(1) قبل ما يزيد على العشرين عاما, وامام حالة من الذهول, سجوه في صندوق خشبي, ثبتوا فتحته العلوية بمسامير من كل الاطراف, وحملوه الى زاوية في البيت وتركوه هناك, يومها اعترض الاخ الاكبر على هذه المعاملة اللا انسانية لاخيه الميت, فالواجب ان اكرام الميت دفنه, تحير الجالسون في كيفية تفسير الامر للاخ, فانتدبوا اكبرهم سنا.. احتضن الاخ بين ذراعيه وهمس في اذنه. اننا نشك في اقوال الطبيب, فاخوك ليس بميت! علت خيوط الدهشة جبين الاخ لكنه سيموت من قلة الهواء؟ لا تقلق.. لقد غافلت الناس وثقبت في الصندوق ثقبين ابتسم الاخ الاكبر ابتسامة تنبيء عن رضا.. ثم راح يصب القهوة للحاضرين. (2) عاد الاخ الثاني من الغربة بعد اتصال هاتفي.. فكر كثيرا قبل العودة فهو يؤمن بان كل الناس سائرة الى الموت وان حضوره لن يغير من الامر شيئا.. لكنه لما سمع والدته تولول وتصيح, اغلق سماعة الهاتف وقرر العودة. امام البيت التقى بمجموعة من الشباب.. سارعوا الى احتضانه وتقبيله, انتحى بآخرهم جانبا وسأله: كيف مات اخي؟ قال الشاب بما يشبه الهمس: تعددت الروايات لكن اقربها الى المنطق تقول انه تأخر في العودة الى البيت في تلك الليلة المشؤومة.. ولما سألته والدتك عن سبب تأخره.. قال رحمه الله: انه دار على كل الاماكن في المدينة فلم يجد شيئا يزيل القتامة التي تغلف قلبه.. وانه قرأ على وجوه الناس حالة من الذهول لا يستطيع احد فك طلاسمها.. وانه كلما نظر في عيني احدهم رأى نفس الحالة التي يعاني منها.. قالت امك: انه وضع رأسه على فخذها وبكى.. وظل يبكي حتى تبللت ملابسها.. ثم سكت فجأة, ولما احست امك ببرودة جسده صاحت بأعلى صوتها فتناسل الناس من كل صوب. هل مات من البكاء؟ هذه هي الرواية التي اقنعتني على الاقل.. لانه ليس من المنطق ان يموت الانسان من الضحك كما في رواية اخرى.. او ليس من المعقول ان يموت الانسان لمجرد ان المدينة تغادر شوارعها في السابعة مساء كما قيل في رواية ثالثة.. او ليس من المعقول ان يموت الانسان لمجرد انه سمع خبرا يتردد في الاذاعة منذ ما يزيد على الخمسين عاما كما في رواية رابعة او ليس من المعقول.... انسحب الاخ الى الداخل ومازال الشاب يردد او ليس من المعقول.. جلس الى جوار الصندوق وامه وقد نسج رواية جديدة لموت اخيه. (3) على مدار ما يزيد على العشرين سنة التي هي عمر رقدته في الصندوق.. كانت الام تمضي اغلب اوقاتها الى جواره.. تقرأ على روحه بعضا من آي الذكر الحكيم, ثم تحضر قطعة من القماش تغمسها في قليل من الماء وتعصرها, ثم تمسح خشب الصندوق, وتنسج رواية جديدة لموت ابنها. (4) في اليوم الاول من القرن الجديد.. جاءت الام بقطعة القماش محاولة ان تمسح خشب الصندوق كعادتها.. لاحظت لوهلة ان الصندوق يتحرك.. ركضت على غير هدى من البيت وقد تملكها الرعب.. نادت على جارتها.. دخلت المرأة السمينة.. اقتربت من الصندوق, بسملت وتسلحت ببعض الآيات الكريمات, لتعود بعد دقائق وقد اصابتها حالة من الهذيان ركضت الاثنتان الى صاحب البقالة المجاورة الذي حضر سريعا.. سحب المسامير من الخشب نهض الابن متثائبا.. فغرت الام فمها وسقطت المرأة السمينة على الارض.. حدق الابن في وجه المرأتين وصاحب البقالة خرج بلا اكتراث امام ذهول الجميع.. مشى في شوارع المدينة وازقتها.. لم يلاحظ تغييرا يذكر سوى ان الناس قد تطاولوا في البنيان, وان النساء اكثر مما ينبغي وان الحدث الذي هجر من اجله الدنيا قد ترسخ وصار جزءا من ثوابت الامة. عاد بعد ثلاث ليال الى البيت وقد استبد به الحزن.. وضع رأسه على فخذ امه التي لم تستفق بعد من الصدمة.. احست بدموعه ساخنة تتسلل الى مسام جسدها.. مسدت شعره بكفها.. حدق في وجهها طويلا ثم نهض فجأة باتجاه الصندوق وتمدد فيه. كاتب من الاردن