الكاتب المغربي محمد المرابط ظاهرة أدبية قائمة بذاتها: فهو روائي وقاصّ ولكن من غير ان ينتمي الى عالم الرواية والقصة. وعلاقته بالكتابة لم تتمّ الا عبر السرد أو ما يُسمّى في المغرب ب"الحكي". وعبر حكاياته المرويّة، استطاع ان يبني عالماً متخيّلاً وواقعياً، سحرياً وفانتازياً. في هذا الحوار يتحدث محمد المرابط عن تجربته ككلّ وعن لقائه الروائي الأميركي بول بولز الذي قاده الى فنّ الرواية وفتح له باباً الى عالم الأدب الشفوي: نعلم أن تعرّفك على الكاتب الأميركي بول بولز كان وراء بداية مشروعك القصصي والروائي! ماذا عن هذه البداية؟ - نعم. ولكن قبل أن أحدثك عن لقائي ببول دعني أحدثك عن لقائي بزوجته جين. كنت ذات يوم أصطاد السمك في الكريان قرب شاطىء مرقالة فاقترب مني أحد الأجانب: أميركي. وعلمت فيما بعد أنه يسمى بوب تامبل. كان يرافقه رجلان وامرأتان. ظل ينظر إليّ وأنا أصطاد السمك، ثم اقترب مني أكثر وشرع يسألني - بعد أن حياني باحترام - عمن أكون وعن أبي ومهنته ومقر عمله. ولما علم أن أبي هو المرابط الذي يشتغل بالطبخ وصنع الحلويات في فندق المنزه سألني عن معرفتي بالطبخ فأجبته أني أتقن فن الطبخ وخدمة القوم في الأكل أو الشراب. التفت نحو مرافقيه. حدثهم باللغة الإنكليزية. لم أفهم شيئاً مم قاله لهم. التفت نحوي وقال لي أنه يقيم حفلاً يوم السبت من كل أسبوع - أو أسبوعين أحياناً - وأضاف: "عليك أن تحضر الى البيت يوم السبت المقبل"، ثم حدد لي موقع بيته. ذهبت الى بيته صبيحة يوم السبت. حيّاني. قدم لي بعض أفراد البيت وبيّن لي نوع العمل الذي يجب أن أقوم به... وفي تلك الليلة بعد ذهاب معظم الضيوف، قبيل انتهاء الحفل، رأيت امرأة تجلس منفردة. وكنت خلال الحفل مررت أمامها مرات ورأيت أن كأسها لا تفرغ. اقتربت منها وقلت لها: "مساء الخير". قالت لي: "مساء الخير". لم أفطن حتى قلت لها: "انك تشربين بشكل يدعو الى الخوف ثم إنك حزينة وكأن الفرح لم يزرك منذ زمان. ما هو السبب؟ ما بك؟". نظرت إليّ وفتحت فاها لتقول شيئاً لكن صوتها لم يسعفها. تغرغرت عينها. وبعد أن أسعفها صوتها قالت لي "أنا هكذا دائماً" ثم قالت لي: "اسمي جين بولز. وزوجي هو بول بولز. هو مؤلف موسيقي وكاتب"، قلت لها: "أنا اسمي محمد المرابط". طال الحديث بيننا. تعاطفنا... حكيت لها حكايات راقتها. قبيل الفجر، وبعد أن انصرف كل الضيوف اقترب منا صاحب البيت فحياها. جلس معنا وظل يتحدث الينا ثم ناولني أجرتي. حييتها وقلت لها: "نلتقي مرة أخرى إن شاء الله". قالت لي: "نعم إني أسكن أمراح". انصرفت في سبيلي. ثم التقيتها مرات كانت آخرها في بيتها فدخل زوجها فقالت لي: "هذا هو زوجي بول بولز". سلمت عليه. ضحك وقال لي: "سبق أن رأيتك". قلت له أيضاً: "أنا بدوري سبق أن رأيتك قرب البحر". قال: "نعم، قرب البحر". قلت له: "كان معك بعض أصدقائك. واحد منهم شديد الشبه بجرو سلوقي" ضحك وقال لي: "تعني ]وليام[ بورووز، قلت له: "نعم" قالت جين لزوجها: "إنه يحكي خرافات جميلة". قال لي: "احك لي بعضها"، حكيت له بعض قصصي. قال بعد أن استمع الى عدد منها: "يجب أن أعطيك آلة التسجيل وتسجل كل هذه القصص، وسأترجمها الى الإنكليزية... ونؤلف كتاباً..." ودعتهم وانصرفت. نعرف البقية. انتقلت ثلاث مرات الى الولاياتالمتحدة. طفت أرجاء أوروبا وعملت هناك. ثم عدت الى طنجة والتقيت بول من جديد في بداية الستينيات... - لما زرت بولز في بيته وقع بصري على صورة لأحد معارفي وهو العربي العياشي. تناولت الكتاب الذي كانت الصفحة الأخيرة من غلافه تحمل تلك الصورة، ودققت النظر فيها" إنها صورة العربي! سألني بول إن كنت أعرف صاحب الصورة فأجبت بالإيجاب. قال لي: إن ذلك الكتاب يحمل عنوان "حياة مملوءة بالثقوب" وانه من تأليف العربي العياشي. كان بول يحدق فيّ وهو يتحدث إليّ وكأنما ليقرأ أثر كلامه في نفسي. وما أن أنهى كلامه حتى استبد بي الضحك. فقد غذى كلامه عن العياشي الشكوك التي ولدها في ما قاله لي في بيت بوب تامبل: إنه سيسجل حكاياتي ويترجمها الى الإنكليزية ويبعث بها الى أميركا. وهناك تتحول الى كتاب مثل كتاب العياشي وقد تدر عليّ هذه العملية بعض المال. كتمت هذه الشكوك وقلت لبول: "أنا أعرف العربي. وهو رجل أمّي، لا يعرف حتى أن يوقع بإسمه فكيف يكتب كتاباً؟"، واستطردت محدثاً نفسي: "يمكن هذا النصراني ولد الحرام تيلعب شي لعبة. ولكن نجرب معه وعيني عليه. كل شيء يتعرى في الأخير". قال لي بول: "منذ تعرفت على العياشي على شاطىء مرقالة طنجة وهو يحدثني عن بعض تفاصيل حياته المثيرة. ولما تبيّن لي أنها تصلح للنشر أخبرته بذلك فوافق. ومن يومها ظل يتردد على بيتي ليسجل قصته وقمت بترجمة كلامه الى الإنكليزية فكان هذا الكتاب الذي أمامك الآن! بل "أنجب" هذا الكتاب كتباً عدّة واحد بالألمانية، وآخر بالفرنسية... كيف ومتى كانت خطوتك الأولى في عالم الحكي؟ - لما عرفت كيف أشغل آلة التسجيل انصرف بول وتركني وحدي. قضيت فترة الغروب كلها وأنا أحكي قصصي وخرافاتي، ولم أنتبه الى نفسي إلا وقد دقت الساعة التاسعة ليلاً. وقد حكيت طيلة ذلك الوقت خمس عشرة قصة. كان الصيد وفيراً أليس كذلك ]ضحك[. هل تذكر تلك القصص أو الحكايات التي سجلتها خلال تلك الجلسة الأولى؟ ما هي مواضيعها؟ ما عناوينها؟ - كل تلك الخرافات التي سجلتها خلال تلك الجلسة الأولى توجد في كتاب "محشش" 1969 فقد ترجم بول بمساعدتي تلك الخرافات وظللنا نبعث بها الواحدة تلو الأخرى الى عدد من المجلات التي قبلتها جميعها وحصلت على تعويض مادي عن كل خرافة من تلك الخرافات. بعد ذلك عمدنا الى جمع تلك الخرافات في الكتاب المشار اليه أعلاه. ما هي قيمة التعويضات التي حصلت عليها عن كل قصة من أصحاب تلك المجلات؟ - أنت تعلم أن تلك المجلات تتفاوت من حيث القيمة والأهمية. فهناك من دفعت خمسمئة دولار مقابل خرافة واحدة وهناك من دفعت مئتي دولار أو مئة دولار... وما هو أكبر تعويض حصلت عليه من تلك المجلات؟ - هو التعويض الذي دفعته مجلة "رولينغ ستونز" فقد بعثت لي بشيك قيمته ألف وخمسمئة دولار. هل كنت تقتسم هذا التعويض مع بول بولز باعتباره مترجم تلك النصوص؟ - لا. كنت أحصل على التعويض وحدي، ولم يكن بول يحصل منه إلا على خمسين درهماً وأحياناً يحصل على مئة درهم. لماذا؟ لأنه كان كلما رويت قصة يعطيني خمسين درهماً، وأحياناً مئة في شكل قرض من جهة، وتشجيعاً لي من جهة ثانية لإقناعي بأني أقوم بعمل حقيقي. وكنت أعيد له قرضه عند الحصول على مقابل الحكاية من كل مجلة على حدة. أعتقد أن هذا التعويض المادي مقابل قصصك/ خرافاتك شجعك على الاستمرار في رواية أعمالك؟ - نعم، إييه. مباشرة بعد ذلك قلت لبول: "إني أريد أن أكتب رواية". فضحك من أعماقه. أضفت قائلاً: "أعني أكتب خرافة طويلة، قصة طويلة". وفهمت لماذا ضحك. فأنا لم أكن أعرف يومها ما معنى رواية أو قصة أو لا أعرفه حتى اليوم إلا بشكل عفوي. وافق بول قائلاً: "لنجرب ماذا ستعطي المحاولة". وغروب ذلك اليوم قررت الشروع في العمل. بسملت. شغلت آلة التسجيل. أنزلت الميكرو أمامي وأمليت الجملة الأولى على الآلة. وبعد ستة أيام من العمل أنهيت قصة محمد بطل الفيلم ضاحكاً وقد سميتها الحب ببضع شعيرات 1967. هل اشتغلت على هذه الرواية خلال الأيام الستة في نهاراتها ولياليها؟ - لا. لقد اشتغلت عليها خلال فترات الغروب والمساء فقط. روايتك الثانية كانت بعنوان "الليمون" 1969 واستوحيت كثيراً من أحداثها من تفاصيل حياتك. فهي تتطرّق الى رحلتك الدراسية القصيرة جداً، بين أرجاء الكتّاب أو داخل المدرسة، بينما كان الشارع هو فضاء دراستك الرئيسي والحقيقي. - نعم. هناك جزء من حياتي في الجامع الكتّاب وجزء آخر في المدرسة. في الحقيقة، أنا لا أفكر أبداً في القصة بكل تفاصيلها قبل أن أبدأ سردها. أفكر، فقط، في بداية القصة وفي نهايتها ثم أقول لنفسي: "باسم الله" وأشرع في سردها. وعندما أملي نحو عشرين كلمة من الحكاية تبدأ الكلمات تتسابق الى لساني وتخرج من فمي وحدها بقدرة الله. فأقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". كما تعلم، دخلت الجامع وقرأت القرآن وحفظت منه ما تيسر لي حفظه. وقد أمضيت في الجامع مدة طويلة، ثم فُتحت مدرسة، وكنت كبير السن، فقال لي الوالد رحمه الله: "يجب أن تذهب الى المدرسة لتتعلم الفرنسية"، التفتُّ نحو الوالدة مستنجداً بها قائلاً: "يِما لقد استحال عليّ فهم العربية فكيف يتيسر لي فهم الفرنسية؟"، لكن الوالد لم يرحمني بل أخذني الى تلك المدرسة. ماذا أقول لك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كان المعلم شيخاً فرنسياً. والدروس مقيتة ولا معنى لها. كنا نقرأ: واحد، اثنان، ثلاثة... ينطق المعلم بهذه الأرقام ثم يكتبها على السبورة ويطلب منا أن نمعن النظر فيها. وفي الأخير يمحو الأرقام ويأمرنا بكتابتها في ثواني معدودة. وكان يراقب ما نكتب. عندما كان المعلم النصراني يصل بمحاذاتي يجد صفحة دفتري بيضاء لم أخط عليها شيئاً، ويجد القلم موضوعاً في مكانه الخاص به فوق الطاولة فيعلم، بلا ريب، أنني أعتبر نفسي خارج المنافسة. كان يقول لي: "ما معنى هذا؟" فأقول له: "هذا ما كتب الله..." وظلت الأمور تتكرر مرة بعد أخرى الى أن ضربني ذات يوم بعصا على رأسي فآلمني. قلت لنفسي: "نصراني ولد الحرام يضرب مسلماً؟" جردته من العصا فسقط. أنفت من ضربه. فتحت نافذة القسم وقفزت فإذا بي في الشارع. كانت النافذة تعلو الأرض ثلاثة أمتار ونصف المتر. كذلك دشنت رحلتي المعرفية وكتبت عليّ نهايتها على كره مني. وأحمد الله، الآن، على أن ذلك الإكراه لم يعمر طويلاً. فهل يعتبر الإكراه ضرورياً أيضاً في التعليم، في المدرسة؟ ما يهمنا في هذا الحوار هو أعمالك الروائية وعلى رأسها رواية "المرأة الكبيرة" 1977. ولكن أشير الى أنك نشرت مجموعة بعنوان "الولد الذي أضرم النار" 1964 وحكاية/ رواية شعبية عنوانها "سموم لا تؤذي" 1976 كانت صدرت في بداية الأمر سنة 1975 تحت عنوان "حديدان الحرامي"... - ]مقاطعاً[ لقد أتممت الكتابين "الولد..." و"سموم..." خلال ثلاثة أشهر تقريباً. وقد كنت مريضاً طيلة تلك الفترة. وعندما صدر كتاب "حديدان الحرامي" كنت طريح الفراش في المستشفى. وقد أحضر لي بول نسخة من الكتاب وأنا هناك. في معظم كتبك نعثر على ملامح من سيرتك تعمل على تذويبها في ثنايا النص، لكنك سنة 1976 نشرت سيرتك الذاتية في عنوان "انظر وامش". - في الواقع لا أعتبر هذا الكتاب سيرة ذاتية بل هو يتطرّق لفترة قصيرة من حياتي. ألا تتعرض السيرة الذاتية لمجمل حياة الإنسان؟ أذكر أني كتبت ذلك الكتاب كله قرب البحر. كنت أخذ لوازم العمل وأختار أماكن لا يرتادها أحد وأشرع في العمل. كان ذلك خلال ساعات النهار. وقد استغرق العمل فيه شهرين كاملين... وعلى رغم أن الكتاب يعتبر - حسب اشارة الناشر على الغلاف - سيرة ذاتية - فهو حفل بالأحداث الخيالية. في روايتك "الزواج بالأوراق" 1986 نكتشف ملامح من سيرتك... - ]مقاطعاً[ يبدو لي أنك تبحث دائماً عن حضور الكاتب في قصصه! أما أنا فأقول أنها قصة خيالية. فهي تروي تفاصيل حياة انسان متزوج يعيش في دوامة. تديم زوجته المشاكل وتطالب على الدوام بالمال. أما الزوج فيمضي معظم وقته جالساً أمام آلة التسجيل يسجل كلامه مطمئناً زوجته: "اصبري...". المرأة تغار. تقتلها الغيرة. قد تكون على حق لأنها ترى زوجها محاطاً بنصرانيات فاتنات، فتعتقد أنه... الغيرة قد تكون شيئاً طبيعياً ولكن يا للخسارة! يجب أن لا تكون هناك غيرة أو يجب أن لا نتركها توجه سلوكنا. يجب أن نقضي على الغيرة لأنها تقضي على الإنسان فينا. ما الغرض من احترافك حكي القصص؟ - لعل الغرض الرئيسي من احتراف الحكي هو الفلوس. كنت من دون عمل، وكنت من ضحايا العمل غير المنتظم. وأنت تعلم أني مارست كل المهن: طباخ، ونادل و"برمان" وبستاني ومنظف بالوعات، وبناء وصياد... وكلها سبل للتحايل على العيش... ثم تزوجت ووجب عليّ أن أعيل المرأة وأؤدي ثمن الإيجار والكهرباء والماء... ووجب عليّ أيضاً أن أؤثث البيت الذي كان خالياً "يصفر" إلا من سرير النوم. ثم وجبت مواجهة مصاريف جديدة: حبلت المرأة وجاء الأبناء... ولما تعرفت على بول بولز، وعلمت أن كل قصة يمكن أن تدر عليّ مقابلاً لا بأس به يمكنني من التغلب على مطالب الحياة اليومية المتزايدة باستمرار اجتهدت لأحكي أكبر قدر ممكن من "الخرايف" الحكايات أو القصص القصيرة ليتضاعف أجري. كنت أحياناً أحكي "خرايف" عدّة في اليوم الواحد، بل رويت رواية خلال بضعة أيام فقط. يمكن اعتبار الفلوس الدافع الرئيسي لاحترافك حكي القصص. ولكن ألا يمكن القول إنك قد تسعى من خلال قصصك، الى تنبيه الناس الى بعض أخطائهم أو توعيتهم ببعض سلبياتهم وبذلك قد يلعب أدبك دوراً إصلاحياً. - في الحقيقة الإصلاح مزيان والنهي عن المنكر واجب، ولذلك قال أسيادنا العرب: "انهيه، انهيه" ولكنهم أضافوا: "وإذا ما حشم سر وخليه". ومعنى هذا أنه من الصعب اصلاح الناس. فالمصلح هو الله، والهداية من نعمه، ومن أحبه الله هداه. من الصعب أن يهدي الإنسان أخاه الإنسان، فمن لم يخف الله لا يمكن أن يخاف من انسان مثله إلا إذا كان منافقاً والمنافق لا يعتد به. في الحقيقة لم أهدف الى الإصلاح في "خرايفي" ولا فكرت فيه أبداً. فالحق يعرفه كل الناس وكذلك الباطل منذ أن أنزل الله على عباده القرآن الكريم. كل ما أريد أن أحققه من وراء قصصي هو امتاع الناس والتخفيف من آلامهم. كيف تختار عناوين نصوصك؟ - اختيار العنوان يكون دائماً نابعاً من النص ذاته. أحياناً يخطر في بالي أكثر من عنوان للنص وأنا أشتغل عليه وعندما أنتهي منه يكون الرأي قد استقر على أكثر تلك العناوين دلالة على مضمون القصة. وفي الغالب أختار العنوان عندما أنتهي من النص ويعجبني دائماً العنوان غير المسبوق. وكيف تختار أسماء شخوص نصوصك؟ - أختارها بعفوية ومن دون سابق تفكير. في الغالب أختار الأسماء من الواقع أي أختار أكثر الأسماء تداولاً في المجتمع. يلاحظ أنك لا تعنى كثيراً بوصف شخوصك. - في الحقيقة، لا تهمني الشخصية في حد ذاتها بل يهمني الحدث الذي سيترتب على تحركها وعلى ما تقوم به. إن كأس الشاي الذي بين يديك الآن يمكن تحويله الى شخصية فاعلة انطلاقاً من الوظيفة التي يسخر للقيام بها داخل الحدث. فقامة الشخصية لا تهمني أحياناً كما لا يهمني، دوماً، لباسها، بل يهمني الدور الذي أسنده اليها والحدث الذي يترتب على ذلك الدور. تروي أنت النص وبمعيتك يقوم بول بولز بترجمته الى اللغة الإنكليزية. لو سألتك عن نص "المرأة الكبيرة" كيف تم ترقيمه ومن قام بذلك، ثم من قام بتقسيم الرواية الى فصول؟ - في الحقيقة بول هو الذي يقوم بترقيم النص بينما أقوم أنا بتقسيمه الى فصول. فكلما انتهيت من تسجيل فصل أقول هنا انتهى هذا الفصل. ولا شك أن بول يحترم تقسيمي هذا. رواياتك "الحب ببضع شعيرات" و"الليمون" جميلتان وممتعتان وعميقتان وتتفقان في كونهما تقدمان عالمهما المحكي من منظور طفلين لم يكملا عقدهما الثاني وفي كونهما تقدمان مدينة طنجة كفضاء للمواجهة بين الحضارات والثقافات. في حين أن رواياتك الثلاث الأخرى "مقهى الشاطىء" و"الصوت" و"الزواج بالأوراق" رغم كونها روايات قصيرة تعتبر ساحرة وآسرة. لكن روايتك "المرأة الكبيرة" تعتبر، بالنسبة إليّ، أروع ما كتبت أو أنتجت. من أين استلهمت فكرة هذه الرواية وكم استغرقت من الوقت في انشائها؟ - كنت ابن سبعة عشر عاماً وكنت أذهب لزيارة عمتي في منطقة "المصلى" في طنجة. ولما زرتها ذات مرة وجدت عندها شابة جمالها فاتن. لم أرَ في حياتي، حتى الآن، جمالاً يضاهي جمالها. كانت تلك الشابة تعاني مما نسميه عندنا "بمرض الزين". وبعد أسبوع - من ذلك التاريخ - عدت لزيارة عمتي وسألتها عن تلك الفاتنة، فقالت: "قبل يومين فقط مشطت شعرها وزينت وجهها، صعدت الى سطح البيت وقفزت باتجاه الأرض. رحمها الله" اعتمدت هذا الحدث وانطلقت منه وأضفت كل البقية. انها صنعة القصة. وهي هبة من الله تعالى... وقد استغرقت ثلاثة أشهر في انجاز رواية "المرأة الكبيرة". هل يمكن أن نقول ان كتابتك لهذه الرواية تعتبر محاولة لطرد روح تلك الشابة الفاتنة التي رأيتها ذات يوم في بيت عمتك فانبهرت بجمالها؟ وهل يمكن أن نقول إن كتابة الرواية تعتبر تعويذة دفعاً لذكرى تلك الفاتنة أو ربما تخليداً لصورتها وذكراها؟ - أنت على حق، وإنك لتصف مشاعري كما لو أنك تطل عليها من مكان ما. في الواقع، لقد هيمنت تلك الفاتنة على مشاعري وعلى ذاكرتي. صاعق لقاؤها وصاعق جمالها. إني شاهدت الجمال في مختلف دول أوروبا وأميركا ولم أرَ جمالاً يضاهي جمالها... كان شعرها عندما ترسله يغطي خاصرتها. رأيتها مرة واحدة. كان اللقاء شبيهاً بالرؤيا، ورغم ذلك سكنت ذاكرتي. لقد كانت رواية "المرأة الكبيرة" أصعب رواية "كتبتها" إذ أنفقت في انجازها ثلاثة أشهر كاملة. وأذكر أنني كتبتها في ثلاثة أماكن مختلفة. كتبت قسماً منها في بيتي، وقسماً آخر في بيت بول وقسماً ثالثاً في شاطىء أشقار. كان ذلك خلال فصل الشتاء. كنت أحمل معي، الى هناك، آلة التسجيل وآخذ مجلسي داخل كهف غير بعيد من البحر. كنت أوقد النار داخل كانون للاستضاءة والتدفئة وأشغل آلة التسجيل وهدير الأمواج يهيمن على الحواس ثم أشرع في الإملاء... رواية "المرأة الكبيرة" يخيم عليها العنف والرعب والقسوة. - بالفعل. فهناك الجنين الذي تمثل به الأم، والمرأة - رشيدة - التي جرحت وجهها ونهديها... والزوج الذي يجامع زوجته وهما يفترشان كفناً مضمخاً بالدم. ما العمل؟ ذلك هو الأدب كما يقول المتعلمون. ورغم ذلك أو بسبب ذلك فقد أعجبت هذه الرواية كثيراً من الكتّاب وعلى رأسهم بول بولز. - نعم. فقد فرح بول بميلادها وبترجمتها وباستقبالها في أميركا وانكلترا. وأذكر أن تنسي وليامز عندما زارنا في طنجة قادماً من سان فرانسيسكو كاليفورنيا حمل معه نسخة من "المرأة الكبيرة" وطلب مني أن أوقعها - بعد أن أهداني وردة - قائلاً: "إنه كتاب رائع". وأذكر أن وليام بورووز أبدى اعجابه بهذه الرواية ممتدحاً حجم الخيال فيها. وتعلم أن كيفن لامبرت ترجم إعجابه بها الى واقع ملموس وذلك عندما كتب سيناريو رائع انطلاقاً من تلك الرواية.