Paul Vaiss. Le Royaume-Uni: E'conomie et Socie'te'. المملكة المتحدة : الاقتصاد والمجتمع . Le Monde, Paris. 1997. Pages 212. المملكة المتحدة هو الاسم الرسمي الذي يطلق اليوم على ما كان يعرف في الماضي القريب باسم بريطانيا العظمى، وهي اكبر جزر الارخبيل الذي تتألف منه المملكة المتحدة والذي يضم أربعة كيانات رئيسية: انكلترا ومقاطعة ويلز واسكتلندا وارلندا الشمالية. ويعود تاريخ الوحدة البريطانية الى عام 1536، يوم اتحدت انكلترا مع مقاطعة ويلز التي تقع الى الغرب منها والتي لا تتميز عنها بحدود جغرافية، بل فقط بحدود لغوية، نظراً الى ان سكان المقاطعة، الذين يؤلفون اليوم 5 في المئة من اجمالي السكان، ينطقون بلغة قومية خاصة من أسرة اللغات الكلتية. اما العنصران القوميان الآخران اللذان تتألف منهما الوحدة البريطانية فهما: الاسكتلنديون الذين يؤلفون 9 في المئة من اجمالي السكان والذين يعود تاريخ انضمامهم الى عام 1707، والارلنديون الشماليون الذين يؤلفون 3 في المئة من السكان، والذين عاشوا تحت الهيمنة الانكليزية اكثر من قرنين قبل الاعلان عن ضمهم الرسمي الى المملكة عام 1800. وباستثناء فترة الجمهورية التي انشأها كرومويل في منتصف القرن السابع عشر والتي دامت عشر سنوات فقط، فإن مملكة التاج البريطاني هي أقدم ملكية مستمرة في التاريخ. والأهم من ذلك انها النموذج الأقدم للمملكة الدستورية: فمنذ 1689 باتت السلطة الملكية محدودة بسلطة البرلمان. ومع انه لا وجود في المملكة المتحدة لدستور، اي لقانون أساسي يفصل بين السلطات، فإن المملكة المتحدة تعد أقدم ديموقراطية حزبية في التاريخ: فمنذ 1680 والحكم فيها تناوبي بين حزبين رئيسيين: الويغ والتوري في القرن الثامن عشر، والاحرار والمحافظين في القرن التاسع عشر، والعمال والمحافظين في القرن العشرين.هذه المملكة المتعددة قومياً وإن بغلبة انكليزية، 83 في المئة من السكان، والتي غدت دستورية وديموقراطية قبل أية دولة اخرى في العالم، صارت في القرن التاسع عشر اعظم قوة في العالم، بفضل الثورة الصناعية أولاً، وبفضل امبراطوريتها الكولونيالية ثانياً، وبفضل رأسماليتها ثالثاً. فعدا انها كانت تستخرج اكثر من نصف الفحم والحديد في العالم، وتنتج اكثر من نصف الانتاج العالمي من الخيوط القطنية، وظفت خارج حدودها من الرساميل اكثر مما كانت توظفه فرنسا وألمانيا والولاياتالمتحدة الاميركية مجتمعة. هذه القوة العالمية العظمى دخلت ابتداء من مطلع القرن العشرين في طور أفول. فقد غدت تحتل المكانة الثالثة، لا الأولى، بعد الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. ولكن أفولها هذا بقي طوال النصف الأول من القرن العشرين نسبياً ومقنّعاً نظراً الى ان المملكة المتحدة ما كانت تزن في الميزان الديموغرافي سوى ربع ما تزنه كل من الامبراطوريتين الاميركية والسوفياتية. ولكن غداة الحرب العالمية الثانية ارتدى أفول المملكة البريطانية طابعاً سافراً، فقد صارت تحتل في الترتيب العالمي المنزلة السابعة بعد ان تقدمت عليها دول مكافئة لها في الحجم السكاني مثل المانياوفرنسا. بل ان دراسة صادرة عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 1992 جعلت ترتيبها في المنزلة السابعة عشرة. والواقع انه حتى 1952 كان الناتج القومي الاجمالي لبريطانيا العظمى لا يزال يزيد بنسبة الضعف على الناتج القومي الفرنسي، وبنسبة 30 في المئة على الناتج الالماني. ولكن في 1995 كانت موازين القوة الاقتصادية قد انعكست تماماً. فالناتج القومي الاجمالي لفرنسا 1432 بليون دولار بات يتفوق على الناتج البريطاني 1080 بليون دولار بنسبة 33 في المئة، في حين ان ناتج المانيا 2207 بليون دولار بات يمثل اكثر من ضعف ناتج بريطانيا. اما بالمقايسة مع اليابان فإن الأفول البريطاني يبرز بمزيد من "الصخب": فمنذ 1975 كان ناتج اليابان قد تفوق على ناتج بريطانيا بأكثر من ضعفين، ثم في 1985 بأكثر من ثلاثة اضعاف، وأخيراً في 1995 بأكثر من أربعة اضعاف ونصف الضعف. ولا يتردد اختصاصي في الدراسات الانكليزية - الاميركية مثل بول فيس في ان يطلق على بريطانيا العظمى في النصف الثاني من القرن العشرين تسمية "رجل اوروبا المريض". وهو يعزو علة دائها الى شيخوخة جهازها الانتاجي والى عجزها عن تجديده وعن الدخول في عصر ثورة صناعية ثانية نظير ما فعلت المانياوفرنسا، بل حتى ايطاليا. والواقع ان الداء البريطاني غير قابل للرد الى علة واحدة، ولو كانت بمثل خطورة تقادم الجهاز الصناعي. فمنذ مطلع الثلاثينات كان المؤرخ الاقتصادي - الاجتماعي الفرنسي اندريه سيغفريد قد رد اسباب "الازمة البريطانية في القرن العشرين" - كما يقول عنوان كتاب شهير له - الى "أنانية" العمال البريطانيين الذين يتشبثون بالمكاسب الاجتماعية التي حازوها، ولو على حساب القدرة التنافسية للبضائع الانكليزية. وبدوره كان الاقتصادي الانكليزي الكبير جون كينز قد رد علة الأفول البريطاني الى الدور "المشؤوم" لأوساط رجال المال في بورصة لندن الذين يفرضون سياسة ليرة استرلينية قوية على حساب النمو الاقتصادي. ويبدو بالفعل ان المسؤوليات تتشاطرها اطراف ثلاثة: الحكومات والنقابات وأرباب العمل. فالحكومات، سواء كانت محافظة ام عمالية، اكتفت بانتهاج سياسة "كل يوم بيومه"، وحصرت رهانها كله بالبنية الفوقية المالية والضريبية من دون ان تعير بالاً لاهتراء الآلة الاقتصادية بحد ذاتها وتأخرها في سباق الانتاجية وحاجتها الدائمة الى التجديد والتحديث. وقد دللت النقابات العمالية البريطانية بدورها على قصر نظر، فخوفها من انتشار البطالة جعل محور سياستها النضال في سبيل الحفاظ على وظائف العمل المتوافرة، ولو في القطاعات الأقل انتاجية من الصناعة. وقد آثرت على الدوام ان تدافع عن وظائف العمل المنخفضة الاجور بدلاً من المجازفة بتوجيه اليد العاملة نحو صناعات مستقبلية. والى ذلك اضافت رفضها مبدأ التفاوض على تخفيض حجم اليد العاملة. فقد أصرّت دوماً على ان يبقى ثلاثة عمال يعملون حيث يمكن ان يؤدي عملهم عاملان اثنان. وعلى هذا النحو بات التضخم في الايدي العاملة في المصانع البرىطانية يقدر بنحو 25 في المئة، مما ارهق القدرة التنافسية للمنتجات البريطانية وحال في الوقت نفسه دون ادخال طرائق انتاج اكثر عقلانية. وقد تضامنت مع هذه النزعة المحافظة للنقابات العمالية مسؤولية ارباب العمل. فحفاظاً من هؤلاء على السلم الاجتماعي تفادوا الصدام مع النقابات ومالوا الى التسليم لها بمطالبها ولو على حساب المردود والقدرة على المنافسة. وفي الوقت الذي اتجهت فيه ارباحهم الى الانخفاض ضعفت قدرتهم على اعادة التوظيف. ونظراً الى تصلّب النقابات وارتفاع الاجور، باتوا يميلون الى توظيف ارباحهم القليلة خارج بريطانيا. وعلى هذا النحو تضاعفت الانتاجية مرتين في المانياوفرنسا عما هي عليه في بريطانيا، وفقدت المنتجات البريطانية قدرتها التنافسية حتى في السوق الداخلية التي غزتها المنتجات الاوروبية والآسيوية. وقد تحدث بعض المراقبين بهذا الخصوص عن سلوك جماعي انتحاري، ورأى بعضهم الآخر في موقف اعضاء النقابات وارباب العمل استمراراً للقيم التقليدية للمجتمع ما قبل الصناعي. وفي الاحوال جميعاً كان لا بد من انتظار انفجار الازمة الاقتصادية والاجتماعية في مطلع السبعينات لتفرض نفسها ضرورة سياسة جديدة تهزّ الاقتصاد والمجتمع البريطاني معاً من غفلتهما. وتلك كانت السياسة التي تصدّت لتطبيقها رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر التي استحقت لقب "السيدة الحديد" لما ابدته من تصلّب في مواجهة النقابات العمالية. ولا شك في ان الثاتشرية كانت، في السياق الانكليزي الامتثالي، ثورة. ولكن هذه الثورة تمت لصالح الطبقات الوسطى والعليا، وعلى حساب الطبقات الدنيا. فخلال الاثني عشر عاماً التي حكمت فيها ثاتشر ارتفعت الطبقات الوسطى الى اجمالي السكان من 33 في المئة عام 1979 الى اكثر من 40 في المئة في 1990. كما ان نسبة البريطانيين المالكين لمنازلهم ارتفعت في الفترة نفسها من 52 في المئة الى 68 في المئة. ولكن في حين ان ثروات الپ10 في المئة من اغنى الاغنياء زادت بمعدل 62 في المئة، فان مداخيل الپ10 في المئة من افقر الفقراء انخفضت بمعدل 17 في المئة. ففي ظل الثاتشرية زاد الاغنياء غنى وزاد الفقراء فقراً. فبينما كان 5 ملايين بريطاني، اي 9 في المئة من السكان، يعيشون تحت خط الفقر في 1979، فإن تعدادهم ارتفع في النصف الاول من التسعينات الى 13.9 مليوناً، اي ما يعادل 25 في المئة من اجمالي "رعايا جلالتها". وقد تضاعف عدد الاطفال الفقراء في الفترة نفسها ثلاث مرات، اذ زاد من 1.4 مليون الى 4.1 مليون. وعلى رغم صرامة التدابير التي اتخذتها الحكومة الثاتشرية في ولاياتها الثلاث المتعاقبة، لا سيما في مجال خصخصة القطاع العام والضغط على الميزانية وعلى الاجور معاً وتقليص دور الدولة في الخدمات والضمان الاجتماعي والصحي، فان بداية التسعينات شهدت تجدداً للانكماش الاقتصادي. فباستثناء قطاع الزراعة الذي استفاد على سعة من تقنيات التحديث وتنمية الانتاجية، عاد الناتج القومي البريطاني يسجل في 1991 انخفاضاً بمعدل 2.1 في المئة، وهو اخطر انخفاض يسجله الاقتصاد البريطاني منذ ازمة الكساد الكبرى في الثلاثينات. وقد تزامن هذا الانخفاض مع عجز متعاظم في ميزانية الدولة بلغ 2.8 في المئة من الناتج القومي عام 1991، و6.4 في المئة عام 1992، و7.7 في المئة عام 1993. وسجل الانتاج الصناعي في 1990 انخفاضاً بمعدل 0.6 في المئة، ثم بمعدل 2.9 في المئة عام 1991 في الوقت الذي انخفضت انتاجية التعامل بمعدل 1.75 في المئة، وزادت اجوره بمعدل 9.5 في المئة. ولم تستطع حكومة جون ميجور، الوارثة للتركة الثاتشرية، ان تلجم تدهور الانتاج الصناعي وتصاعد البطالة الا عن طريق "تحرير" العمل والاستبدال الواسع النطاق لوظائف العمل الثابتة بوظائف موقتة: ففي 1978 كانت العمالة التامة والدائمة تتوفر لنحو من ثمانية عشر مليون عامل، ولكن عدد هؤلاء انخفض في مطلع 1995 الى اقل من خمسة عشر مليوناً، في الوقت الذي زاد عدد وظائف العمل الجزئية والموقتة من ستة ملايين الى عشرة ملايين. من الممكن اذن توصيف واقع المجتمع والاقتصاد في المملكة المتحدة في ظل حكومة المحافظين بأنه مشدود بين قطبين: ازمة دائمة وحلول موقتة. وانما في محاولة للخروج من هذا الوضع المأزوم اختار البريطانيون عام 1997 ان يبدّلوا الطاقم الحاكم بعد 18 سنة من الاستمرارية المحافظة. ولئن افلح العمالي طوني بلير في انتزاع اقتناع الناخبين، فلأنه اخضع نفسه وحزبه معاً لنوع من انقلاب ايديولوجي: فعلى كونه عمالياً فان همّه الاول ارضاء الطبقات الوسطى ذات الوزن الانتخابي الحاسم، وعلى كونه "اشتراكياً" فان النموذج الاقتصادي الذي يستوحيه في سياسته هو نموذج الرأسمالية الالمانية ورأسمالية البلدان الآسيوية الصناعية الجديدة. والسؤال في حالته، كما في حالة اي طاقم حاكم بديل، يبقى كبيراً: اذا كانت الازمة البريطانية ازمة بنيوية، فهل ستجد دواءها الشافي في معالجة سياسية فوقية ام ان الامر يقتضي مراجعة جذرية من قبل المجتمع البريطاني لدفتر محاسبته ولإطار مرجعيته ولتجربته التاريخية، التي شاءت له ان يكون سبقه الى التقدم والى اختراع الحداثة الصناعية عائقاً له عن ادراك حاجته الى المجاوزة الدائمة لنفسه حسبما يقضي درس الحداثية بالذات؟