حرص "توني بلير على ألا يخسر وجبة عشاء في معية رئيس وزرائنا، لذا تصرف وفق الأصول التي يحبذها نتانياهو وليس كما فعل وزير خارجيته المشاكس"، هكذا أجمل حامي شليف المعلق السياسي لصحيفة "معاريف" زيارة رئيس وزراء بريطانيا الى اسرائيل. وخلص المراقبون الى ان الزيارة تم إعدادها بشكل محكم لتتوافق مع أهداف نتانياهو الدعاوية و"للتستير عن اخطاء كوك". ويؤكد يوني بن مناحيم المراسل السياسي لراديو اسرائيل باللغة العبرية على الدور الذي قام به الدكتور عوزي عراد المستشار السياسي لنتانياهو في الإعداد لزيارة بلير. ونجح عراد في ثني بلير عن المبيت في غزة كما كان مقرراً في البداية، كما أنه أقنع مكتب رئيس وزراء بريطانيا بعدم القيام بزيارة لمدرسة في "تل ابيب" تحمل اسم اسحق رابين. وعراد الذي كان حتى وقت قريب رئيساً لقسم الابحاث في "الموساد" هو المسؤول من قبل نتانياهو عن العلاقات مع الجالية اليهودية البريطانية. وحسب صحيفة "هآرتس" فإن عدداً من قادة يهود بريطانيا قام بتذكير بلير بالدور الذي لعبه يهود بريطانيا في انجاح حملته الانتخابية، اذ تبرع اليهود بأكثر من سبعة ملايين جنيه استرليني وهو ما يعادل ربع تكلفة الحملة. لم تقتصر لفتات حسن النية من قبل بلير تجاه نتانياهو على برنامج الزيارة، بل تعدته الى الدعم الاقتصادي، وتعهد بلير اثناء اجتماعه مع وزير المال الاسرائيلي يعكوف نئمان بأن يشهد العقد المقبل مضاعفة التبادل التجاري بين اسرائيل وبريطانيا، علماً ان بريطانيا هي أكبر دولة أوروبية مستوردة للبضائع الاسرائيلية، كما انه - وبشكل تظاهري - وعد بصفته رئيساً دورياً للاتحاد الأوروبي بالعمل على انجاز العديد من الاتفاقات الاقتصادية بين اسرائيل والاتحاد الأوروبي. ومن الأمور الملفتة للنظر هو ان تقرر حكومة بلير المشاركة بأنشطة مكثفة في احتفالات دولة اسرائيل في مناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها، اذ ستكون بريطانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي ستقيم معرضاً خاصاً بهذه المناسبة وتبلغ تكاليفه مليون ونصف المليون دولار. تأتي هذه الخطوة وكأنها رد على مطالبة عدد من الطالبات الفلسطينيات اللاتي التقى بهن بلير في غزة بتقديم بريطانيا اعتذاراً لدورها في النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني. إلا أن أكبر خدمة أسداها بلير لنتانياهو كانت تركيزه على ضرورة تحقيق اختراق في مسائل المرحلة الانتقالية الهامشية مثل المطار والمناطق الصناعية والممر الآمن، إذ أن نتانياهو وطاقم مستشاريه كان يبحث عن التركيز على هذه القضايا من أجل التملص من تنفيذ إعادة الانتشار والتقدم بالتالي الى مسائل الحل الدائم. ومن المفارقات ان الموقف الاسرائيلي بخصوص اعادة الانتشار شهد مزيداً من التطرف والتشدد، اذ ان نتانياهو أثناء وجود بلير اعلن بصراحة انه يتبنى موقف وزير البنى التحتية أرييل شارون الذي يرفض اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي في اكثر من 9 في المئة من مساحة الضفة الغربية. واستغل المتحدثون باسم الحكومة الاسرائيلية موقف بلير لمهاجمة السلطة الفلسطينية واتهامها بعدم التعاطي بجدية من أجل حسم مسألة تسلم السلطة لهذه المرافق. ثم جاءت دعوة بلير لكل من الفلسطينيين والاسرائيليين للشروع في لقاءات مع وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت في لندن في 4 ايار مايو المقبل من أجل محاولة جسر الهوة بين مواقف الطرفين، إلا ان خطوة بلير ساهمت في إضفاء مزيد من الغموض والضبابية على المسار التفاو ضي الفلسطيني - الاسرائيلي، اذ ان الوزير الاسرائيلي ميخائيل ايتان أوضح ان نتانياهو سيناقش مسائل المطار والميناء والمنطقة الصناعية، أما في ما يتعلق باعادة الانتشار فإنه نصح الاميركيين والبريطانيين والفلسطينيين بعدم تعليق أي أمل على أي تغيير في الموقف الاسرائيلي. ويسخر حنان كريستال المعلق السياسي لراديو اسرائيل من فكرة عقد لقاء لندن قائلاً: "ان بلير سيمنح رئيس الوزراء نتانياهو مرة اخرى الفرصة ليظهر أمام كاميرات التلفزة العالمية ليؤكد لشعب اسرائيل انه غير مستعد للتوافق مع أي اقتراح سوى الموقف الذي تسمح به خطوط الحكومة الاسرائيلية السياسية. لكن الاقتراح البريطاني بالتركيز على مسائل المرحلة الانتقالية الهامشية لا يخدم فقط نتانياهو، بل ان ادارة الرئيس كلينتون ترى فيها مخرجاً للتخلص من الحرج أمام السلطة الفلسطينية والجانب العربي، فالولايات المتحدة بلورت مبادرة سياسية لتنفيذ المرحلة الأولى والثانية من اعادة الانتشار، وعلى رغم اشتراطاتها الأمنية القاسية قبلتها السلطة الفلسطينية ورفضتها اسرائيل على الفور، إلا ان الادارة الاميركية تحجم عن الاعلان عن بنود هذه المبادرة خشية الدخول في مواجهة مع نتانياهو وحلفائه في الكونغرس والمنظمات اليهودية. لذلك هناك مصلحة في التركيز على قضايا المطار والميناء والممر الآمن وغيرها من قضايا المرحلة الانتقالية الهامشية لأن التركيز على هذه القضايا يبرر التملص من الاعلان عن بنود مبادرتها. وهذا ما أدركه كل من وزير التخطيط والتعاون الدولي نبيل شعث ومدير دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية حسن عصفور اللذان توقعا ان يكرر رئيس وزراء اسرائيل المواقف نفسها. وعلق يوسي ساريد من حركة "ميرتس" اليسارية على لقاء لندن قائلاً: "سيكون من المثير للاستغراب ان يقطع نتانياهو وعرفات آلاف الأميال للتباحث حول المطار والميناء، لكن ما هو أكثر غرابة ان يشغل رئيس وزراء المملكة المتحدة نفسه في هذه الأمور البسيطة". وعبر العديد من المسؤولين في الحكومة الاسرائيلية عن "شماتتهم" من الفلسطينيين لتعليقهم الآمال على الدور الأوروبي في العملية السياسية. وكانت تعليقات وزير العدل الاسرائيلي تساحي هنغبي هي الأكثر فظاظة اذ قال: "ماذا يريد جيراننا الفلسطينيون ان نعمل من أجل اقناعهم بأن توني بلير وبيل كلينتون والعالم بأسره لا يمكن ان يزحزحونا عن مواقفنا الاساسية، وعليهم ان يتحرروا من الوهم، فلم نقم دولة اسرائيل لكي نسمح لأي عنصر اجنبي ان يحدد ما يصلح وما لا يصلح لنا ولأمننا". ونصح داني نافيه سكرتير الحكومة الاسرائيلية بعدم تعليق آمال "خادعة" على أي دور لأوروبا في العملية السياسية. واضاف: "إننا نسمح فقط للولايات المتحدة لأنها مقتنعة بأن لا مجال للضغط على حكومة اسرائيل المنتخبة وتعمل وفق هذه القناعة". ويذكر ان منظري اليمين الاسرائيلي وجدوا في بلير المثال الذي يجب على قادة اوروبا ان يحذوا حذوه. وأشاد بعضهم بصراحة بتحيزه لصالح اسرائيل، وكتب شموئيل سينشر أحد كتاب الأعمدة في صحيفة "معاريف" ومن المحسوبين على ليكود قائلاً: "أرجو ألا يكون الفلسطينيون قد تأثروا كثيراً عندما اطلق بلير لفظ "الرئيس" على ياسر عرفات في المقال الذي نشرته صحيفة "القدس"، فهذه ألقاب خاوية، وعليهم ان يعوا ان بلير غادرهم من دون ان يحل لهم أي مشكلة، بينما يمنح نتانياهو دعماً غير مباشر". كما ان عدداً من أنصار اليمين الاسرائيلي يرون في الاتفاق الذي توصل اليه بلير مع رئيس وزراء ايرلندا بخصوص حل النزاع في ايرلندا الشمالية بمثابة دليل على سلامة الموقف الذي يتخذه نتانياهو من العملية السياسية مع الفلسطينيين، اذ رأى موشيه زاك أحد أبرز الكتاب اليمينيين ان هذا الاتفاق يشكل قدوة لاسرائيل وقادتها، فرئيس وزراء بريطانيا لم يتنازل عن سنتم واحد من مساحة المملكة المتحدة، ولم يتعهد بتفكيك أي من المستوطنات البريطانية في ايرلندا معاريف 20/4/1998. وحتى عضو الكنيست الحاخام بني ايلون المحسوب على أقصى اليمين المتطرف أعرب عن سعادته بزيارة بلير قائلاً: "إنه عندما يتبادل رئيس وزراء بريطانيا الابتسامات العريضة مع رئيس وزرائنا فإن هذا يثبت انه يمكن لقادة اسرائيل ان يكونوا مخلصين لمصالح اسرائيل وان يحظوا باحترام العالم". وصور كاريكاتير في صحيفة "هآرتس" تحيز بلير لنتانياهو عندما ظهر وهو يقود سيارة والى جانبه بلير وتتجاوز السيارة عرفات الذي ينتظر على الطريق من دون ان يسمحا له بالركوب. والدليل الأوضح على الارتياح انه عندما كان بلير يتحدث في المؤتمر الصحافي المشترك عن أهمية النوايا الحسنة في التوصل الى السلام فإن رئيس وزراء اسرائيل هز رأسه موافقاً، الا انه بعد المؤتمر مباشرة توجه من أجل اجراء مباحثات ائتلافية لضم حزب "موليدت" المتطرف لحكومته علماً ان هذا الحزب يرفض كل صورة من صور التفاوض مع الفلسطينيين ويطالب بطردهم الى الدول العربية.