في 2010، اختتم وزير الخزانة البريطاني آنذاك جورج أوزبورن عرضه أمام البرلمان لمشروع موازنة العام التالي بجملة عبّر فيها عن أمله بنهضة اقتصادية في بلاده تقودها «مسيرة الصانعين». وغني عن البيان أنه قصد دوراً أكبر يؤديه في الاقتصاد قطاع التصنيع المتراجع باستمرار منذ عقود بعد قرون من احتلاله صدارة عالمية. لكن الأرقام الرسمية الصادرة منذئذ لا تبشر بخير كبير. ففي الربع الأخير من 2015، تراجع الناتج الصناعي في المملكة إلى مستوى يقل قليلاً (نصف درجة مئوية) عنه يوم قال أوزبورن جملته. والأسوأ أن حجم الناتج الصناعي بين تشرين الأول (أكتوبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2015 سجل مستوى يقل بنسبة 6.4 في المئة عنه لدى وقوع بريطانيا في ركود بداية 2008. وعلى رغم تحقيق عدد الوظائف في قطاع التصنيع قفزة بواقع 90 ألف وظيفة إلى 2.65 مليون وظيفة منذ العام 2011، لا يزال الرقم أدنى عنه قبل الركود. وفي مقارنة تاريخية، كان يعمل ثلث القوة العاملة البريطانية في التصنيع عام 1841، وبقيت النسبة مستقرة إلى حد كبير ل 120 سنة. وعند إجراء الإحصاء السكاني في 2011، سجلت النسبة تسعة في المئة. ووفق أرقام المكتب القومي للإحصاءات، شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتعاشاً مستمراً للتصنيع في بريطانيا، فالقطاع نما بين 1948 و1998 بنسبة بلغ متوسطها السنوي 1.9 في المئة، على رغم مرور القطاع بمراحل تراجع خلال فترات الركود الاقتصادي. وبعدما سجل نمو الناتج الصناعي ذروة عام 2000، شهد تقلبات بين صعود وهبوط حتى 2008 حين ضربه الركود الاقتصادي. وكانت وتيرة نمو التصنيع معقولة بين 1948 و1998، لكنها قلّت كثيراً عن نسبة النمو الاقتصادي الإجمالي، ما يعني أن حصة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي كانت تتقلص باستمرار خلال الفترة المذكورة. وحتى بعد تجاوز بريطانيا الركود الأخير، تفوقت الخدمات على التصنيع في وتيرة النمو، وذلك بفارق كبير بلغ 12 في المئة. وليس تقلُّص حصة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي حكراً على بريطانيا من بين البلدان الغنية، فالحصة هي نفسها الآن في فرنسا مثلاً، وهي في بريطانيا أفضل منها في النرويج وأستراليا، وأضعف بقليل منها في الولاياتالمتحدة. لكن الحصص لا تزال كبيرة في اقتصادات صناعية أخرى: 20 في المئة في ألمانيا، و30 في المئة في كوريا الجنوبية العضو الحديث نسبياً في نادي البلدان الصناعية. ولا تزال بلدان اشتراكية سابقة في أوروبا الشرقية تتمتع بقطاعات تصنيع تساهم مساهمة جيدة في الناتج الإجمالي. أما الصين، العضو المخضرم في النادي، فانخفضت حصة التصنيع في اقتصادها من 42 في المئة عام 1981 إلى 36 في المئة اليوم. وترجّح دراسة أعدتها كلية لندن للاقتصاد أن نصف المتاعب التي يواجهها قطاع التصنيع البريطاني يعود إلى التراجع العالمي لأسعار البضائع المصنعة وميل الناس إلى الإنفاق أكثر على الخدمات حين تزداد مداخيلهم. وتلفت دراسة أخرى أجرتها جامعة شيفيلد هالام البريطانية إلى منافسة تصنيعية واجهتها المملكة من بلدان صناعية أخرى تتمتع بتكاليف أقل، خصوصاً الصين. وفيما رجحت «مجموعة بوسطن الاستشارية» في 2014 أن يكون المستقبل القريب للتصنيع البريطاني باهراً، بدعم من انتعاش مصانع السيارات في المملكة، تعاني مصانع الصلب منذئذ نكسة، عزتها المصانع إلى سياسات سيئة انتهجها أوزبورن نفسه، خصوصاً تردده في دعم الاستثمار في المهارات والبنية التحتية والابتكار. وفي المقابل، تعرض أوزبورن إلى انتقادات من خبراء مؤيدين لاقتصاد السوق، فمعهد المديرين البريطاني يحض الحكومة على الاعتراف بأن قطاع الخدمات أزاح التصنيع عن عرشه أو يكاد. وفيما تبقى تداعيات تصويت البريطانيين في حزيران (يونيو) لمصلحة مغادرة بلادهم الاتحاد الأوروبي غير قابلة للتوقع في شكل حاسم بالنسبة إلى الاقتصاد البريطاني ككل أو إلى قطاعاته المنفردة، لا بد من التذكير بأن التصنيع في بريطانيا عاش نحو قرنين من الازدهار، تليا الثورة الصناعية الأولى التي يُعتبَر 1760 عام انطلاقتها، في المملكة تحديداً، وذلك بدءاً بابتكار الاسكتلندي جيمس وات الآلة البخارية التي انتشرت في المصانع، ما عزز الإنتاج أضعافاً، ومروراً بالثورة الصناعية الثانية التي بدأت عام 1820 مع انتشار الآلة البخارية في السفن التجارية، ما سرّع التصدير في شكل كبير. لكن بين عامي 1952 و2012، ثمة 60 سنة من الانحدار، أو «الانتحار»، وفق تعبير الباحث البريطاني نيكولاس كومفورت، جعلت قطاع التصنيع في بريطانيا يتحول من عملاق إلى قزم. ففي كتابه المرجعي «الموت البطيء للتصنيع البريطاني: انتحار ل 60 سنة، 1952 - 2012» الصادر في 2013، يتحدث كومفورت عن «إدارات سيئة لمصانع، وقلة استثمار، وممارسات مهنية عف عنها الزمن، ونقابات عمالية خبأت رؤوسها في الرمل»، إلى جانب «قصر نظر في قطاع المال ووزارة الخزانة، والدورة العقيمة لعمليات التأميم والتخصيص، وقرارات سيئة من الحكومات، وتقلص حجم الأسواق البريطانية، والهوس بالمنتجات المصنّعة الضخمة الحجم، وانتقال الوظائف إلى الاقتصادات الناشئة، واستحواذات كان دافعها السعي إلى الشهرة، وغياب اهتمام قيادات القطاع الخاص بالتصنيع، والسعي إلى تكرار نموذج وول ستريت، وكثير من الحظ العاثر».