شهد الأدب العربي في العصر الحديث اتساعاً كبيراً في فنونه وأغراضه وتفاعل بشكل ملحوظ مع آداب الأمم الأخرى، وأضحت هذه الفنون جزءاً مهماً من الأدب العربي، ومرد ذلك إتقان الأديب العربي وتجويده لهذه الفنون كالقصة والرواية والسيرة الذاتية التي ذهبت تشكل ملمحاً مهماً في أدبنا العربي. وإذا كان الحديث هنا عن فن "السيرة الذاتية" الذي اتخذه نادي جدة الأدبي محوراً لملتقاه لهذا العام، فذلك يعني أن هناك جمهرة من المشتغلين بالأدب قد مارسوا كتابة هذا الفن وأخرجوا للمكتبة العربية طائفة من المؤلفات في هذا التخصص. ولو عدنا قليلاً إلى تاريخ هذا الفن لوجدنا أن أول من كتب فيه الأديب الفرنسي الشهير جان جاك رسو الذي أرسى قواعد هذا الفن معلناً ريادته له عام 1700م حين صدور الاعترافات وتبعه بعد ذلك زمرة من الأدباء والشعراء في أوروبا حتى إذا نفذت إلى أدبنا العربي وتمثلت في كتاب "الساق على الساق في ما هو الفرياق" للشيخ أحمد فارس الشدياق الذي صدر في باريس عام 1855وحمله كثير من سيرته وملاحظات لغوية وسرعان ما ولج من هذا الفن لفيف من أدبائنا، فكتب الأديب المصري عبدالرحمن شكري كتابه "الاعترافات" عام 1916م وطبعه في الاسكندرية، لكن يبقى للدكتور طه حسين ريادة من نوع آخر فهو الأب الروحي لهذا الفن في الأدب العربي الحديث وذلك حينما صدر الجزء الأول من كتابه "الأيام" عام 1926م وتبعه الجزء الثاني الذي صدر عام 1939م، وهي أشهر سيرة ذاتية في الأدب المعاصر. ولعل هذا النجاح الذي حققه "الأيام" دفع كثيراً من الأدباء لتسجيل حياتهم ونقل تجربتهم إلى الآخرين ولا سيما الأجيال القادمة، ولعلي أكون صائباً أن كتابة السير الذاتية تأتي من باب التحدث بنعم الله وفضائله، ونقل تجارب مهمة عاصرها صاحب السيرة إضافة لتسجيل نقل النوعية التي عاشها في مجتمعه.. لذا فقد استهوى هذا الفن من غير الأدباء كثيراً من الوزراء والعسكريين والساسة والأطباء والتجار والمربين. وامتد هذا الفن فكتب الأديب المصري أحمد أمين "حياتي" 1950م، وكتب إبراهيم المازني "قصة حياة" عام 1961م، ثم كتب لطفي السيد "قصة حياتي" عام 1962م، وآخرهم عباس العقاد "أنا" عام 1964م، وكتاب "حياة قلم" عام 1965م، وها هو ذا توفيق الحكيم يكتب "سجن العمر" عام 1967، وتصدر نوال السعداوي كتاب مذكرات طبيبة" عام 1965م وهي أول امرأة تكتب سيرتها الذاتية. أما المفكر المصري الكبير الدكتور زكي نجيب محمود فقد كتب ثلاث سير ذاتية وهي "قصة نفس" و"قصة عقل" و"حصاد السنين" وسرعان ما انتشر هذا الفن في البلاد العربية فهذا الأديب المهجري ميخائيل نعيمة يصدر سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء حملت عنوان "سبعون"، ويكتب نزار قباني "قصتي مع الشعر"، كما يصدر سهيل إدريس روايته الشهيرة "الحي اللاتيني"، التي هي جزء من حياته.. كما يسجل المفكر المغربي محمد عابد الجاري سيرته في "حفريات في الذاكرة"، ويخرج الباحث والمحقق المعروف إحسان عبدالقدوس سيرته "غربة الراعي" إلى جانب كتابه المهم عن فن السيرة الذاتية، كما تكتب الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان سيرتها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة"، كما روت الشاعرة نازك الملائكة سيرتها الذاتية للكاتبة حياة شرارة وجاءت بعنوان "سيرة من حياة نازك الملائكة" وكذلك دوَّن الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا سيرته في "البئر الأولى". لكن الأدب العربي في المملكة لم يكن بمعزل عن الأدب العربي في البلاد العربية، بل كان جزءاً منه، ومتفاعلاً مع قياداته متماشياً مع كل ما استجد في الفنون ويؤكد ذلك الأديب أحمد السباعي في كتابه "بوزومل" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1376ه ثم غير عنوانه إلى "أيامي"، فتبعه الأديب محمد عمر توفيق بتسجيل سيرته في كتاب حمل عنوان " 46يوماً في المستشفى" ويكتب الأديب حسن محمد كتبي سيرته في "هذه حياتي" عام 1379ه، وفي عام 1959م يصدر الشاعر الحلمنتيشي ووزير الصحة السابق حسن نصيف كتابه "مذكرات طالب سابق"، ثم يصدر الناقد عبدالعزيز الربيع سيرته الذاتية في كتاب "ذكريات طفل وديع" عام 1397ه عن نادي المدينةالمنورة الأدبي، أما محمد حسين زيدان فقد سجل سيرته في كتاب "ذكريات العهود الثلاثة" وصدر عام 1408ه، وينشر عزيز ضياء سيرته الذاتية بعنوان "حياتي مع الجوع والحب والحرب" في ثلاثة أجزاء عام 1410ه، ويدون الشاعر حسن قرشي أيامه مع الشعر في كتابه "تجربتي الشعرية" عام 1392ه وهو ما شجع الشاعر غازي القصيبي ليدون تجربته هو الآخر في كتابه "سيرة شعرية" ثم يسجل تجربته العملية والإدارية في كتابه الشهير "حياة في الإدارة". أما التجارب الصحفية فقد وجدت من يسجلها ويحتفي بها: فهذا الكاتب الصحفي حسن قزاز يصدر سيرته في جزءين بعنوان "مشواري مع الكلمة" يشارك هذا التخصص الأديب والصحفي عبدالفتاح أبومدين في كتابه "وتلك الأيام" بل أخرج سيرته كاملة في كتاب "حكاية الفتى مفتاع" عام 1416ه، كما أصدر الناقد علي العمير سيرته في كتاب "بداياتي في الصحافة والأدب" عام 1413ه. ويعقبه الروائي عبدالعزيز مشري بكتابة سيرته في كتاب "مكاشفات السيف والوردة"، وكذلك الشاعر الكبير يسجل جزءاً من حياته في كتابه "ترجمة حياة" ويصدر الشاعر عبدالله بلخير كتابه "عبدالله بلخير يتذكر عام 1419ه. ومن السيرة الذاتية التي لها حضورها في السياق منها ما كتبه الأديب عبدالكريم الجهيمان عن سيرته في "مذكرات وذكريات من حياتي"، و"ذكريات باريس" الذي صدر عام 1400ه، ويصدر كذلك العلامة أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري سيرته "تباريح التباريح" عام 1412ه وتممه بكتاب "شيء من التباريح" عام 1415ه.. أما علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر فقد دوَّن سيرته في كتاب "من سوانح الذكريات" عام 1415ه، كما أخرج الأستاذ منصور الخريجي كتاباً عن سيرته العلمية والعملية وجاء بعنوان "ما لم تقله الوظيفة: صفحات من حياتي" عام 1417ه ثم أصدر الوزير الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويطر سيرته الذاتية في أكثر من جزء وجاء بعنوان "وسم على أديم الزمن"، كما أصدر الكاتب محمد القشعمي سيرته الذاتية في كتاب "بدايات"، أما الأستاذ عبدالرحمن السدحان فقد دوَّن سيرته في "قطرات من سحائب الذكرى". ولعل هناك كتباً كثيرة دوَّن الأدباء والمثقفون سيرتهم وتجاربهم الذاتية فيها ولم أقف عليها، إلا أننا لا ننسى الدراسات القيمة التي عملت على دراسة هذا الفن ونقده وأبرزت أهميته، ويأتي في مقدمتها ما كتبه الباحث الدكتور عبدالله الحيدري في كتابيه المهمين "السيرة الذاتية في الأدب السعودي" و"إضاءات في أدب السيرة الذاتية"، وكتابا الدكتورة عائشة الحكمي "السيرة الذاتية عند أدباء المملكة في مرحلة الطفرة إلى الوقت الحاضر"، و"تعالق الرواية مع السيرة الذاتية في الإبداع السردي السعودي". أما الكاتب أحمد آل مريع فقد أصدر كتاب "ذكريات علي الطنطاوي: دراسة فنية" وكتابه الآخر "السيرة الذاتية .. الحد والمفهوم". وأتوقع أن يُثري هذا اللون الأدبي في ظل طفرة كبيرة ممن اشتغلوا عليه سواء ممن كتبوا عن أنفسهم أو من درسوا هذه السيرة وحللوا دوافع كتابتها، هذا أكبر دليل على تفاعل الأدب العربي مع الفنون والتيارات الأجنبية الأخرى.