Francois Caron Les Deux Revolutions Industrielles du Xx Siecle الثورتان الصناعيتان للقرن للعشرين Albin Michel, Paris. 1998. 590 Pages. في عام 1880 نحت المؤرخون لأول مرة تعبير "الثورة الصناعية" ليشيروا به الى القطيعة الجذرية التي تتمثل بالتسارع المنقطع النظير للتقدم التقني في بريطانيا أولاً، ثم في عموم أوروبا الغربية لاحقاً، ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر. ويبدو مفهوم "الثورة الصناعية" مطابقاً اذا ما قصد به الاشارة الى التحول الجذري في انماط الانتاج والاستهلاك من جراء ظهور وتطور صناعات جديدة لم يكن لها من وجود في تاريخ البشرية السابق. ولكن هذا المفهوم نفسه لا يعود مطابقاً بقدر ما يوحي بأن ذلك التحول الجذري كان فجائياً، وبأنه اخذ من اللحظة الأولى شكل "قطيعة" جعلت ضحى القارة الأوروبية هي غير عشيتها. فسيرورة الثورة الصناعية لم تكن من طبيعة انقلابية، بل مثلت تطوراً وئيداً لم تتضح نتائجه "الثورية" الا ضمن اطارها التاريخي، اي على المدى الطويل. وليس من قبيل الصدفة ان يكون مفهوم "الثورة الصناعية" قد رأى النور متأخراً مئة سنة عن مولد الثورة الصناعية نفسها. فالاجيال اللاحقة، وليس الجيل الذي عاصر الثورة، هي وحدها التي تهيأ لها ان تدرك انها تعيش، منذ مفصل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حقبة ثورية. وكما جرى استعارة مصطلح "الثورة" من اللغة الايديولوجية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر لتطبيقه على التحولات الجذرية الناجمة عن تسارع التقدم التقني، كذلك فانه ينبغي ان نعود الى اللغة الايديولوجية للنصف الثاني من القرن العشرين لنستعير منها هذه المرة مصطلح "الثورة في الثورة"، ولنقرأ بواسطته التحولات او بالاحرى القطيعات الجذرية التي حدثت داخل الثورة الصناعية نفسها. فهذه لم تكن ثورة واحدة، بل ثلاثاً: ثورة اولى بدأت في بريطانيا في منتصف القرن الثامن عشر واكتملت في أوروبا الغربية في الستينات من القرن التاسع عشر، وكان عمادها من الطاقة الفحم. وثورة صناعية ثانية تموضعت زمانياً في مفصل القرنين التاسع عشر والعشرين 1896 - 1913، ومكانياً في الولاياتالمتحدة فضلاً عن أوروبا، وكان عمادها الكهرباء. وأخيراً ثورة صناعية ثالثة انطلقت، بالاعتماد على الطاقتين الذرية والالكترونية معاً، في الثلث الاخير من القرن العشرين وشملت لأول مرة، فضلاً عن مراكزها التقليدية في الغرب، شطراً من العالم الآسيوي ممثلاً باليابان في طور اول، وبالتنانين الصغيرة في طور ثانٍ. وباختصار، كانت الثورة الصناعية الأولى ثورة المكننة، والثانية ثورة التصنيع، والثالثة ثورة المعلوماتية والتأليل. ماذا كان عامل هذه الثورات الثلاث؟ او بتعبير مقتبس مرة اخرى من اللغة الايديولوجية، ماذا كان عامل هذه "الثورة المستمرة"؟ لقد كانت الدراسات السوسيولوجية مالت، طيلة هيمنة النظرية الماركسية التي دامت قرناً من الزمن، الى ايلاء الاهمية الأولى لقوى الانتاج الاجتماعية من رأسمال ومقاولين "بورجوازيين" ويد عاملة. ولكن المفهوم المركزي البديل الذي يقترحه مؤلف هذا الكتاب عن "الثورتين الصناعيتين للقرن العشرين" هو مفهوم "دينامية النظام التقني". وأول ما يميز هذه الدينامية هو التقاء التقنية والعلم فيها. فعلى امتداد حقب طويلة كان العلم النظري يعيش في حالة انفصال عن التقنية العملية. ومع ان جميع الحضارات الماضية عرفت انواعاً من النظام التقني، الا ان هذا النظام كان مغلقاً يرثه الابن عن الأب او الصانع عن شيخ الصنعة في تكرار شبه ابدي. بيد ان الثورة العلمية التي دشنت سيرورة الحداثة في عدة بلدان اوروبية فتحت النظام التقني وبثت فيه دينامية ما كان يعرفها من قبل. ففي بريطانيا، مهد الثورة الصناعية الأولى، استفاد المهندس الاسكتلندي جيمس واط 1736 - 1819، مخترع الآلة البخارية، فائدة جلى من الابحاث النظرية لأساتذة جامعة غلاسكو، وفي مقدمهم عالم الفيزياء جوزيف بلاك 1729 - 1799 الذي درس فاعلية غاز الفحم واكتشف اوكسيد المغنيزيوم. وفي فرنسا، المهد الثاني للثورة الصناعية، تجلى واضحاً ارتباط التقنية بالعلم من خلال التقدم الذي احرزته الصناعة الكيميائية التي تواقت مولدها مع مولد الثورة الصناعية في الثلث الاخير من القرن الثامن عشر. ولئن يكن مؤرخو الثورة الصناعية الانكليزية يميلون عادة الى التأكيد على الطابع العملي والذرائعي لهذه الثورة، وبالتالي على دور الحرفيين اليدويين في اختراع التجديدات التقنية الأولى، فان مؤرخي الثورة الصناعية الفرنسية يؤكدون على العكس على طابعها النموذجي كثورة تطبيقية للعلم النظري. ومشهورة من هذا المنظور قولة جان شبتال 1756 - 1832 الوزير والعالم الكيميائي الذي طور صناعة حجر الشب واختر صباغ القطن: "أعتقد انني اول من طبق في فرنسا المعارف العلمية الكيميائية بكل مداها على الصنائع". والواقع ان هذه العقلية لم تكن وقفاً عليه: فهي التي وجهت عمل مرسلان برتلو 1827 - 1907، كبير الكيميائيين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في تبييض الكلور، وكانت وراء اختراع نيقولا لوبلان 1742 - 1806 لصناعة الصودا. والحقيقة ان الاهتمام الذي اولته النخب المثقفة للصنائع اليدوية، والارادة التي أبدتها في وضع العلم في خدمة الصناعة كانا يعبران عن رؤية جديدة لمستقبل البشرية. فعلى خلاف الاقتصاديين الكلاسيكيين من امثال مالتوس وريكاردو الذين رأوا بعين التشاؤم الى مستقبل البشرية في ظل الثورة الصناعية، مال العلماء الى التفاؤل وأعطوا العلم بعداً لاهوتياً خلاصياً. وضمن هذا السياق نفسه يمكن ان نتحدث عن انقلاب كوبرينكي حقيقي عرفته غائية التعليم بالموازاة مع الثورة الصناعية. فابتداء من القرن التاسع عشر شرعت معظم الجامعات الأوروبية تتحول عن المعرفة البيانية الى المعرفة العلمية، وكفّ العلم عن ان يكون هواية ليتحول الى مؤسسة شديدة الغيرة على استقلاليتها. وقد كانت الجامعات العلمية ومعاهد البحث والمخابر المرتبطة بها هي وراء تثوير النظام التقني في انكلترا وفرنسا وألمانيا كما في الولاياتالمتحدة الاميركية. وقد طغت شهرة بعض المعاهد العلمية على الجامعات نفسها، ومنها على سبيل المثال معهد البوليتكنيك في فرنسا، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا الذي فتح ابوابه في الولاياتالمتحدة الاميركية منذ العام 1865. وقد تضامنت في وقت لاحق مقتضيات الدفاع والاستراتيجية مع العلم لتعطي دفعة هائلة الى الأمام لتجديد الانظمة التقنية، لا سيما في مجال التسلح والذرة والفضاء، ولتجعل من الدولة، بما هي كذلك، فاعلاً رئيسياً في التشجيع على البحث العلمي وفي تمويل البرامج العلمية الصناعية الكبرى. وقد غدا الانفاق الحكومي على البحث العلمي واحداً من المعايير الأساسية لقياس تقدم الدول وتخلفها. فالدول الاكثر تقدماً في العالم هي تلك التي تنفق ما بين 1.5 في المئة و2.5 في المئة من ناتجها القومي الاجمالي على البحث العلمي. فالولاياتالمتحدة الاميركية تنفرد وحدها بانفاق 41 في المئة من اجمالي الانفاق العالمي على البحث العلمي، وتليها اليابان التي تصل حصتها الى 21 في المئة، ثم الدول الأربع الاكثر تقدماً في أوروبا، وهي المانياوفرنسا وانكلترا وايطاليا، التي تصل حصتها مجتمعة من الانفاق العالمي على البحث العلمي الى 26 في المئة. وحتى لا تبقى هذه الأرقام مجردة فلنذكر ان الولاياتالمتحدة الاميركية، اذ تخصص 2.5 في المئة من ناتجها القومي للبحث العلمي، تنفق عملياً 180 مليار دولار في السنة في هذا المجال، مما يعادل ثلاثة اضعاف الناتج القومي الاجمالي لدولة متوسطة الحجم من العالم الثالث مثل مصر، او ثلثي الناتج القومي الاجمالي لثاني اكبر دولة في العالم الثالث، وهي الهند. اما اليابان، التي تخصص 2.9 في المئة من ناتجها القومي للبحث العلمي - وهذه اعلى نسبة في العالم - فان انفاقها في هذا المجال يصل الى 61 مليار دولار في السنة، اي ما يعادل اجمالي الناتج القومي لمصر او اجمالي الناتج القومي لأكبر اربع دول عربية غير نفطية، وهي المغرب والسودان وسورية واليمن التي يزيد تعداد سكانها مجتمعة على 85 مليون نسمة مقابل 125 مليون نسمة في اليابان، ويقل ناتجها القومي عن 56 مليار دولار مقابل 21117 مليار دولار في اليابان. هذا الانفاق الكبير على البحث العلمي هو ما يمكن ان يفسر، جزئياً على الأقل، التحول الجذري في وجهة "المعجزة اليابانية" في عصر الثورة الصناعية الثالثة. فمعلوم ان الأساس الذي قامت عليه النهضة اليابانية هو استيراد التكنولوجيا الغربية ومحاكاتها واستنساخها. ولكن ابتداء من سبعينات هذا القرن، ومن جراء التوظيف العالي في مضمار البحث العلمي، تحولت اليابان من دولة مستوردة الى دولة مصدرة للتكنولوجيا، وبصورة خاصة التكنولوجيا المتطورة الالكترونية. وفي مدى عشرين عاماً تضاعفت صادراتها من التكنولوجيا اربع مرات، فتقدمت بذلك على صادرات المانياوفرنسا مجتمعتين. وبين 1970 و1990 ايضاً زادت نسبة الباحثين العلميين المستخدمين من قبل الشركات اليابانية الكبرى من 10 الى 21 في المئة. وبعد ان كانت اليابان هي المقلدة الكبرى لتكنولوجيا الآخرين، غدا نموذجها للتنمية العلمية الصناعية موضع تقليد، لا من قبل التنانين الآسيوية الكبيرة والصغيرة على حد سواء فحسب، بل كذلك من قبل الشركات الاميركية الكبرى. ومثال اليابان هذا ينهض شاهداً اضافياً على ان النظام التقني، متى انفتح، يكتسب دينامية من التوليد الذاتي ويغدو محلاً لتجديدات تكنولوجية لامتناهية