افتتح معظم الصحافيين والمحللين والساسة في اسرائيل تعليقاتهم على زيارة وزير الخارجية البريطانية روبين كوك للموقع الاستيطاني في جبل أبو غنيم باقتباس العبارة الشهيرة التي قالها مدير عام وزارة الخارجية الاسرائيلية في العام 1970 جدعون رفائيل لسفير بريطانيا في اسرائيل انذاك جون برانس "أريد ان اخبرك يا سيد برانس ان المندوب السامي البريطاني قد غادر البلاد في 14 ايار مايو 1948، ولذا يجدر بك ألا تعتقد للحظة واحدة ان الدولة اليهودية يمكن ان تستجيب لأي طلب يتعارض مع مصالحها"، وذلك عندما طلب برانس من رفائيل ان تقوم اسرائيل باطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين من اجل مبادلتهم برهائن بريطانيين كانت احدى المنظمات الفلسطينية اختطفتهم الى مدينة "الزرقاء" الأردنية. لعلها المرة الأولى التي تتجند فيها الصحافة الاسرائيلية للدفاع عن ردة فعل نتانياهو بهذه الصورة على رغم ان هذه الصحافة تهيمن عليها نخبة ثقافية ذات انتماء يساري واضح، ومن يطلع على ما تنشره الصحافة الاسرائيلية يعلم ان سياسة نتانياهو الخارجية والداخلية تحظى دوماً بانتقادات الصحافيين وكتاب الاعمدة البارزين في الصحف الاسرائيلية، الا انهم في هذه المرة هاجموا كوك بصورة قاسية جداً وتفاوتت الاعتبارات التي دفعت هؤلاء لمهاجمته الا ان الاعتبار الوحيد الذي يجمعون عليه هو اعتقادهم ان زيارة كوك "لجبل أبو غنيم" منحت نتانياهو فرصة لكي يتملص من تنفيذ التزاماته السياسية ووفرت له مبرراً لكي يرفض التدخل الاوروبي في العملية السياسية بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. وذلك لأن كوك استفز الاسرائيليين عندما وصف القدسالشرقية بانها جزء من الاراضي المحتلة، ولأن اليسار واليمين في اسرائيل يجمعان على ان القدس بشقيها الشرقي والغربي هي "عاصمة دولة اسرائيل الموحدة"، لذلك كان من اليسير على نتانياهو ان يجبر قادة المعارضة في اسرائيل على اتخاذ الموقف نفسه من زيارة كوك. يقول رئيس قيم الدراسات الاوروبية في الجامعة العبرية ومدير عام وزارة الخارجية وأحد ابرز كتاب الاعمدة في يديعوت احرونوت السابق البروفسور شلومو افنيري "لو كنت أؤمن بنظرية المؤامرة لاقسمت ان كوك قد نسق خطواته مع نتانياهو جيداً، اذ منح كوك نتانياهو أفضل مبرر لاغلاق الباب امام أي مبادرة اوروبية، لأنه اختار ان يثير الجدل على القدس التي لا تختلف الاحزاب الصهيونية على مكانتها كعاصمة موحدة وأبدية لاسرائيل"، وكتب شمعون شيفر المعلق السياسي ل "يديعوت احرنوت" في صحيفته بتاريخ 18/3/1998 "لقد وقع كوك في الفخ الذي نصبه له نتانياهو. فالوزير البريطاني لم يدرك ان نتانياهو يبحث أصلاً عمن يطرح مسألة القدس لكي يمثل دور المدافع الاكثر حرصاً عن يهودية المدينة، لقد اعجب الجمهور الاسرائيلي بالعقاب الذي انزله نتانياهو على كوك عندما قلص الوقت المخصص للاجتماع وألغى مأدبة العشاء الاحتفالية ورفض ان يظهر بمعيته امام الصحافيين، ويواصل شيفر ساخراً "انه يجدر بالوزير كوك ان يلتحق بمدرسة للديبلوماسية"، ويرى شيفر كسائر الصحافيين الاسرائيليين الذين غطوا زيارة كوك ان الوزير البريطاني سيساهم في دفع بناء الوحدات الاستيطانية في "هارحوما" الاسم العبري لجبل أبو غنيم، اذ ان احزاب الائتلاف سارعت لمطالبة نتانياهو بتوجيه رد عملي ل "استفزاز" الوزير البريطاني والشروع في بناء آلاف الوحدات السكنية، اما حامي شليف المعلق السياسي لصحيفة "معاريف" وهو يساري متطرف وأحد أكثر الصحافيين الاسرائيليين انتقاداً لنتانياهو كتب في 17/3/1998 "انني غاضب على كوك لأنه اعطى الفرصة لأولئك الذين تخصصوا في الدفاع عن الكرامة الوطنية الضائعة للعمل ساعات اضافية في مكتب نتانياهو. ان كوك دخل هذا المعترك للاسف - برجله الشمال". اما دان مرغليت احد كتاب الاعمدة البارزين في هآرتس ومقدم احد اكثر البرامج الاخبارية شهرة في قناة التلفزة الثانية كتب مقالاً في صحيفته بتاريخ 19/3/1998 انتقد فيه مرافقة كوك لعضو المجلس التشريعي صلاح التعمري اثناء وجوده في جبل أبو غنيم وتساءل مرغليت "ماذا لو بدأ وزير اسرائيلي زيارته لبريطانيا بجولة في مدينة لوندندري الواقعة بشمال ايرلندا بصحبة ممثلين عن الجيش الجمهوري". ويضيف مارغليت "أضر كوك بمعسكر السلام الاسرائيلي، فلم تجد المعارضة الاسرائيلية بد من تأييد اجراءات نتانياهو العقابية ضد كوك"، وهناك من يقول ان مارغليت الذي تربطه علاقات وثيقة بايهود باراك نصحه بعدم الالتقاء بكوك لكي يثبت انه يذهب أبعد من نتانياهو في الاحتجاج على "استفزاز" كوك. وفسر باراك قراره برفض لقاء كوك قائلاً "صحيح اننا قد عارضنا البناء في "هارحوما" لأن التوقيت لم يكن ملائماً، لكننا نؤمن ان هذا الموقع هو جزء لا يتجزأ من القدس عاصمة اسرائيل الأبدية والموحدة وهذا لا يختلف عليه أحد في اسرائيل". وأكد عضواا الكنيست عن حزب العمل حاييم رامون ويوسي بيلين اللذان التقيا كوك كممثلين عن المعارضة انهما ابلغا الوزير البريطاني رسالة مفادها "في الوقت الذي اتخذت فيه القرار بزيارة جبل أبو غنيم لا يمكن ان تعثر على معارضة في اسرائيل ترى في هذه الخطوة أمراً جيداً". معاريف 19/3/1998. وحتى رئيس اسرائيل عيزر وايزمان الذي سبق له ان حرض اولبرايت علناً الضغط على نتانياهو من أجل مواصلة العملية السياسية وجد نفسه هذه المرة مرغماً على تأييد نتانياهو وانتقاد كوك. وأخبر الصحافيين انه قال لكوك ان تصرفه لم يكن صحيحاً، وأضاف "قلت له: أريد ان اقتبس ما قاله تشرشل، عندما قال: انني أحب ان أتعلم ولكن لا أحب ان يعلمني أحد، ولذا فانني لا أريد ان ألقي عليك دروساً، بل أرجو منك ان تعي بالضبط حقيقة الامور في اسرائيل، ولكي تنجح في اقناع حكومة اسرائيل فعليك ان تغزو قلوب الاسرائيليين، كما فعل السادات، لأنه من المستحيل فرض امر على الحكومة إذا كان الرأي العام الاسرائيلي يؤيدها" معاريف 18/3/1998. واذا كان الساسة والمعلقون اليساريون غاضبين على كوك لأن زيارته لجبل ابو غنيم صبت في النهاية لصالح خصمهم حسب اعتقادهم، الا ان انصار اليمين والحكومة عبروا عن "افتخارهم" لقيام نتانياهو بالغاء مأدبة العشاء لكوك وتقليص وقت الاجتماع. وكتب موشيه زال احد كتاب الاعمدة في معاريف ويؤيد نتانياهو بشكل تقليدي "لقد احسن رئيس الوزراء صنعاً لأنه ذكر السيد كوك ان التفويض الذي كان ممنوحاً لبريطانيا لتتدخل في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني انتهى منذ 50 عاماً ولم تعد بريطانيا الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وكتب زلمان شوفال رئيس الليكود العالمي وسفير اسرائيل السابق في واشنطن وأحد اقرب المقربين لنتانياهو مقالاً في "يديعوت احرونوت" بتاريخ 17/3/1998 اشار فيه الى ان "المسرحية" التي مثلها كوك كانت نتاج خطة اعدها كل من الرئيس كلينتون وصديقه توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ويستذكر شوفال ان اتصالات تليفونية مكثفة بين بلير وكلينتون سبقت زيارة كوك للمنطقة، ويرى شوفال ان الادارة الاميركية ونظراً لاعتبارات داخلية تتعلق بالرئيس كلينتون لا تبدي حماساً لعرض مبادرة خاصة بها لكي لا تغضب الكونغرس والمنظمات اليهودية. لذلك تريد ان تقوم اوروبا بالدور". ويواصل شوفال تفسيره لقيام بريطانيا بطرح مبادرة اوروبية ويقول "ان المبادرة البريطانية تنص على اعادة الانتشار في 20 في المئة من المنطقة "ج" في المرحلة الثانية من اعادة الانتشار مع عدم التنازل عن المرحلة الثالثة مع وقف الاستيطان. ولأن كلاً من كلينتون وبلير يعتقدان انه لكون هذه المبادرة تطالب اسرائل بتقديم تنازلات كبيرة فان نتانياهو قد يخضع ويقبل افكار الادارة الاميركية التي تطالبه فقط باعادة الانتشار في 13.1 في المئة من مساحة الضفة الغربية". ويعرب شوفال عن ارتياحه "لأن خطوة كوك "التظاهرية" في جبل ابو غنيم "أفسدت المؤامرة الاميركية - الاوروبية، وأظهرت اوروبا كوسيط غير منصف ويتبنى مواقف احد الاطراف". وذهب افيغدور ليبرمان مدير مكتب نتانياهو السابق الى ان حث افراد اللجنة المركزية لحزب الليكود على دعوة قادة الجيش الجمهوري الايرلندي لزيارة اسرائيل، وقال ليبرمان في اجتماع حزبي "يجب ان نقول للوزير البريطاني، انصرف من هنا فانت انسان غير مرغوب فيه"، وامتدحت صحيفة "هتسوفيه" الناطقة بلسان حزب "المفدال" الديني الصهيوني المشارك في الائتلاف الحاكم "الآنفة القومية التي ميزت ردة فعل نتانياهو على استفزاز كوك"، ولم يفت اهارون دومب مدير عام مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ان يشدد على "اعتزازه بقيادة نتانياهو التي تجسد المحافظة على المصالح القومية للأمة اليهودية" كما قال في حديث مع راديو اسرائيل. اما نتانياهو فأكد في مقابلات تلفزيونية لجمهور المشاهدين الاسرائيلي ان السبب وراء غضب العالم على حكومته هو "حرصه وتفانيه في المحافظة على وحدة القدس كعاصمة أبدية وموحدة للشعب اليهودي". ودلت استطلاعات للرأي العام اجراه معهد "داحف" وعرضته القناة الثانية في التلفزيون الاسرائيلي بتاريخ 15/3/1998 ان نتانياهو يتفوق على براك بفارق 14 نقطة في اوساط الناخبين اليهود. كما ان هناك من بين مؤيدي الحكومة والمعارضة من سخر بالسيد كوك، ونصحه دان مرغليت في هآرتس 19/3 بالاهتمام "بفضائحه"، في اشارة الى تطليقه لزوجته لصالح سكرتيرته التي تصغره ب 11 عاماً، كما عرضت "معاريف" كاريكاتيراً يظهر فيه السيد كوك كلاعب كرة قدم ذو رأس ضخم جداً وساقين دقيقتين يحاول تسديد الكرة الى شباك نتانياهو فتخطئ الكرة الشباك بينما يراقبها نتانياهو وهو مبتسم، ونشرت صحيفة "الجيروزاليم بوست" ذات الاتجاه اليميني، كاريكاتيرا لكوك وهو يطرق عنق عرفات بيد بينما يلقي بالاخرى وعاء ماء على رأس نتانياهو. رئيس وزراء اسرائيل صرح مراراً عديدة بعدائه العميق لوسائل الاعلام الاسرائيلية التي يتهمها بموالاة "اليسار" إلا انه اعترف اخيراً ان تغطية هذه الوسائل لزيارة كوك جعلته يقر لها ببعض الموضوعية.