اكثر من عشر سنين مرت عليها في الغربة وهي لم تستطع التعود على حرارة الجو ورطوبته. يتغلف جسدها بطبقة من الدبق تجعلها تتضايق، تتقزز، تستحضر آلام الغربة قسراً. تبدأ الوحدة تنفث سمومها بخبث بطيء، تستحيل ذرات، تصبح هلاماً خانقاً يتفاعل مع هواء ماء حمام ساخن يسود كل مكان تلجأ اليه، يخنقها، يقتل احلامها الصغيرة في رؤية مكان بارد جديد تسافر اليه. لماذا تقضي الرطوبة الساخنة على الهدوء في نفسها؟ للرطوبة علاقة ما بضيق النفَس، لكن ما علاقتها بضيق النفْس؟ تسحق صدرها بثقل لا يمكنها تحمله، ها هي تلجأ كالعادة الى الماء البارد لتزيل لا جدار العرق فحسب بل ثقل الرطوبة التي استحالت الى كآبة تكاد تزهق روحها. ارتعشت، كان رشاش الماء بارداً، أول شيء فعلته غسل دموعها، احسست بالانتعاش يسري في بدنها، كانت تفكر بالبقاء مدة اطول تحت الماء البارد، لكنها سمعت الهاتف يرن. سارت بهدوء كي لا تزلق وهي تلف جسدها بالمنشقفة والمياه تقطر من شعرها على أعلى صدرها. كانت المكالمة خارجية، تدفق صوت اخيها مرحاً وهو يسلم عليها، سرت اليها السعادة، ضحكت: أستجلب لنا قليلاً من هواء اسبانيا البارد فتنعشنا؟ ضحك اخوها: "لا يبيعون هنا بالونات هواء". انا وسعدون وعبير نشعر بالغربة، لا نستطيع السفر، لم يبق احد هنا، كلهم سافروا، الحر شديد والرطوبة تخنق... متى ستأتي؟ ضحك اخوها: "لا تجعليني أبكي". قهقهت: سلامة عينيك من البكاء. اسمعي اتعرفين اسماعيل صديقي؟ تسمرت عيناها في الأرض، اي اسماعيل؟ صديقي الذي استشهد في جبهة سوسنكرد سنة 87. هه تذكرت الآن، من دون شعور تدفقت الدماء في وجنتيها، ألهبت كل جسدها. كانت تجلس على السرير، امام المرآة، وكانت خصل شعرها المبللة تتدلى على صدرها، وكانت قطرات الماء ما تزال عالقة بذؤابات الشعر المبردة. انتعشت الذكريات، تنفست نسائم الربيع على كورنيش شط العرب، اي لحظات سعادة انغمرت كالشلال؟ قفزت من مكانها آلاف الكيلومترات نحو الشمال، اليو كالبتوس العملاق على كورنيش شط العرب يضوّع الكون برائحته القوية، ازهار شجيرات الدفلى، ورود الملكة الصفراء الكبيرة، ورود الزينة، سفن الهند الخشبية تصطف امام الشاطئ، نسائم الربيع اللذيذة تملها فوق السحب. قال لها ابوها: انتظريني سأوصلك ما يزال هناك متسع من الوقت للدوام. فقالت له: احب ان أتمشى عشر دقائق في الكورنيش قبل ان اصل الى الطبقة العبّارة. كانت تشعر بسعادة لا توصف منذ ان تخرج من البيت والى ان تصل الى مدرستها، في الطبقة تنتظرها زميلاتها اللواتي يدرسن معها ليعبرن النهر معاً. متى انتبهت الى ان هناك خطوات تسير وراءها؟ لم تدر، قرب بيت المتصرف الذي يقع في نهاية شارع الكنيسة احست بها، لم تجرؤ على الالتفات، كان الشارع خالياً في مثل تلك الساعة من الصباح، لم تر منذ خمس دقائق والى حد تلك اللحظة سوى سيارة واحدة تمرق، ومن بعد نحو مئة متر هناك شبح امرأة تظهر وتختفي بين الاشجار، اسرعت فأسرعت الخطوات تتبعها، ثم أبطأت في مشيها فخففت الخطوات وقعها كذلك، كأنها تحرص على ان تبقي مسافة معينة بينهما. تدفقت الدماء في وجنتيها، احسست بالحرارة تلهبهما، تحرق جسدها، لكنها تشجعت، التفتت، شاب أنيق أسمر، عيناه سوداوان واسعتان ضاحكتان، وسيم نحيف يسير وراءها على بعد بضعة امتار. اخذ قلبها يخفق في عنف، بدا الشاب بابتسامته الخفيفة بعيدا غير مهتم بها، ينظر امامه الى شيء ما لم يكن بالتأكيد هي. علمت انه يتعمد اهمالها، مع ذلك ازداد اضطرابها، عبرت الى الضفة الاخرى، اصبح جدار الكورنيش الذي يفصل ماء النهر يلامس تنورتها الزرقاء وأحست بنوع من الامان وهي تشاهد زميلتها عزيزة تسير امامها وإن كانت على بعد الا انها في وقت الحاجة ستكون قادرة على نجدتها اذا هجم عليها، هذأ روعها بعض الشيء، لكنها احست به يعبر الشارع وراءها. اضطربت من جديد، يجب عليها ان تفعل شيئاً، اي شيء، تصرخ، تستغيث، لكنها لم تفعل. كانت تسير حذو المراكب الهندية، خطواتها مرتعشة وقلبها يخفق بشدة. كانت المراكب هذه مفعمة بالحركة والحياة، تضج بأجساد دكناء. لن يستطيع ان يؤذيها، ان يفعل اي شيء امام كل هذه الاعين. اطمأنت، ظل يسير خلفها، وظلت تخاف ان تلتفت نحوه. تنفست الصعداء، وصلت بر الأمان، كانت هناك معلمتان من زميلاتها وصلتا قبلها، لاحظت عزيزة اضطرابها، سألتها باهتمام، فتدفقت الكلمات من شفتيها تشرح الامر، لكنه لم يتعرض لك؟ لا، لم يقل اي كلمة؟ لا، اذاً... فلم الخوف؟ كان الشارع خالياً خشيت ان يمسكني، ان يؤذيني. ايتها المجنونة! ايمسك احد فتاة في الشارع؟ نسيت الأمر، حتى انها لم تتذكره عند الغداء حينما تجتمع يومياً مع امها وأخواتها. لكنها في الأيام التالية، طفقت تحس بالخطوات تتبعها، من ان يخرج، اين يختبئ؟ لم تدر، كل الذي تعلمه انها ما ان تتجاوز بيت المتصرف حتى تسمع وقع الخطوات المألوفة، ايقاعها الرتيب، لكنها لم تنظر اليه ثانية. ظل الانطباع الأول عنه في مخيلتها: اسمر، أنيق، وسيم، ذو عينين باسمتين سوداوين. كان حجمه يكبر يومياً بهالة من تعليقات الزميلات: الأسمر الذي وجد ظله، المحب الصامت. لكنه بعد نحو شهر اختفى، اختفى بعد ان اعتادت عليه، وباختفائه فقدت ظلها لا ظله، فقدت البهجة وتسلية التعليقات التي عاشت حلاوتها بكل تفصيلاتها. آنذاك بدأت تعليقات معاكسة: ذهب ولم يعد، ذهب مع الريح، يا خسارة قصة انتهت في فصلها الأول... كانت تضحك وقبلها يدمي، بعد ذلك ولأيام لا تحصى كانت خطواته تدق الأرض برفق في داخلها ما ان تتجاوز بيت المتصرف، ترافقها في سيرها، تسرع وتبطئ وتتوقف كما تفعل هي، حتى الطبقة. لكن ذلك لم يكن الا وهماً، لم يظهر من جديد. وحينما تفكر بسبب انقطاعه لم تقع على العلة قط، اكان يوم اختفائه استثناء او غير طبيعي في حياتها؟ تألمت بعمق، لكنها لم تدع احداً يطلع على جرحها، اي أحد. قال لها اخوها سأرافقك حتى بيت المتصرف، ومن هناك سأذهب الى القنصلية لأجل التأشيرة. ثم ودعها، سارت وكلها آذان صاغية، انتظرت ان تسمع الخطوات ولكنها لم تسمع شيئاً، لا في ذلك اليوم ولا في الأيام التالية. كانت وحدها تسير، تتلفت علها تراه، اختفى. ارأى اخاها وخشي من المجابهة؟ أإنسحب من المعركة قبل ان تقع؟ فقط لو عرفت لماذا انسحب؟ لماذا اختفى فجأة كما ظهر؟ كان السؤال يحيا في الليل حينما تأوي الى فراشها، يطرق مسامعها برنين صاخب ذي ايقاع مؤلم، كم بلل الدمع وسادتها! ثم فجأة اخذت تضحك على نفسها، أيمكن ان يكون قد أثر فيها الى هذا الحد؟ حتى انها لم تتبادل معه أي كلمة، لابل لم تلتق عيونهما سوى مرات معدودات. كل ما كان بينهما رنين صوت اقدام ذات ايقاع رتيب ومعتاد على اسفلت اسود، ترى هل بقيت آثار قدميه على اسفلت الشارع؟ يا لتفاهتها! وبعد ان تزوجت بعشر سنين، وحينما عاد اخوها من الدراسة في الخارج، سمعت غير مرة انه يتبادل الدعوات مع صديق كان يدرس في الخارج معه. وتردد اسم اسماعيل مرات عدة، ثم فجأة رأته، كما ظهر في الكورنيش، لكنه هذه المرة مع زوجته الاجنبية على العشاء عند اخيها. آنذاك بدا رجلا لا يمت الى الماضي بأي صلة، حتى انه لم ينظر اليها اي نظرة ذات معنى. لم تهتز لمرآة قط لكنها احست بالذكرى تدفع بالدماء الى وجنتيها. كانت الذكرى منفصلة عنه، تعود لها وحدها، ملكها هي لا يشاركها فيها احد حتى هو. لكنها ودت من كل قلبها كما في آخر صفحة من انفعالاتها السابقة ان تعرف فقط لماذا انسحب فجأة. أدارت ظهرها لكي لا تلتقي عيونهما. وبعد مدة طويلة اخرى، حينما سمعت باستشهاده، حزنت بعمق. لكن حزنها لم يرافقها طويلاً كما رافقها السؤال الملحاح ذو الرنين الصاخب الذي يدق صدغها بقوة فيكاد يخرج عينيها: ما سبب اختفائه فجأة؟ ذكرى... اما زلت على الهاتف... ما لك سكت؟ ضحكت: اني اسمعك ماذا تريد ان تقول؟ ابن اسماعيل؟ نعم، ماذا به؟ في تلك الحفلة في بيت اخيها وعندما واجهته للمرة الأولى تركز انتباه الجميع على ابنه عماد، ابن اسماعيل، كان اسمر وسيماً يشبه أباه في كل شيء الا ان عينيه كانتا خضراوين كعيني امه لا سوداوين كعيني ابيه. اخذ الطفل يلعب مع ابنها، انسجما حتى ان ابنها طلب منها في اليوم التالي ان تأخذه الى بيت اسماعيل ليلعب مع ابنه. بصعوبة اقنعت ابنها باستحالة ذلك. ذكرى... أين انت؟ أتسمعيني؟ ضحكت من جديد: اني اسمعك، اتذكر ابنه، لكني نسيت اسمه. عماد. نعم عماد... ما به؟ عماد بن اسماعيل سيتصل بك اليوم او غداً. من اين يتصل؟ سيكون قريباً عليك، في دبي، ولماذا جاء؟ أهذا سؤال يا ذكرى! لماذا اخرجت ابنك الى أوروبا؟ أيوجد غير النجاة بالروح! عندما كان يلعب مع ابنها ظهراً كأنهما في السن نفسها، ابنها الآن في التاسعة والعشرين، اي انه اكبر من أبيه عندما لعب لعبة مطاردتها، ترى له وسامة أبيه؟ أأقطع المكالمة وأعود لأتصل بك من جديد؟ لماذا؟ ما هذا الانقطاع؟ منك او من خطوط الهاتف؟ في الصيف تؤثر اشعة الشمس في الاقمار الصناعية. ذكرى؟ نعم اني اسمعك، سمعت صوت ضحكته من بعيد، ضحكت هي الاخرى، لكني لم أفهم ماذا تريد؟ اسمعيني... تعلمين انه ليس له قدرة على العيش في فندق، أبقيه عندك، سأجيء بعد أسبوع، وجدت له عملاً، أتريدين أن اكلم سعدون؟ ذكرى... بدأت الخطوط ترتبك من جديد، سأتصل بك مرة اخرى، لا... لا... اسمعك... لا حاجة للاتصال بسعدون، سأخبره أنا... أترينه سيوافق؟ لم لا؟ في أمان الله... لشد ما تطوي الأيام صفحاتها بلا مبالاة، ما هذا العبث؟ كاد يمحى من القلب فلم يعود الآن؟ لم تدر كم بقيت السماعة في يمناها، لكنها كانت ما تزال تمسّد شعرها، ما زالت طراوة الماء البارد تنعش اهابها، وما زالت الخطوات في الكورنيش تتبعها، وما زال وقع تلك الخطوات يكهربها، يشلها خوفاً ونشوة معاً، وما زالت تحس بالدماء تتدفق في وجنتيها وكل جسدها، نعم... ما زالت تلك اللحظات المحتدمة تلهب مخيلتها بسؤال لا جواب له: لماذا اختفت وعلى حين غفلة؟