سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قرائن من عام 1997 على تآكل ريع رفيق الحريري وانقلاب سياساته إلى مشكلة . وعود الدين ومصادره ترفع منزلة رئيس الحكومة وتثقلها بإزاء الداخل والمصالح الإقليمية 1
لخص رئيس مجلس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، الحياة السياسية الداخلية في أثناء عام 1997، فقال ان محاور ثلاثة تستقطبها، هي: الحريات والاستدانة والفساد، وتستعمل الحريات في "التبشير بتداعي النظام وانتقاص السيادة"، و"كلا الأمرين غير ملائم وغير صحيح". ولما كان السياسي اللبناني الأول، والأعظم نفوذاً شخصياً، وممر السياسات المحلية والإقليمية والدولية وعقدة طرقها وانفاذها، يتكلم في منتصف كانون الأول ديسمبر من العام، جاء كلامه إيجازاً بليغاً للمسائل والمشكلات التي شغلت الحياة العامة، الإجتماعية والسياسية، في لبنان. ولا يقتصر قول الحريري على التلخيص والتسمية بل يتعداها إلى تشخيص الرابط بين المسائل والمشكلات، والى وصف ما يترتب على هذا الرابط من سياسة المعارضة وسياسة الحكومة جميعاً. فالدين العام قرينة على محاولة السياسة الحكومية، منذ تولي الحريري الحكم والحكومات في خريف 1992، الجمع بين استئناف حال اقتصادية واجتماعية مقبولة، من غير ترتيب أعباء باهظة على المكلفين، وبين شراء الولاء السياسي لطبقة من السياسيين الذين أفسدتهم الحروب المتعاقبة على لبنان، وأفسدهم تنقيل الولاءات والحصانة من المحاسبة. وعلى هذا فالإفساد العام، وغير المقتصر على الوزراء والنواب وطواقم الأحزاب والموظفين من المحاسيب والأنصار وبعض أصحاب الأعمال، وجه من وجوه "الإدارة" السياسية والإدارية والاقتصادية العامة. والاستدانة إرجاء للأعباء الموروثة من الحروب الكثيرة السابقة، وإيهام بخفة هذه الأعباء وبانتفاء المسؤولية عنها، وتسريع مصطنع لنضوج ثمار السلم الصادر عن يد الطاقم السياسي الحاكم وراعيه الإقليمي العروبي. فإذا كانت الحال على هذا الوصف، أو قريبة من هذا الوصف، كان من العسير ألا تستعمل الحريات، السياسية والإعلامية والنقابية والشخصية المدنية، في التنديد بسياسات تنزع كلها، من طرق مختلفة، إلى جعل استتباع لبنان، وارتهانه لمصالح دولة إقليمية ضعيفة الموارد والباع، أمراً محتوماً ولا رجوع عنه. وهذا ما لا يسع الطاقم الحاكم، وعلى رأسه السيد الحريري، وهو ركنه الأول والفاعل، قبوله. وعليه كانت فصول السياسة اللبنانية، طوال العام، أو معظم فصوله، كراً وفراً بين متطلبات مختلفة، وأحياناً متناقضة، يمليها دور "الصورة" اللبنانية المفترضة في شبكة السياسات التي تتوسل بلبنان إلى أغراضها وغاياتها الظرفية أو الثابتة. فالاستدانة كانت بوابة السنة الجديدة والوليدة قبيل ولادتها بأيام قليلة. ففي 16 كانون الأول 1996 التأم "مؤتمر أصدقاء لبنان" بواشنطن. وكان هذا المؤتمر من الاقتراحت البنّاءة التي خرج بها "تفاهم نيسان"/ابريل 1996، برعاية وزيري خارجية الولاياتالمتحدة وارن كريستوفر، وفرنسا، إيرفيه دوشاريت. فإلى الشق السياسي والأمني والعسكري الذي أنشأ لجنة مراقبة خماسية من الولاياتالمتحدة وفرنسا، ولبنان واسرائيل وسورية تنظر في شكاوى المتقاتلين، وتقيّدها بالاقتصار على الأهداف العسكرية، أراد الوسطاء الدوليون الإعلان الصريح والقاطع عن تعهدهم خروج لبنان من الحروب الملبننة والمتطاولة السابقة، واخراجه منها، على رغم دوام توسل العداوة الإسرائيلية والسورية به مسرحاً احتياطياً. فدعيت 29 دولة و8 منظمات دولية إلى اللقاء بواشنطن، والتداول في تمويل مشروعات حيوية وكبيرة لا يتوقع اقبال رأس المال الخاص على الاستثمار فيها. وحمل الوفد اللبناني، الواسع، إلى المؤتمر 31 دراسة تكلفةٍ لا يقل تمويلها عن خمسة بلايين دولار. وعاد الوفد بوعود تمويل بلغت 5،3 بليون دولار، معظمها قروض طويلة الأجل بفوائد قليلة، وأقلها هبات. والحق أن القروض لم تقرض، والهبات لم تعط، والقروض التي حصل عليها في ما بعد لم تُقرض من طريق المؤتمر، ولا كانت التزاماً بمقرراته، والهبات التي منحت لم تمنح تقيداً بمداولات المؤتمر. أي ان المؤتمر كان تظاهرة سياسية بلباس اقتصادي، شأن كثرة من الإجراءات الاقتصادية التي يبادر اليها السيد الحريري وحكوماته، وشأن بعض النتائج الاقتصادية الناجمة عن منازعات الحريري السياسية. وجاءت الردود على المؤتمر وقراراته، سياسية. فالدعوة إلى واشنطن علاجاً لمشكلة كانت السياسات الفلسطينية الإسلامية والإيرانية الحزب اللهية والسورية السبب الأبرز فيها، وخلفت في لبنان أضراراً إنسانية واقتصادية وسياسية بالغة، تنتقص الدعوة هذه من مكانة السياسات الإقليمية، وتقصر دورها على التوريط والضَّرَر. فإذا جَدّ الجد، وحان وقت البناء والتعويض على الدولة المتضررة وليس على الأنصار و"الأهل" الذين عوّض عليهم "حزب الله" بنحو خمسين مليون دولار من "مال" مرشد الثورة الإيرانية، وعوّضت عليهم "أمل" من صندوق الجنوب وأموال المكلف اللبناني - تحملت الدول الغربية، وليس الدولة المورطة، أعباء التعويض. فاتهم "حزب الله"، ومعه بعض المقربين من السياسة السورية في لبنان، المؤتمر بشراء ولاء السياسة اللبنانية، أي ولاء الحريري، لقاء "التضحية بالمقاومة". ولما كان انقضى على ولاية بنيامين نتانياهو نحو نصف السنة، استُنفدت أيامه في المفاوضة على الانسحاب من ثلثي مدينة الخليل، والتجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد من التزامات سلفيه العماليين، رابين وبيريز، إلى محاولة المفاوضة على الانسحاب من "لبنان، أولاً"، ألصق الحرس السوري المتشدد في لبنان بالمؤتمر، وبالسيد الحريري، "نجمه" ومتعهده، تهمة الضعف بإزاء الإقتراح الإسرائيلي. وشن هؤلاء، وهم إلى "حزب الله" و"أمل" والحزب السوري القومي الاجتماعي والبعثيين، نوابٌ "روافض" ومحليون، وصحافة دعاوة ناصرية وقومية، شنوا حملة شعواء على المؤتمر وذيوله المفترضة. وتولى بعض معتدلي المعارضة، من نواب "اللقاء النيابي"، التنديد بسياسة الاقتراض العام من غير تبصر بالمترتبات الآتية على اللبنانيين. ولكن المنددين، من الصنفين، لم يقترحوا سياسة مالية تنهض في آن، بأعباء السياسات الإقليمية والدولية في لبنان، من وجه، وبتكلفة اخراج اللبنانيين من إرث الحروب الماضية وإدخالهم عهد "السلم الأهلي" الموعود برعاية الطاقم السياسي وراعيه الإقليمي والعروبي، من وجه آخر. وعندما أذاعت فذلكة موازنة 1997، المتأخرة إلى شباط فبراير 1997، تقديرات وزارة المالية للسنة الجارية والمبتدئة، توقعت بلوغ عجز الموازنة 5،37 في المئة، أي بزيادة نحو خمس نقاط عن النسبة المقدرة قبل عام. وعزت الإخفاق في "تحقيق تطورات" 1996 إلى "عناقيد الغضب"، الإسرائيلية والحزب اللهية والصفة الثانية إنما تبني على مفاخرة "حزب الله"، غداة نيسان 1996، بإخراج شمعون بيريز من الحكم وبالمجيء بنتانياهو، وعزت إلى الأعمال العسكرية إياها تدني معدل النمو الاقتصادي من 7 في المئة إلى 4 في المئة في 1996 والحق أن معظم المراقبين الاقتصاديين المحليين يذهبون إلى أن الأربعة في المئة من "مبالغات" فؤاد السنيورة. وتدارك إقرار الجدول رقم 9 بالضرائب غير المباشرة، وإلحاقه بالموازنة وبمواردها في تشرين الأول أكتوبر 1997. واضطرت السلطة النقدية إلى رفع معدل الفائدة الفعلية على سندات الخزينة 24 شهراً إلى 25،23 في المئة، في شهر نيسان 1996، قبل إعادته إلى 73،16 في نيسان 1997، تدريجاً. وهذا كله، وغيره مثله، من أعراض "الدور" الإقليمي الذي يضطلع به لبنان، وترعاه سياسات دولية نافذة. وهذه السياسات نفسها ترعى الاقتراض اللبناني واضطلاع الحريري به. ولعل التجاذب السياسي على هذه المسألة هو من أعراض الحرج الإقليمي، أو السوري، في شأنه. فالإقتراض إنما يحل محل انتهاج سياسة داخلية صارمة يُجمع اللبنانيون، جماعات طوائف وأفراداً، عليها، ويتطوعون لتنفيذها وتحقيقها. ومثل هذه السياسة تفترض التقشف في النفقات العامة، وقبول ذوي المداخيل الثابتة من مستخدمين وعمال وموظفين وإداريين، طوال بعض الوقت، زيادة متواضعة على مداخليهم، وقبول أصحاب المداخيل والأرباح المرتفعة سياسة ضريبية حازمة. وهي تفترض التوظيف في مرافق انتاجية ومولدة للعمل، وإدارة غير فاسدة وخفيفة الثقل والعبء على النمو العام. والسياسة التي ينتهجها الحريري، ومن ورائه الوصي الإقليمي، تنحو عكس هذا النحو ونقيضه: فهي تضاعف عدد الموظفين والإداريين والعسكريين اضعافاً، وتبدد المال العام المتجمع من الرسوم والضرائب غير المباشرة على الاستهلاك وعلى محاسيب السياسيين، وتحمي عائدات الريوع المالية على حساب الاستثمار المنتج، وتقسّم مرافق الدولة بين الأنصار والأصدقاء ومن تريد استمالتهم، وتخيف المستثمرين جراء ضعف الضمانات القانونية التي يوفرها طاقم سياسي ركيك ولا مناعة ذاتية تحميه من إرادات اقليمية لا يؤمن تعسفها. وكانت فذلكة موازنة 1996 في خريف 1995، عزت تردي الأحوال الاقتصادية والمالية إلى التردد والاضطراب اللذين أشاعهما تمديد ولاية الياس الهراوي واللغط الذي سبق التمديد. ولا يسع سياسة الحريري العودة عن هذا إلا بالاحتكام إلى إرادة اللبنانيين الحرة، وليس إلى "العلاقات المميزة" وإملاءاتها وتقلباتها. ولاحظ التقرير السنوي عن حقوق الإنسان، الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية في الأسبوع الأخير من كانون الثاني/يناير 1997 أن هذه العلاقات "لا تعكس إرادة اللبنانيين" على رغم نتائج انتخابات صيف 1996. فلم تكد السنة الجديدة تهل، ولم يكن انقضى على "مؤتمر أصدقاء لبنان" شهر بعد، حتى وقّع الوزراء اللبنانيون مع نظرائهم السوريين ثلاثة اتفاقات تناولت الإزدواج الضريبي، وتشجيع الاستثمارات وحمايتها، وإنشاء مكاتب حدودية مشتركة. ووقّع الوزراء ثلاثة محاضر تفاهم على تنسيق الأعباء الداخلية للسلع المتبادلة، وتنظيم حركة النقل، وتوزيع مياه العاصي. وإذا استثني الإزدواج الضريبي والمكاتب الحدودية، فالأمور الأخرى كلها شائكة ومعقدة. وبُتّ بعضها، مثل تنسيق الأعباء الداخلية للسلع المتبادلة، على عجل. فاطرح من السلع شطر كبير. وكانت الذريعة هي كثرة العوامل الداخلية في تركيبها، والوقت الذي يستدعيه فحص متأنٍ. فترك الفحص والتدقيق، وأقرت المذكرة. أما توزيع مياه العاصي فاتخذ صورة نزول سورية عن حصة تعود اليها من مياه اللبوة ورأس العين وآبار ضفاف النهر" ما بدا غريباً ومستهجناً لمزارعي البقاع الشمالي والشرقي، وهم كانوا يحسبون أن هذه المياه تعود اليهم، وينتظرون من الدولة إنشاء سد على العاصي يحفظ لهم مياهه ويوزعها عليهم بالعدل. ومضت ستة أشهر على المؤتمر من غير أن يتحقق شيء من الوعود. وفي الأثناء ظهر الخلاف بين الحكومة وبين النقابات والمنظمات المهنية على الأجور والتعويضات، وعلى سلسلة الرتب والرواتب، واستقلال الإدارات" وأعلن الشيخ صبحي الطفيلي "ثورة الجياع" في 3 أيار مايو، ودعا في 16 منه إلى إلزام الحكومة بتعليم واستشفاء مجانيين، وباستصلاح الأراضي وإنشاء مشاريع ري، وبيع البذار والسماد بأسعار تشجيعية" وطالبت المستشفيات الخاصة، المتعاقدة مع وزارة الصحة ووزارة الدفاع وصندوق الضمان الاجتماعي وقوى الأمن الداخلي، الوزارات بثلاثمئة بليون ليرة هي قيمة متأخرات مستحقاتها عليها، في 10 أيار" وحمل تفاقم مشكلة النقل الحكومة على تسيير الحافلات على خطوط جديدة" واقتصر مصرف الإسكان على تلبية 1100 طلب قرض من 41 ألفاً في خمسة أعوام" أما الصندوق المستقل للإسكان فقسم ذخيرته من عشرة بلايين ليرة على 300 قرض، على ما أعلن المرفقان في أواخر شباط" واضطر الصندوق المركزي للمهجرين إلى إبلاغ المواطنين توقفه عن تسديد التعويضات إلى أصحابها ومستحقيها، في آذار مارس. ورتبت هذه وغيرها أعباء على الخزينة لا مكافىء لها من الواردات، بينما الاحتياجات إلى زيادة وتعاظم. فآذن عصيان الأمين العام الأسبق ل"حزب الله"، ومشايخ من أهل بلاد بعلبك وقراها وبلداتها، وآذنت مطالبته الدولة بإعالة "ضعفاء" هذه البلاد والقيام باحتياجاتهم، آذن الأمران بتهديد "سلم" مضطرب، سندُه الأول سياسي وأمني وخارجي. ومهما كان حظ الإيعاز والإيحاء السياسيين والأمنيين من أسباب العصيان "المدني"، فتطرُّقُ الانشقاق إلى "المسيرة الواحدة تحت القيادة الشرعية"، حسن نصرالله في رده على إعلان حركة الطفيلي، في 16 أيار، يوم عاشوراء، أي إلى الكتلة الشيعية المتحزبة والمتراصة، تطرق الانشقاق هذا نذير خطر. وكان من آثار إعلان الحركة الطفيلية إسراع وفد من كتلة "حزب الله" النيابية إلى بعبدا، واستعادته برنامج الأمين العام الأسبق بين يدي السيد الهراوي، وإيفاد الحزب نفسه وفداً آخر إلى الحريري حاملاً مذكرة بالمطاليب والحاجات إياها. واحتشد نواب البقاع كلهم، على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم، كتلة واحدة، وكتبوا مذكرة بمطاليب المحافظة المحرومة، فأحصوا في المذكرة كل ما قد يخطر ببال بقاعي من أحلام ورغبات: الكهرباء والماء والطرقات والمدارس والإدارة والصحة والمسالخ والنقل العام. و"استجابت" الحكومة المناشدات المرتفعة والمُصعدة اليها من كل صوب. فتحلق وزراء الزراعة والإسكان والتعاونيات والصحة والموارد المائية والكهربائية والأشغال والشؤون البلدية والقروية حول رئيس مجلسهم، و"قرروا" إنشاء سدود الري على العاصي واليمونة، وتجفيف سهل عيحا، وجر مياه الشفة من عيون أرغش واليمونة ويحفوفي أبلح، ووعدوا بلاد بعلبك والهرمل باستتمام الصرف الصحي فيها، وبتعبيد الطرق حيث يلزم، وتوجوا وعودهم بوضع سرايا جديدة على هامة الهرمل. أما من أين "للدولة" هذا كله، فجأة في 30 حزيران يونيو غداة نحو شهرين على إعلان الحركة وأربعة أيام على حرق الطفيليين، بضاحية الضاحية الجنوبية، محرقة حي العمروسية للنفايات - فليس سراً. ففي 25 أيار كان مجلس الوزراء "رصد"، أي أدرج في دفاتر الخزينة وحساباتها الدفترية، 150 بليون ليرة لبنانية تصرف على "بعلبك والهرمل وعكار والمناطق المشابهة". وهذا على وجه التدقيق والضبط. وكان مجلس الوزراء نفسه، وعلى نحو أكثر دقة وضبطاً، زاد في 10 حزيران، أي قبل أسبوعين من "قراراته" السخية، الرسوم الجمركية على السيارات المستعملة والمستوردة. فثارت ثائرة بعض النواب والنقابات، ثم هدأت. وغداة ثلاثة أشهر على زيادة الرسوم هذه أقر الوزراء الجدول رقم 9 في تشرين الأول. لكن 13 وزيراً كانوا، في نهاية أيلول سبتمبر، خذلوا رئيس مجلسهم، واقترعوا على إبطال "خطة إعمارية" تبلغ تكلفتها 800 مليون دولار، وتمول من رسوم جديدة على بعض سلع الاستهلاك الفاخر وعلى سلعة البنزين المشتركة والشعبية. وكان الحريري اقترح في منتصف تموز يوليو اقتراض بليون دولار من الأسواق المالية العالمية تنفق على إنجاز المشروعات الكبرى، التي أحصت الخطة اللبنانية إلى "مؤتمر أصدقاء لبنان" أبرزها وأكثرها تكلفة. فرد "اللقاء الوطني" على الاقتراح بالقول إنه نعي متأخر لپ"مؤتمر أصدقاء لبنان". لكن نعي وعود المؤتمر لم يطوِ السياسة الحريرية، ولم يصدع ركنها. ويقوم هذا الركن على تمويل المصروفات العادية، ومعظمها رواتب الموظفين والقوات المسلحة وقوى الأمن والأجراء، والمرافق العامة، من كهرباء وماء وطرقات، وخدمة الدين العام، إلى تمويل المشروعات الإنشائية، جميعاً وفي آن، من الموارد الجارية، ومعظمها من الرسوم والضرائب على الاستهلاك الشائع، ومن القروض الخارجية، بفوائد مرتفعة، وبعض الهبات. وتقسم هذه السياسة الطاقم الحاكم، وهي مدار الخلافات التي تثور بين أقطاب الحكم و"رؤسائه" الثلاثة أو "الترويكا"، وهم حقيقة وفعلاً، إثنان. فيقدم رئيس المجلس النيابي، وهو رئيس حركة "أمل" أولاً، والطامح إلى تمثيل الشيعة ومنازعة "حزب الله"، النشط وصاحب الموارد الإيرانية، الصدارة والتمثيل الشعبويين، الاعتبارَ السياسي والشعبوي، أي الإعالة والرواتب والتوزيع، يقدم الاعتبار السياسي على الموازين والاعتبارات المالية والاقتصادية. ويحمله هذا التقديم على مساندة المطالبة الشعبية الدائمة بزيادة المداخيل وفرص العمل وتقليل الأعباء، من غير التخلي عن خطط "التنمية" وتوسيع السوق، من طريق الأبنية التحتية وتعميمها على المرافق والمناطق كلها. وتعود هذه "السياسة" على بطلها الشيعي والشعبوي بعائد حيوي لا يستقيم دوره إلا به، وهو استيطان "استعمار" الإدارات والوظائف العامة وملؤها بالأنصار، والتوسل بالمال العام إلى إعالة "جماهير" الحركة وشراء إقامتها على الولاء الانتخابي والسياسي لها. ولا يستقيم إحكام القبضة الإقليمية على الدولة اللبنانية إلا باستيطان الإدارات والإعالة لقاء "المقاومة" والولاء، وتقليل الأعباء. أما الدور الذي يضطلع به الحريري على رأس الحكومة، ومجلس الوزراء، فهو موازنة السياسة الشعبوية و"الجماهيرية" هذه بسياسة مالية واقتصادية أكثر تعقلاً وأقدر على الدوام، تقي الدولة الانهيار المالي، من غير اشتراط شروط سياسية تضعف القبضة الإقليمية على لبنان وتستجيب مطاليب اللبنانيين في الحرية والمسؤولية عن القرارات السياسية والاقتصادية الكبيرة. وأدت المنازعة بين الدورين إلى فصل من فصول "دراما الرؤساء" المستمرة. فبعد أشهر من التجاذب في شأن الانتخابات البلدية والاختيارية. وبعد إخفاق خطة الحريري رصد 800 مليون دولار لإنجاز مشروعات إنشائية واقتراع الوزراء الشيعة المقربين من رئيس المجلس النيابي ضد الخطة وإحباطها تالياً، إلى الخلاف القديم المستحكم بين الرجلين على النفوذ والحظوة وعلى السبل اليهما - ومن هذه السبل الإسهام في ترجيح رئيس جمهورية، أو حظوظه، على رئيس آخر - بعد هذا جمع الهراوي الحريري ونبيه بري ببعبدا، في النصف الأول من تشرين الأول، فخرج الرجلان بالاتفاق على اجراء الانتخابات البلدية قبل نيسان 1998، على خلاف رغبة الحريري في التمديد للمجالس القائمة. واتفقا على إخضاع الصناديق المستقلة الجنوب، المهجرين... والبلديات والمؤسسات العامة للرقابة على مصروفاتها ووجوه هذه المصروفات، خلافاً لرأي بري ومصالحه. وقايض الحريري قبوله بإنشاء المكتب الوطني للدواء. وهو مكتب أراده بري وأعدّ له مديره، بإقرار المداورة بين الطوائف في الوظائف الكبيرة، ومنع التوظيف والتعاقد في الإدارات "إلا وفقاً للأصول"، وعلى أن يقدم الإداريون، من الملاكات، على غيرهم، في تعيينات الفئات الأولى - وهذه من الأماني المزمنة التي لا ضير في تدوينها للمرة الألف تقريباً. وترجم الرجلان اتفاقهما "ورقة إصلاحية" جرت مناقشتها طوال شهر وثلث الشهر، وأشركا في مناقشتها وزراء ونواباً مقربين، أعلنت في مستهل الأسبوع الأخير من تشرين الثاني نوفمبر، ونصت على دمج وزارات ومؤسسات عامة وكانت السنة استهلت بفصل وزارة الصناعة عن وزارة النفط، و"تفعيل" الرقابة الإدارية والمالية، وتعليق التوظيف، وإلغاء التعاقد مع بعض المستشفيات الخاصة، وإلغاء التعويضات الخاصة وتعويضات المستشارين. وهذه كلها أبواب انتفاع السياسيين من المال العام، وهي أبواب لم يحجم الحريري عن ولوجها ودخولها، لكنه يرمي بها، وبتهمتها، مُحقّاً، السيدَ بري وأمثالَه. ونظير ضبط النفقات، وهي السياسة التي يرفع الحريري لواءها، اقترحت "الورقة" جباية ضريبة واحدة على المبيعات تبلغ واحداً في المئة من قيمتها، وضريبة على الأملاك البحرية تنتظر المباشرة منذ عقود، واعادة هيكلة الدين العام من طريق إحلال قروض خارجية محل بعض الدين الداخلي، الباهظ الفائدة، وخفض خدمة الدين تالياً. ويفترض بري، "وحزبه"، أن البنود هذه تقيد يد رئيس الحكومة المزمن عن الاستدانة من الخارج، حيث حظوته الشخصية مصدر قوة له، وحيث صداقاته وعلاقاته تنيط به هو ضمان السياسة التي ينتهجها. وهو لا يدين بصداقاته وعلاقاته هذه لا لمكانته السياسية الداخلية، ولا للسياسة السورية، ولتنصيبها من تُقرِّب وإضعافها من تُبعد. وهذا ينتهك بعض الشيء ميزان السياسة السورية في لبنان، وتصرفها غير المقيد في المراتب والمناصب. فليس الحرص على "غد الأجيال اللبنانية الآتية" هو العلة في طعن نبيه بري، أو نجاح واكيم وزاهر الخطيب، على سياسة الحريري المالية والاقتصادية، وفي تشكيكهم فيها. فمثل هذا الحرص، لو كان صادقاً، لحملهم على الدعوة إلى سياسة تقشف قوامها التضامن الداخلي وما يشترطه التضامن من استقلال وسيادة، على ما تنبه الحريري. لكنهم، هم و"حزبهم"، لا يدعون إلى سياسة تقشف، بل إلى نقيضها. فلا يستغنون لا هم ولا أولياؤهم، عن الحريري وحظوته وعلاقاته. ويدور شطر من الحياة السياسية اللبنانية على "المسرح" الرئاسي ومنازعات "الرئاسات". ويضطلع الدَّيْن، أو الاستدانة، بدور الفارق بين أجنحة العروبة السياسية المتسلطة والمسلطة على مصائر اللبنانيين منذ نحو العقد من الزمن. * تُنشر المقالة مع كتاب "المرجع - كساندر" 1997، السنوي، وهي جزء من مقالة الكاتب فيه. * كاتب لبناني