شكلت المياه المعدنية التي انفردت بها مدينة فاس منذ اكتشافها أحد المعالم السياحية والعلاجية التي ظلت تستقطب عدداً من الزوار من مختلف المدن والمناطق الريفية المغربية. وكان اشعاعها على الصعيد الخارجي مصدر تحول في النشاط السياحي الذي اعتادته المدينة والمتمثل في معالمها التاريخية. ولم يعد هذا الأخير محصوراً في ما تختزله الذاكرة المغربية والأجنبية عن المدينة، وإنما امتد إلى معطياتها الطبيعية التي تبقى في مقدمها الحمامات المعدنية التي أكد الطب الحديث مدى نجاعتها وقدرتها في علاج عدد من الأمراض بما فيها المزمنة، كما هو الشأن مع القروح التي تصيب الجلد وأمراض المفاصل والروماتيزم، إضافة إلى تلك التي تحدث آلاماً في الجهاز الهضمي والبولي وغيرهما. وانطلاقاً من هذه الأهمية العلاجية والسياحية عملت عدة مؤسسات مغربية وزارة الصحة، السياحة، الطاقة والمعادن على تبني استراتيجيات تنموية تهدف إلى تطوير هذا القطاع وجعله في مستوى ما هو عليه في المدن السياحية والعلاجية العالمية. ولعل هذا ما يستشف عملياً من نقل مختلف منابع المياه المعدنية التي تحاصر مدينة فاس من الشرق حامة سيدي حرازم والشمال الغربي مولاي يعقوب والجنوب الغربي عين الله إلى القطاع الخاص، إذ سرعان ما تحولت هذه المناطق إلى منتجعات تجمع بين السياحة والعلاج وورشات اجتماعية تساهم في الاقتصاد المغربي. حامتي مولاي يعقوب وسيدي حرازم يبدو أن هناك خلافاً في تحديد المراحل التاريخية لاكتشاف منابع المياه المعدنية في كل من منطقة مولاي يعقوب وسيدي حرازم. وهو خلاف ناتج أساساً عن غياب مرجعية مدونة وسيادة الاعتقادات الشعبية. لكن رغم ذلك يبقى الأرجح ان اكتشاف الماء المعدني في منطقة سيدي حرازم يعود إلى عهد المرينيين حيث عمدوا إلى البحث عن مناطق زراعية والاعتماد الكلي على السقي، وذلك لخلق نوع من الاستقرار الاجتماعي والعمل على حصول اكتفاء ذاتي من الحبوب والخضروات، الأمر الذي دفعهم إلى اكتشاف هذا المنبع، لكن من بين المأثورات الشعبية السائدة لدى أهل المنطقة أن الفضل يرجع في اكتشافه إلى أحد المتصوفين يدعى سيدي حرازم الذي استقر في المنطقة بهدف التعبد. وكان قد عمل بمعية تلامذته على توسيع المنبع ومده بعدد من السواقي التي كانت تمتد إلى شرق فاس. ونظراً لتميز هذا الماء عما كانت تجود به الهضاب والتلال المحيطة في المدينة، اعتبر هذا الاكتشاف أحد الخوارق الطبيعية، وبدأ الزوار في التيمن به. لكن منذ بداية القرن الحالي أعيد النظر في هذا الاعتقاد وتمكنت إحدى الأسر الفرنسية من اكتشاف تركيبته العضوية الماء، حيث عمدت إلى نقل كميات متميزة منه إلى أحد المختبرات في مدينة فيشي التي تحوي مياهاً معدنية. وكانت أفضت هذه العملية إلى اكتشاف عدد من المواد العضوية المحللة في ماء سيدي حرازم ويبقى في مقدمها مادة المنغنيز والبوتاسيوم، إضافة إلى عدد من المواد المعدنية الأخرى. وبداية من عقد الستينات أثبتت تحليلات الأهمية العلاجية والطبية لهذا الماء لعدد من الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي والبولي والكلى، وإن كان بعض الأطباء لا زالوا يعتقدون ان اعتبار بعض المصابين ماء سيدي حرازم مادة علاجية في غياب استشارة طبية مجرد افتراضات عفوية، إذ في الغالب ما تبقى الكمية المستهلكة من طرف المصاب مجرد مسكن للألم، وإن كان يخلص البعض منهم ذرات أو ما يطلق عليه بالحصى التي تتموقع في أحد المسالك البولية، في حين أن تراكمها والحجم الذي قد تتخذه في الكلى أو الجهاز البولي يحول دون التخلص منها ويتطلب جراحة آنية. لكن على رغم هذا، فإن الزوار غالباً ما يجدون في فضاء منطقة سيدي حرازم ومائها المعدني فرصة سانحة للتنزه والاستجمام في المسابح التي أعدت للغاية نفسها. في حين ظلت المقاهي الشعبية المتخصصة في الأكلات التقليدية وباقي الأنشطة الاجتماعية تثير فضول الزائر لاكتشاف الاصيل المغربي وخصوصية هذه المنطقة. وتبقى الاشارة إلى أنه رغم توفر حامة سيدي حرازم على فندق متميز، فإن ظاهرة استئجار الغرف الخاصة لا زالت تستقطب اهتمام الزائر وإن كانت لا تستوفي شروط الاقامة، لكنها ظلت تشكل إحدى الظواهر التي عرفتها هذه المنطقة منذ أمد بعيد. وعلى غرار ذلك احتفظت "حامية مولاي يعقوب" التي تبعد عن مدينة فاس بحوالى خمسة عشر كيلومتراً بعدد من الخصوصيات العلاجية والسياحية والاجتماعية، فمياهها تقع تحت سطح الأرض 250 متراً وعلى علو تل يقدر طوله بحوالى 650 متراً، حيث تنبع من فوهة شبه بركانية، وسحبت عبر قنوات اصطناعية لتستقر في حدود معينة يتحملها جسم الإنسان. ويعتقد أنه تم اكتشافها في العصر الايوني الأول نتيجة تصدع في الطبقات الأرضية التي أدت إلى تحلل طبقات من المعادن الحيوية. أما في ما يتعلق بالتركيبة العضوية لهذا النوع من الماء، فتبقى في مقدمها مادة الكبريت 100 في المئة. ولعل هذا ما يلمس في ارتفاع الحرارة من جهة، وسيادة كميات مهمة منه تبدو قريبة من ذرات متناثرة ممزوجة بالملح. واللافت في هذا الإطار أنه إذا كان ماء سيدي حرازم يلفه بعض الغموض في قدرته العلاجية نسبياً، فإن ماء مولاي يعقوب يبدو على خلاف ذلك، لأنه أكثر نجاعة في مقاومة عدد من الأمراض التي يحصرها المختصون في الأمراض الجلدية، كما هو الحال مع القرح المكشوفة، إضافة إلى العلل التي تصيب المفاصل والعظام، خصوصاً منها الناتجة عن داء الروماتيزم. وإيماناً منها بهذه الأهمية العلاجية وطابعها السياحي، عمل عدد من المؤسسات المغربية العاملة في هذا القطاع على إحداث "مصحة علاجية" بالماء المعدني تضم آليات للعلاج تعتمد أساساً على الماء المعدني، ناهيك على الهندسة المعمارية التي تجمع بين الأصيل والحديث. وكانت قد شيدت في بداية العقد الحالي وبدأت تستقطب عدداً من الزوار والمصابين ببعض الأمراض مثل الروماتيزم بمختلف مستوياته، إذ تم توزيع فضائها الداخلي إلى قاعات علاجية كما هو الحال مع مسابح الترويض الخفيف والعلاج عبر قنوات ضخ الماء المعدني، في حين وظفت قاعات للتدليك والتطبيب بواسطة التراب الممزوج بكميات من الماء المعدني المتباين الحرارة. ويسهر على مختلف العمليات العلاجية كوادر متخصصون من ممرضين وأطباء. كما أن كل عملية على حدة تتأسس على وصفة طبية دقيقة يحددها طبيب متخصص عكس ما هي عليه الحال في باقي الحمامات المشيدة في المنطقة والتي تكون عمليات العلاج فيها تقليدية يقوم بها المصاب من تلقاء نفسه ولا يجد عناء في تمديد جسده داخل المسبح أو من إحدى أطراف جسده عند المصب أو قنوات الماء مقابل عشرة دراهم أو خمسة عشر درهماً ثمن تذكرة دخول أحد الحمامات، التي تبدو من حيث شكلها الهندسي قريبة من المسابح، في حين تناهز كلفة العلاج بالمصحة المعدنية مائة درهم. وتجدر الإشارة إلى أن من بين المشاكل التقنية التي تعاني منها هذه المصحة تآكل تجهيزاتها، خصوصاً قنوات المياه، وذلك نتيجة شدة الملوحة والحرارة التي يتميز بها ماء مولاي يعقوب، الأمر الذي جعل عمليات الصيانة قائمة ومن دون توقف. أما على الصعيد الاجتماعي، فإن منطقة مولاي يعقوب ظلت وفية للمألوف. إذ ما أن تطأ قدم زائر هذه المدينة الهادئة حتى يتجمع حوله عدد من النسوة والأطفال بهدف اطلاعه على عدد حجرات منازلها لاستقبال الزوار، وما يكاد أن يفلت من أحدهم حتى يجد نفسه في قلب أحد المنازل التي تبدو من حيث طابعها الهندسي ميالة إلى ما هو متداول في العمار المغربي الأصيل. وعلى بعد كيلومترين من حمامات مولاي يعقوب المعدنية، توجد "حامة عين الله" التي تعتبر من الحمامات المعدنية التي تم اكتشافها حديثاً، وتلتقي خصوصيتها وموادها العضوية أو المعدنية مع ماء مولاي يعقوب، حيث تطغى مادة الكبريت على تركيبتها، إضافة إلى الملح، لكن بدرجة أقل مما هي عليه في ماء مولاي يعقوب، إضافة إلى معدني المنغنيز والصلصال، كما أنها تتميز بدرجة حرارة معتدلة. وعلى رغم أن التحليلات التي خضع لها ماء عين الله لا زالت لم تؤشر عن بعدها العلاجي، لكن ذلك لم يمنع من حضور مكثف للزوار لهذه المنطقة، وهو ما خلق رواجاً تجارياً وسياحياً متميزاً أضاف لمدينة فاس بعداً جمالياً سياحياً جديداً.