اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    الهلال يتفوق على سلسلة الأهلي بعد ديربي الرياض    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    اتفاقية لخدمات النقل الجوي بين كوسوفا والمملكة لتسهيل نقل الحجاج والمعتمرين    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    عن فخ نجومية المثقف    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في جوار الماء
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 1998

كان الثلج الذائب يرشح من الشرفات، والناس يهرعون في الشارع الصغير الذي يفوح دائماً برائحة السمك المقلي. بين الحين والآخر كان لقلق يسف في طيرانه لينخفض، ساحباً ساقيه الشبيهتين بالعصي تحته. الغرامافونات الصغيرة تحشرج ليل نهار وراء جدران الدكان حيث يعمل عمار الشاب، ويعيش. لم تكن هناك في كل المدينة إلا بقع قليلة يكشط عنها الثلج، وهذه لم تكن واحدة منها. هكذا أخذ الثلج يتكوم طيلة شهور الشتاء، الى ان كاد يعلو أمام أبواب الدكاكين.
لكن هذا كان في أواخر الشتاء، والشمس أدفأ. الربيع يكاد يحل، ليبعث الاضطراب في القلب ويذيب الثلوج. ولأنه وحيد في العالم، قرر عمار ان وقت الزيارة الى مدينة مجاورة كان والده قد أسر اليه، ذات يوم، أن أقرباء لهم يعيشون فيها، قد حان.
ذهب الى محطة الباص في الصباح الباكر. كان الظلام ما زال يسود، وجاء الباص الفارغ بينما كان يشرب قهوة ساخنة. وكانت الطريق تتلوى بين الجبال حتى نهايتها.
عندما وصل الى المدينة الأخرى كان الظلام على وشك ان يخيم. كان الثلج هنا أكثر كثافة وهو يغطي الشوارع، والبرد أشد. ولأن عمار لم يكن قد انتبه الى هذا الأمر، لعدم رغبته في ذلك فقد أزعجه ان يضطر الى التلفع ببرنسه الآن بحرص اكثر وهو يغادر محطة الباص. كانت المدينة غير ودية، أيقن من هذا مباشرة. الرجال يسيرون برؤوس محنية الى الأمام، واذا حدث ان اصطدم أحدهم بعابر سبيل، لا يرفع اليه حتى عينيه. وما عدا الشارع الرئيسي الذي كان فيه مصباح مقوس بين كل عدة أمتار، لم يكن يبدو ان هناك أية أضواء أخرى، والأزقة التي تتفرع منه الى الجانبين تغرق في ظلمة فاحمة، أما القامات البيضاء التي تدلف اليها، فتختفي برمشة عين.
"بلد لا خير فيه" قال عمار لنفسه. وامتلأ بالاعتزاز لأنه أصلاً من مدينة أفضل وأكبر من هذه، لكن سروره كان يمتزج بالقلق عندما يفكر كيف سيقضي ليلته في هذا المكان العدائي. تخلى عن فكرة البحث عن أقربائه قبل الصباح، وبدأ يتحرى ليجد فندقاً أو حماماً يمكنه ان ينام فيه حتى يطلع الفجر.
كان المكان الذي ينقطع فيه نظام الاضاءة على بعد خطوات. وبعدها يبدو ان الشارع ينخفض بحدة ويضيع في الظلام. وكان الثلج هنا عميقاً على طول، لم يكشط في أي مكان لتسهيل المرور كما كان بالقرب من محطة الباص. زم شفتيه وأخذ يزفر أنفاسه أمامه على شكل غيوم صغيرة من البخار. وحين عبر في مجال المنطقة التي لم تحظ بالإنارة، وصلت الى أسماعه بضع نغمات كسولة توقع على أوتار عود. كانت الموسيقى تنبعث من مدخل بناية الى يساره. توقف عن السير، وأخذ يصغي. اقترب أحدهم من المدخل من الجهة الأخرى وسأل صاحب العود ما إذا كان "الوقت متأخراً".
قال العازف: "كلا"، وعزف نغمات عدة تقدم عمار الى الباب. قال: "ما زال هناك وقت؟".
"نعم".
فخطا الى الباب ودخل. لم يكن هناك نور، لكنه كان يحس بالهواء الدافئ يهب على وجهه من الرواق الواقع على اليمين. وسار الى الأمام، تاركاً ليده ان تتحسس الجدار الرطب الذي يحاذيه. وسرعان ما ولج غرفة كبيرة ذات اضاءة معتمة لها أرضية من الكاشي. كانت ثمة قامات تضطجع نائمة، هنا وهناك، في وضعيات متنوعة، متسربلة بألحفة رمادية. وفي زاوية نائية كان جمع من الرجال، أنصاف عراة، يجلسون حول منقلة تشتعل، يشربون الشاي ويتحدثون بنبرات خفيضة. اقترب منهم عمار وهو يحاذر ان يتعثر بالنائمين.
كان الهواء خانقاً من فرط دفئه ورطوبته.
قال عمار: "أين الحمام؟".
أجابه أحد الرجال من دون ان يرفع رأسه:
"هناك عند النزلة".
وأشار الى الزاوية المظلمة عن يساره. والحق ان عمار نفسه، عندما تدارك الأمر، أيقن ان تياراً دافئاً من الهواء كان ينبثق من تلك الناحية الى الغرفة. ذهب باتجاه الزاوية المظلمة، وخلع ملابسه، ثم سار ناحية الدفء بعد ان سواها في كومة مناسبة على قطعة من الحصير. كان يفكر بسوء حظه لأنه وصل الى هذه المدينة في الليل، ويتعجب ما اذا كانت ملابسه ستسرق في غيابه. كان يحتفظ بماله في كيس صغير من الجلد له خيط متين يتدلى من عنقه. وإذ تحسس المحفظة الطافية أسفل ذقنه بشرود، كان يستدير ليحدج ملابسه مرة ثانية. لم يبد ان أحداً رآه يخلع ثيابه. استمر يسير. انه سيثير الريبة إذا بالغ في توجسه. قد يشتبك في شجار لا تحمد عقباه.
انطلق من الظلام صبي صغير، في اتجاهه، وصاح به:
"اتبعني، يا سيدي، سأقودك الى الحمام". كان شديد القذارة يرتدي الخرق ويبدو كأنه قزم أكثر منه صبياً. أخذ يثرثر وهو يقوده وينزلان الدرج الزلق الدافئ في الصلام.
"ستنادي على ابراهيم عندما تريد الشاي؟ أنت غريب، مالك كثير...".
قاطعه عمار في الحال:
"ستحصل على فلوسك عندما تأتي لتنبهني من النوم في الصباح. ليس الليلة".
"لكن يا سيدي! لا يسمحون لي بالدخول الى الغرفة الكبيرة، أنا أبقى في المجاز وأرشد الرجال الى مكان الحمام. ثم أعود الى المجاز. لا يمكنني أن أنبهك".
"سأنام قرب المدخل. الدفء هناك أفضل على أية حال".
"سيغضب الأزرق وتحدث أشياء مخيفة. لن أذهب الى البيت أبداً. وإذا فعلت فربما على هيئة عصفور بحيث لا يعرفني أبي أو أمي. هذا ما يفعله الأزرق إذا غضب".
"الأزرق"؟
"هذا المحل ملكه. ستراه، انه لا يخرج أبداً. اذا فعل ذلك ستحرقه الشمس في ثانية مثل قشة على النار. ما ان يخطو خطوة من الباب حتى يسقط في الشارع وقد احترق واسود في تلك الدقيقة. لقد ولد هنا في أعماق المغارة".
لم يكن عمار يولي انتباهاً كاملاً لما يهذر به الغلام. كانا يهبطان دكة رطبة من الحجر، قدماً بعد قدم، ببطء في الظلام، ويتحسسان الجدار الخشن بعناية وهما يتقدمان. كان صوت الماء المتطاير يدنو شيئاً فشيئاً مختلطاً بالأصوات.
قال عمار:
"هذا حمام غريب. هل هناك حوض مليء بالماء؟".
"حوض! ألم تسمع بمغارة الأزرق؟ انها تستمر الى الأبد، وهي ملأى بالماء الدافئ العميق".
وبينما الصبي يتكلم، كانا قد بلغا شرفة حجرية ترتفع أمتاراً عدة حيث يبدأ حوض كبير جداً، ينيره حيث يقفان مصباحان كهربائيان عاريان، ويمتد في العتمة الى البعيد ظلام مطبق. كانت أطراف من السقف تتدلى الى الأسف "تماماً كذؤابات الثلج الرمادية"، فكر عمار وهو يتطلع مأخوذا حواليه. إلا أن الدفء هنا كان جد شديد. وكانت غشاوة من البخار تهمد فوق سطح الماء، صاعدة برتابة، على شكل خيوط نحو السقل الصخري. ركض عبرهما رجل يقطر بالماء وقفز في الحوض. كان آخرون يسبحون في منطقة أكثر استنارة قرب المصابيح، ولا يجازفون قط بالتوغل حيث يهيمن الظلام. كان القفز والصياح ينطلقان بأصداء عنيفة تحت السقف الواطئ.
لم يكن عمار يتقن السباحة. استدار ليسأل الصبي: "هل هو عميق؟".
لكنه كان قد اختفى باتجاه الدكة. خطا الى الوراء واستند بظهره الى الجدار الصخري. كان الى يمينه كرسي واطئ وبدا له ان هناك قامة صغيرة تقف بالقرب منه، في الضوء العكر. راقب المستحمين بضع دقائق. كان الذين يقفون على حافة الماء يدعكون أجسادهم بالصابون في همة شديدة، ومن في الماء يسبحون جيئة وذهاباً في دائرة صغيرة تحت الأضواء. وفجأة خاطبه صوت عميق على مقربة منه. نظر الى الأسفل عندما سمعه يقول:
"من أنت"؟
كان للمخلوق رأس كبير، كان جسده صغيراً لا ساقين له ولا ذراعين. كان الجزء السفلي من الجذع ينتهي بقطعتين من اللحم شبيهتين بالزعانف. ومن الكتفين كان ينبو ملقطان قصيران. كان انساناً وكان يتطلع اليه من الأرض حيث يستريح.
"من أنت؟" قالها ثانية، وكان العداء في نبرته واضحاً لا يخطأ.
تردد عمار:
"جئت لأستحم وأنام"، قال أخيراً.
"من سمح لك بذلك"؟
"الرجل عندالمدخل".
"اخرج من هنا. أنا لا أعرفك".
شعر عمار بالغضب. ورمق المخلوق الضئيل من عل باحتقار، ثم تحرك مبتعداً عنه ليلتحق بالرجال الذين يغتسلون بالقرب من الحافة. لكنه تدبر بخفة، أسرع منه، ان يدفع نفسه على الأرض حتى كان يقف أمامه، عندما انتصب ثانية وتكلم.
"تعتقد بأنك تستطيع الاستحمام عندما آمرك أنا بالخروج"؟
أطلق ضحكة قصيرة ذات صوت رفيع، لكنه عميق النبرة. ثم اقترب أكثر ودفع رأسه ازاء ساقي عمار. فسحب قدمه الى الوراء وعاجل الرأس بركلة، غير قوية، لكنها تملك ما يكفي من طاقة الدفع بحيث يفقد الجسم توازنه. أخذ الشيء يتقلب صامتاً، متدحرجاً، جاهداً بواسطة عنقه ان يمنع وصوله الى حافة المطل. رفع الجميع أنظارهم. كانت على وجوههم علائم الخوف. زعق المخلوق الصغير وهو يندفع عن الحافة، تناثر الماء كأنما من سقوط صخرة كبيرة، وللتو أخذ رجلان يسبحان بسرعة نحو المكان. وانطلق الآخرون خلف عمار، صائحين:
"لقد ضرب الأزرق"!
استدار عمار مذعوراً وحائراً، وركض عائداً الى الدكة. كان يتخبط صعداً في سواد الليل. وخدش فخذه العارية جزء من الجدار. كانت الأصوات التي تلاحقه تزداد صخباً واستثارة.
بلغ الغرفة حيث ترك ثيابه. لم يتغير شيء. كان الرجال ما زالوا يجلسون حول المنقلة، ويتحدثون. التقط كومة الثياب بسرعة وركض نحو الباب المؤدي الى الشارع وهو يعدل برنسه، وبقية ملابسه تحت ذراعه. نظر اليه عازف العود بوجه مذهول وصاح خلفه. انطلق عمار في الشارع كاشف الساقين وغايته مركز المدينة. كان يريد أن يكون حيث الأضواء الساطعة. ولم يأبه به من كان يسير في الشارع، وهم قلة. عندما بلغ محطة الباص كانت مغلقة. فدخل الى منتزه صغير قبالتها حيث كانت منصة الفرقة الموسيقية تنتصب مطمورة بالثلج. هناك على مصطبة حجرية باردة جلس يرتدي ثيابه بأقصى ما يمكن من العادية، مستخدماً برنسه على شكل ستار. كان يرتجف، نادباً بخته السيئ ويتمنى لو أنه لم يغاد بلدته، عندما قاربته قامة صغيرة في النور الضحيح.
قال:
"سيدي، تعال معي. ان الأزرق يفتش عنك".
"الى أين؟" قال عمار وهو يميز صبي الحمام.
"الى بيت جدي".
بدأ الصبي يركض، مؤشراً اليه باللحاق. ومرا في أزقة وأنفاق الى أكثر الانحاء الحافلة بالناس في المدينة. لم يزعج الصبي نفسه بالنظر الى الوراء، لكن عمار فعل، وأخيراً وقفا أمام باب صغير بجانب ممر ضيق. طرق الصبي بشدة على الباب. وجاء من الداخل صوت محطم منادياً: "من يكون؟".
هتف الصبي:
"أنا! ابراهيم!"
فتح الرجل العجوز الباب بتصميم شديد ووقف ينظر الى عمار.
"هيا ادخل"، قال اخيراً، وبعد ان اغلق الباب تبعاه الى الباحة المليئة بالماعز حتى دخلا الى غرفة داخلية حيث كان نور ضعيف يخفق مشتعلاً. وتأمل وجه عمار بصرامة. قال الصبي مفسراً:
"يريد ان يقضي ليلته هنا"
"وهل يعتقد بأن هذا فندق؟"
قال ابراهيم بأمل:
"عنده دراهم"
صرخ العجوز باحتقار:
"دراهم! هذا ما يعلمونك في الحمام. كيف تسرق الدراهم! كيف تنشل الدراهم من محافظ الرجال! وها أنت تأتي بهم هنا! ماذا تريدني ان افعل؟ اقتله وأعطيك محفظته؟ هل هو أذكى مما توقعت؟ ولا تقدر عليه وحدك؟ أهكذا؟".
كان صوت العجوز قد انقلب الى صراخ وهو يلوّح بيديه وقد ازداد سخطاً، وجلس على حشية بصعوبة وغلب عليه الصمت لحظة.
"دراهم"، قال ثانية، اخيراً. "دعه يذهب الى فندق او حمام. لماذا لست في الحمام"؟
ونظر الى حفيده بارتياب.
امسك الصبي بكمّ صديقه، وقال "تعال" وهو يسحبه الى الباحة.
زعق العجوز:
"خذه الى الحمام! ليصرف دراهمه هناك!"
وخرجا الى الشوارع المظلمة، قال الصبي:
"الازرق يفتش عنك. سيمشط المدينة عشرون رجلاً ليقبضوا عليك ويأخذوك اليه. انه حانق جداً وسوف يحيلك الى عصفور".
سأله عمار بخشونة:
"اين نذهب الآن؟".
كان متعباً جداً ويشعر بالبرد. وعلى رغم انه لا يصدق حقاً قصة الصبي، فقد كان يودّ لو انه خرج من هذه المدينة العدائية.
"علينا بالمسير ابعد ما يمكن من هنا، طوال الليل. في الصباح سنكون بعيدا في الجبال، ولن يعثروا علينا. يمكننا ان نذهب الى بلدتك".
لم يجبه عمار. كان يسرّه ان يرغب الصبي في البقاء معه لكنه لم يجد من المناسب ان يفصح له عن هذا. تبعاً شارعاً متعرجاً انحدر بهما حتى تركا وراءهما آخر البيوت وكانا في الضواحي الخارجية. كانت دربهما الآن تهبط الى واد ضيق، وتلتحم بالطريق السيّار في طرف من أطراف جسر صغير. هنا كان الثلج مدعوساً بصلادة تحت عجلات السيارات، ووجدا السير بمحاذاته اكثر سهولة.
عندما كانا قد سارا حوالى الساعة على الطريق في البرد المتفاقم، جاءت شاحنة ضخمة هادرة وتوقفت على مسافة قصيرة أمامهما وسمح لهما السائق بأن يركبا في الخلف. فتسلقا هناك وكوما الأكياس الفارغة على شكل عش. كان الصبي سعيداً بالاندفاع عبر الهواء في ظلام الليل.
كانت الجبال والنجوم تمرق عابرة فوق رأسه والشاحنة تهدر بقوة على الطريق السيار الخالي، وصرخ عندما لم يعد يطيق ان يكتم فرحه:
"لقد عثر علينا الأزرق وقلبنا طيرين. لن يعرفنا أحد بعد الآن".
أطلق عمار زفرة وأخلد للنوم. لكن الصبي بقي يرقب السماء والأشجار وأجراف البحر لوقت طويل قبل ان يغمض عينيه.
قبل الفجر بقليل توقفت الشاحنة عند عين ماء للسقاية.
استيقظ الصبي في السكون. صاح ديك في البعيد، ثم سمع السائق يصب الماء. صاح الديك ثانية، مرسلاً صوته كقوس حزين، نحيل بعيداً في عكرة السهل الباردة. لم يكن الفجر أطل بعد. دفن نفسه في كومة الأكياس والخرق، وأحس بدفء عمار وهو ينام.
عندما عمّ النهار، كانوا في جزء آخر من البلاد. لم يكن هناك ثلج، بل ان اشجار اللوز كانت مزهرة على سفوح التلال التي يمرقون عبرها. استمرت الطريق تنفتح وهي تهبط أكثر، حتى أطلت من التلال فجأة على بقعة في الأسفل كانت تمتد مثل فراغ ساطع عظيم. كان عمار والصبي يتأملانها معاً وقالا لبعضهما انه لا بد ان يكون البحر، المتلألئ في ضوء الصباح.
كانت الريح الربيعية تدفع الأمواج المزبدة نحو الساحل، وتخفق فيها ثياب عمار والصبي باتجاه اليابسة اذ يسيران على حافة الماء. أخيراً وجدا بقعة آمنة محمية بين الصخور، وتعريا، تاركين ثيابهما على الرمل. كان الصبي خائفاً من النزول الى الماء، ووجد ما يكفيه من الإثارة في أن يدع الامواج تتكسر حول ساقيه، لكن عمار حاول ان يجره الى أبعد.
"لا. لا!".
فألح عليه عمار: "تعال".
نظر عمار الى الأسفل. كان سرطان هائل الحجم يقترب منه جانبياً وقد زحف خارجاً من مكان معتم بين الصخور. قفز مذعوراً الى الوراء، وفقد توازنه، وسقط سقطة ثقيلة ضارباً رأسه تلقاء احدى العوارض الصخرية العالية. وقف الصبي ساكناً تماماً يرقب الحيوان الذي يتقدم من عمار بحذر شديد على أطراف الأمواج المتكسرة. كان عمار يضطجع بلا حراك، وعلى وجهه تجري جداول صغيرة من الماء والرمل. وما ان بلغ السرطان قدميه حتى وثب الصبي في الهواء وبصوت بُحّ من اليأس صرخ:
"الأزرق!".
هرع السرطان مكربلاً وراء صخرة واختفى. تألق وجه الصبي. اندفع نحو عمار ورفع رأسه فوق موجة تتكسر، وصفع خديه متحمساً. وصاح:
"عمار! لقد طردته! أنقذتك!".
لم يكن الألم شديداً إذا بقي في مكانه بلا حراك، لذا بقي عمار ساكناً وهو يشعر بضياء الشمس الدافئ، والماء الناعم الذي يغسله والريح المنعشة الحلوة التي تنطلق من البحر. وأحس بالصبي أيضاً يرتعش في محاولته ليحمل رأسه فوق الأمواج، وسمعه يقول مرات عدة مردداً:
"لقد أنقذتك، يا عمار".
وبعد وقت طويلة أجابه: "أي نعم".
ترجمة: سركون بولص


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.