناه المعلومات والخفايا والتوغل في مجاهل مالا يدرك إلا بالبحث والتنقيب.. كان يستدرجني لأحدثه عن تاريخ بلادي، وخاصة عن الصولات والجولات التي خاضها الشعب المغربي في مسيرة الكفاح الوطني، فكنت أنطلق وأفيض في سرد الاحداث والذكريات بطريقة لم أكن أتوخى فيها ترتيب الصفحات والفصول والوقائع في سياق تسلسلها أو ترابط أجزائها، في ذلك المساء قال لي: يا أخ أحمد لابد أن تخصص وقتا لكتابة مذكراتك ولو كنت لا أعرف طول باعك في البيان ورسوخ قدمك في حلبة الكتّاب الفرسان لاقترحت عليك تدوينها وتسجيلها لتوضع بين يدي الكتاب والمؤرخين، ولكنك وأنت الكاتب الصحفي الشاعرالعالم فلا عذر لك في التقاعس أو الابتعاد، اكتب مذكراتك تكن بها شاهدا صادقا على ملحمة كفاح وطنك، تعرف القاصي والداني على عراقة شعبك وعظمة وسمو عرشك وملكك. وكفى ما أصاب تاريخ المغرب العظيم من إهمال، وإن كانت الخزائن طفحى بالصحائف المخزونة المخطوطة عن فترات متميزة في عهوده وسالف احداثه ووقائعه، ولعل الهمة تستيقظ فيكم وفينا لكشف ما خفي من تلك الدرر، ونفض ما علق بتلك الصحائف من غبار كاد أن يذهب عنها كل أثر. ومست كلماته هذه في نفسي كل أوتار الذكريات والمشاهد، فتدفقت تتزاحم مستعرضة نفسها أمام ذاكرتي وكأنني أعيشها من جديد مستحثة إياي أن أستنطقها وأحاورها وأرددها غناء ونشيدا في سماء وطني الحر. وعدت ذلك المساء إلى بيتي وصوت الدكتور الدهان يستحثني ورعشة الكتابة عادت واستيقظت بين أناملي فدلفت إلى مكتبي وأمسكت بالقلم وبسطت أمامي دفترا بكرا من الحروف. وسرح بي فكري إلى تلك الأيام التي خيّل إليّ ان العهد معها طال، والجفوة بيني وبينها أسدلت ستارا كثيفا أطفأ ضوء الخيال وعطل قدرة الاختراق والانتقال، تلك الأيام التي كانت الكتابة فيها بالنسبة لي هي الطعام والماء والهواء والهوية. مرت لحظات غير قليلة والسؤال معلق في كل ركن من المكتب: من أين أبدأ؟ لم يكن هذا السؤال مبعثه فقط ذلك الخضم من الأحداث والوقائع التي تملأ أفق حياتي منذ أن كنت طفلا في العاشرة من عمري إلى هاته اللحظة، بل لاني أيضا تعودت منذ صغري على تسجيل كل صغيرة وكبيرة مما أراه أو أسمعه أو أعيشه أو ألاحظه حتى اصبح ذلك عادة يعرفني بها زملائي، ويعود بعضهم إليّ سائلا عن تاريخ واقعه أو عن ظروفها وأشخاصها. ولكنني أحمد الله أن هذه العادة التي درجت عليها لم تلغ عمل ذاكرتي وغريزة الحفظ التي نمت وترعرعت ونضجت من طفولتي في الكتاب إلى دراستي في القرويين. هذه الذاكرة هي خزان حياتي، وهي المعين الذي حفظ به علماؤنا ورواتنا وشعراؤنا كنوز التاريخ والعلم والأدب، وكان ولايزال حصنا حفظنا داخل جدرانه المنيعة تراثنا من التلف والضياع والتزوير. وعكفت على التسجيل. وكانت قد مرت ساعات حين طويت الدفتر وقد خط القلم به بضع صفحات. وتوالت خلواتي في المكتب بعد ذلك، ولكنها كانت خلوات متقطعة أهرب إليها من أوراق وملفات وتقارير واجتماعات تمسك بتلابيب وقتي من الصباح إلى الليل بين مكتبي في مقر عمالة ولاية الرباط، وبين تنقلاتي بين المدن والقرى والمداشر المنبثة على طول وعرض المساحة الشاسعة لحدود العمالة. وكان الدفتر الأول، ثم الثاني، ثم الثالث. وكان الدكتور سامي الدهان رحمه الله يلحقني، فأطلعه على ما كتبت فيزداد حماسه ويقول: ها أنت يا أخ أحمد قد وضعت مخططا ممتازا لمذكراتك. ولعل الدكتور الدهان رحمه الله قد أصغى سمعه المرهف إلى الأصوات المنادية بي في جوانح نفسي أن أعتزم عزمة أغالب بها غفوة يستلذها المحارب بعد المعارك الضارية التي خاضها، والغمرات التي شق بحصانه غبارها، ولكنه بالتأكيد وقد أفضى إلي برغبته وطوقني بثقته كان قد استشف من حماستي وتدفق حديثي، ومن الانفعال الذي كان يتملكني إزاء حادثة أو موقف فيما أرويه، إنني كنت كمن يحاول الامساك بمئات من الخيوط المتناثرة المتعددة الألوان حتى لا تفلت من بين أنامله ليربطها ويشدها إلى المنسج ليحيك بها قماشا مزركشا في غير تناسق ظاهر، ولكنه محكم النسيج متقن الحياكة، وبالفعل فقد كان حدس الأستاذ الدهان مصيبا، ففي تلك الأيام تضاعفت الرغبة عندي، وكانت دائما هاجسا لا يفارقني، في أن أخلو ساعة أو ساعتين في اليوم، ويوما أو يومين في الشهر، إلى نفسي وأوراقي وقلمي، وإلى صحائف وأوراق وصفحات منثورة في هاته المذكرة أو ذاك الدفتر، سجلت بها خواطر، أو دونت ملاحظة أو حديثا أو حوارا، أو أثبت تاريخا أو حادثة، لأترسم كل ذلك وأرسمه وأسجله في صفحات منتظمة وأبواب وفصول متتابعة، كشاهد مدعو أمام محكمة التاريخ ليدلي بما عنده من اخبار ويفصح عما في صدره من أسرار، وكنت أرى أن السنوات التي انصرمت من عمري وكرت حبات في سبحة حياتي قضيت أكثر من ثلاثة أرباعها في رحلة المعاناة والآلام والعذاب والصدام والمواجهة والمقاومة والتحديات، وفي طريق طويلة مزروعة بالأشواك محفوفة بالمخاطر والمفاجآت، متعرجة تنفرج سماؤها احيانا وتدلهم احيانا بالظلمات، وترسخت القناعة عندي أن ما طويت من صفحات عمري كان مرحلة وان تعددت محطاتها وتباينت أطوارها، تماثل التي يقطعها مسافر في مسالك الصحاري والجبال ليحط بشاطىء الأمان عصا الترحال، فيلاقي في تلك الطريق كل الصعاب دون أن تنال من عزيمته الأهوال والخطوب أو تحد من خطوه، فهو يغذُ السير، زاده الايمان بالهدف الذي يسعى إليه، هدف ملأ حياته أملا ورجاء، وكنت اناجي نفسي وأقول: هاهو الوطن الحبيب الغالي قد استعاد حريته وكرامته واستقلاله، وهاهو الشعب المغربي الأبي الكريم قد رفع هامته، وأزاح عن صدره كابوس الاستعمار وذله ومهانته، هاهو كل هذا يتحقق وكان حلما يبدو بعيد المنال مستعصيا على همة الرجال، هاهو المغرب ملأ سمع الدنيا وبصرها، بجيشه وارادته ومؤسساته وسفرائه وحكومته، تسعى إليه الدول مجددا بسفرائها ورسلها، ويرتفع صوته في المنتديات الدولية مسموعا محترما.. ولكن كيف تأتى وتحقق كل هذا وكأن لم نقض في الظلام إلا عشية أو ضحاها..؟ هل فزع الاستعمار من نفسه وضاقت به الحياة في أرضنا فرحل لا يلوي على شيء؟ أم انه كان يبحث عندنا عن كنز مفقود فتبين له أن أرضنا خالية من الكنوز فجمع جنده وهاجر إلى بلاد أخرى باحثا عن الكنز المفقود..؟ أم أن طقس المغرب مما لم تتحمله أبدان المعمرين فتسربت الأمراض إلى عروقهم فضعفوا وخافوا من الهلاك فهربوا؟ لا.. إن الاستعمار قد طرد من أرضنا ونحن الذين طردناه.. وانهزمت جيوشه أمام مجاهدينا وفدائيينا فولى الأدبار، وانهار جبروته أمام إرادتنا فسلم أمره للقدر والأقدار، وفلت سيوفه على صخر رقابنا وظهورنا وصدورنا فأصيب بالانهيار، ولم يذق طعم الراحة ولا تركنا له الوقت ليحكم سيطرته علينا فيقيم مقام المستقر الآمن المطمئن. جيل مشاهد ومشارك وهاهو المغرب على مشارف القرن الواحد والعشرين ومن نعم الله على جيلنا نحن، جيل الكفاح الوطني مع بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس، الجيل الذي فتح أعينه وهو يرى جلالة الملك الحسن الثاني طفلا وشابا، مناضلا ورفيق جهاد، عضدا ودرعا لوالده المنعم… من نعم الله على جيلنا أن كنا شهود تاريخ… وهو تاريخ الميلاد الجديد للمغرب، تاريخ مجده وانتفاضته واشعاعه وشبابه وانطلاقته الكبرى، نحن جيل مشاهد ومشارك وتلك نعمة تضاهي تلك النعمة الكبرى التي خص بها الله المهاجرين والأنصار. ولأننا جيل مشاهد ومشارك، فإن شهادتنا للتاريخ وروايتنا لأحداثه وتسجيلنا لمآثره ومؤثراته تكتسي تلك الأهمية التي اكدها القانون والشرع للشاهد العدل الذي لا يجوز له أن يكتم شهادته لانها فرض عليه. إن على جيلنا واجبا عظيما وخطيرا. هو واجب تسجيل وكتابة تاريخ نضال وجهاد شعبنا العظيم على امتداد حوالي ستين سنة. إن هذه الفترة تزدهي وتشرق بأعظم رجلين في تاريخ المغرب، أب وابن، ملك وابن ملك، مجاهد ومجاهد، ملكين مجاهدين لشعب مجاهد، فعظمة القادة في التاريخ من عظمة شعوبهم. ان قصة هذا الكفاح العظيم تستحق من كل من عاشها وشارك فيها واكتوى بلهيبها ووهب حياته من اجل انتصارها، أن تروى وتسجل وتكتب عبرة وهداية وتوجيها وضوءا تسترشد به الأجيال في سيرها ومسيرتها. وهي قصة ليست ككل قصص وحوادث التحرير في العالم. فهي متميزة وفريدة، بقدر ما كان المغرب بالنسبة للاستعمار وهجمته الشرسة على البلدان والشعوب، مطمحا ومغنما استراتيجيا وثأرا تاريخيا وهدفا تهون دونه كل الصعاب والتضحيات. فالمغرب درة البلدان، والمغاربة جوهرة الأمم، وتاريخ المغرب غصة في حلق الحاقدين والطامعين والظالمين. فقصة الكفاح الوطني التحرري المغربي هي امانة في عنق كل من كتب حرفا من حروفها الذهبية. وقد طوى النسيان أو كاد صفحات مضيئة من تاريخنا الحافل بالأمجاد، ومن الظلم أن نطوي بصدورنا قصة ذلك الكفاح ونرحل بما نعرف فيدفن معنا في قبر لا رفيق فيه إلا ما سجل في صحائفنا من أعمال. وكنت أرى أنني، وفي سنة 1963، بعد ثلاث وأربعين سنة، قد دخلت المرحلة الثانية من عمري، المرحلة الأولى كان سلاحي فيها معول هدم صرح الاستعمار، مرحلة الاحراق والاحتراق، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة البناء… بناء المغرب، وتحويل الآلام الى حقائق، والمطامح إلى منجزات، وبين المرحلتين بعد ومسافة يقاسان بمكاييل ومقاييس الاحساس والوعي والقدرة على اتخاذ القرار وتغيير المسار في الاتجاه السليم، وبذلك يمتاز العقل عن الهوى، واللهيب الذي يأكل الأخضر واليابس عن الدفء الذي لا يهمد النار ولكن يبقى على ما تبعثه من حياة. فلابد إذا من تسجيل صفحات تلك المرحلة: أولا: قبل أن تضعف الذاكرة فهي كقطعة قماش تنسج الأيام والسنون خيوطها شبرا بعد شبر، وكلما امتدت وطال مقاسها تطوى كما يطوى الملف، تراه بعد مدة فتخاله قويا فإذا به يتناثر بين يديك إذا حاولت نشره من شدة البلى. وثانيا: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: "خلق الانسان هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا" وقد امتحنني الله فيما مضى من عمر نضالي فكنت هلوعا على أهلي وشعبي، جزوعا أن يمس الشر وطني ومقدساته، وها أنا ذا مقبل على امتحان الخير، وقد أفاء الله به على بلدي، وفتح أبواب نعمائه في وجهي، وأخشى مع مضي الأيام، وما تحمله من نعيم يستوجب الحمد والشكر والمنة لله. أن أجد نفسي ممنوعا عن قول الحق والتصريح بالحقيقة حياء من حي أعرفه، أو خوفا من زوال نعمة، وإن كنت لا أراني إلا صابرا صامدا متشبثا بالمبادىء التي هي جزء مني وأنا جزء منها، وما قيلت قولة "التاريخ لا يرحم" إلا تذكيرا لأولي الابصار حتى لا تزيغ أبصارهم فيفضح التاريخ افتراءاتهم. وثالثا: فإنني لم أكن في المرحلة الأولى من عمري مرحلة الهدم ومقاومة الظلم، متفرجا وضعته الأقدار أمام احداث جرت وهو يتطلع إليها من عل، من نافذة أو كوة يخشى على نفسه من هولها أو أخطارها أو تبعاتها، فقد عشت وكنت في صميم تلك الأحداث، وفي قلبها وعنفوانها، وشاءت أقدار وظروف ومؤهلات ومكونات أن أكون أحد صناعها، وفي الصف الأول لطليعتها، فاتحا صدري لكل طائش أو هادف من شواظها ورصاصها، وعن يميني وشمالي وأمامي وخلفي كانت تزمجر أحداث وأهوال فأرجع صداها وأردد أصواتها وأعرف مصدرها وأعاني من نتائجها، لذلك فإن الادلاء بشهادتي واجب لا مناص لي من ادائه لا أبتغي من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. هذه الشهادة هي كالتحية التي يؤديها الجندي المستميت المخلص لقائده بعد عودته من موقعه مدليا بتفاصيل مهمته بأمانة ودقة ومسؤولية قبل أن يتلقى الأمر بتنفيذ مهمة جديدة في موقع جديد. وقد كنت جنديا ولازلت وسأبقى متحليا بروح وأخلاق الجندية النبيلة السامية، وهكذا فان مذكراتي لن تكون مذكرات تحكي قصة "بطل" ولكنها مذكرات تروي قصة "البطولة" البطل، فيها شعب وعرش، كذلك فان هذه المذكرات ستكون سردا وجردا وتسجيلا أمينا للأحداث وللرجال الذين صنعوا تلك الأحداث، وقد كنت واحدا منهم، وهذا هو الوسام الذي أعلقه على صدري وشارة الشرف التي تؤهلني لأدعو الجميع للاستماع لشهادتي. مرآة منصوبة على ربوة عالية وفي الواقع فإن ما كنت قد كتبته في تلك الفترة أي في سنة 1963 كان عبارة عن رؤوس أقلام، وعناوين، وعناصرومحطات حاولت من خلالها رسم خريطة دقيقة ليس فقط لمسار حياتي وما حفلت به من أحداث منذ طفولتي، ولكن للمحيط العائلي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تحركت فيه أفقيا وعموديا، ولقد حررت نفسي منذ البداية من التقيد بمدرسة أو نظرية أو اتجاه فيما أصبح يعرف "بفن كتابة المذكرات" ذلك لأن ما أريد تبليغه وتسجيله هو الأهم عندي، لذلك فان المخطط كان يستجيب للمحاولة التي بدأتها سنة 1963، والتي أقدمت الآن عليها، وهي أن تكون هذه المذكرات مرآة منصوبة على ربوة عالية لا تعكس صورتي وحدها دون غيرها، ولكن تنعكس عليها آلاف الصور والمشاهد مما جرى أمامها أو تحرك. لقد كان اقتناعي، وأصبح وطيدا راسخا مع توالي الأيام، اننا في المغرب اذا لم يتدارك أولو العزم والغيرة والدعوة من جيلنا إلى العمل بكل الوسائل لربط الحاضر بالماضي ومد قنوات الاتصال والتواصل بينهما وبين المستقبل، فإن وقتا سيأتي يجد المغاربة فيه أنفسهم كتلك السفينة الفضائية السابحة فيما وراء منطقة الجاذبية، سفينة تعطلت خطوط وآلات اتصالتها مع المركز الأرضي الذي يتحكم في سيرها وتوجيهها، فهي تحتفظ بمخزون يدفعها ولكن طاقمها لا يدري مكانها وموقعها ومآلها بين السماء والأرض!. وتاريخ المغرب بالنسبة لحاضره هو ذلك المركز الارضي المتوفر على كل وسائل الرصد والتوجيه والتحكم والارشاد، فالحاضر كوكب مركب على منصة الانطلاق تعمل كل اجهزته بسلامة تامة، والمستقبل هو الفضاء الشاسع، وقبل أن ينطلق هذا الكوكب باسم الله وعلى بركة الله لابد من أن يأخذ كل خبير وعالم موضعه في المركب الأرضي… وما اولئك العلماء والخبراء إلا نحن. نحن جيل الكفاح الوطني، الجيل الذي تسلح بالإيمان ولبس دروع التاريخ وتمنطق بالارادة، ورفع كتاب الله ونشر علم سنة نبيه الكريم وخاض المعركة فحقق الظفر وفاز بالانتصار وفتح الطريق للأجيال. في مركب التاريخ الوطني ومهمة هذا الجيل بعد التحرير والبناء، وبعد أن ثقلت موازينه بالتجارب والعطاء، هي أن يعتكف ويتفرغ في المركب الأرضي، مركب التاريخ الوطني، تاريخ المغرب الماجد الحاشد ليوجه سفينة الحاضر في انطلاقها لفضاء المستقبل، إن هذه ليست مهمة تشريفية أو تطوعية، بل مسؤولية استراتيجية أساسية وعلى أكبر قدر من الخطورة!. ولو كان الأمر بالنسبة لي سيرة ذاتية محضة لشغلت عنها بتأليف كتاب أو كتب في مواضيع وشؤون ادبية أو أخلاقية أو دينية أو سياسية، ففي محصلتي، والحمد لله من المعارف والآراء والنظرات والتحليلات، ما يؤهلني ليضاف اسمي، وربما بشيء غير قليل من التميز، إلى قائمة أسماء تتناول اقلامهم تلك الشؤون والمواضيع في عالمنا العربي الذي اتسعت مكتبته للنظريات أكثر مما اتسعت لأي شيء آخر يعطي للمعرفة مدلولها الحافز على تجاوز المعضلات والمشكلات المزمنة والحديثة والمتولدة!. ولكنني أريد أن تكون هذه المذكرات اسهاما متجددا في حث الأجيال على استلهام ماهو مفيد في تاريخها القديم والحديث، ففي ثنايا ما سأكتب عصارة تجربة فكرية نضالية إنسانية مغربية دما ونبضا، وجها وروحا، لجيل على الأجيال أن تعرف انه كان جيلا فريدا، جيل الانقاذ، وجيل الانبعاث، وجيل التضحية وجيل الفدائية، ولولاه، ولولا ما اتصف به من سمو وشهامة وإباء وروحانية، وإرادة، لكان للمغرب شأن آخر غير ما نعيشه ونراه حامدين شاكرين الله على جميل لطفه بهذا البلد الأمين ليبقى منارة للهدى ومثالا وقدوة، حاملا من جديد رسالته الخالدة، رسالة الاسلام. وأطوي الدفاتر وما خططته فيها وسجلت، وتسبح بي الأيام في بحر لجي من المهام، من مهمة إلى أخرى، من بلد إلى بلد، وإن كنت ظننت أنني بعد أن أنعم الله على بلادي بالاستقلال، وتوج تضحيات شعبنا وجهاده بالنصر والحرية، سأنصرف إلى تنظيم حياتي وعملي، وأنعم كما ينعم الناس جميعا بالحياة في كنف الاستقرار، فأصرف جزءا من وقتي في عمل أشبع به ذاتي وفكري وتكويني، وأنال منه ما يؤمن معيشة أهلي، واتفرغ فيما تبقى بين القراءة والكتابة والعناية بأهلي وتربية اولادي فأكون الى جانب والدي أتدثر برضاه وأسعد برفقته وأستزيد من توجيهه وأمنحه تلك الراحة التي افتقدها بابتعاد ابنه عنه من سجن إلى سجن، ومن سفر إلى سفر، ومن معركة إلى أخرى، كما يمكنني بعد تجوال طويل، أن أعطى لزوجتي حقها في زوج تجده الى جانبها ترعاه وتستشيره وتهيء له وسائل الحياة الهنيئة، وتتمتع بين الحين والآخر معه برحلة أو نزهة أو زيارة للأقارب كما هو شأن قريناتها. 1 أسماء أحياء في مدينة فاس العتيقة 2 أي الزاد * تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت