يرتكز حازم صاغية في إثبات اختلاف رئيس الوزراء اللبناني السيد رفيق الحريري عن الطاقم السياسي الحاكم في لبنان، الى افتراض بديهي، ينطلق من موت السياسة في لبنان عموماً "الحياة"، في 21 آب / أغسطس 1998. ومديح الحريري، في هذا المعنى، يتأتى من طريق إحياء بعضها. فلا يرى صاغية وهو يقرأ في السياسة اللبنانية بصيص نورٍ الا في وهم الحياة وشبهتها التي يضفيها الحريري على هذه السياسة. وهذا ما يسوّغ في رأيه مديح الحريري. "فمع رئيس الحكومة السيد الحريري، نحن حيال مشروع يبدو للوهلة الاولى قابلاً للتأييد قبوله للمعارضة، غير انه يتسلح بمواصفات ربّما كان اهمها تضمين السياسة ببعض المعنى". وهذا بيت القصيد. فبعيداً عن رسم المسار الذي سار فيه كتّاب ومحللون آخرون في تحولهم الى تأييد سياسة الحريري، والذي كانت اولى خطواته تشبه الخطوة التي قام بها صاغية، بحجة الدفاع عن بقاء السياسة حيّة ولو في غرفة العناية الفائقة، وهذا لا يؤمنه غير الحريري للسبب عينه الذي سبق ذكره. وبعيداً عن تخيّل هذا المسار واعادة ترسيمه خطوةً خطوة، فإن الكاتب يَغفل عن مانع الحياة السياسية من التجدد ومن ان تتضمن معنى لا بعضَهُ. فهو يضيف الى وصف الحريري هذا وصفاً آخر يتعلّق بأقسام "السياسة" والمواقف المرتبطة برئيس الحكومة اللبنانية، بنبرة جديدة هي الاخرى، مفادها تحميل المسؤولية للبنانيين تبعاً لما صنعوه بأنفسهم ولأنفسهم في الحرب... ويبقى هذا الكلام او النبرة مغايراً للغات السياسية اللبنانية التي تترجح بين تمجيد الحرب واتهام "الخارج" و"حروبه على ارضنا". وبين هذه الصفة والصفة السابقة المتعلقة بتضمين السياسة اللبنانية بعض المعنى، يسوق صاغية وصفاً آخر للسياسة الحريرية مفاده التحام "السياسة التحاماً وطنياً مع الحريري، فمن حوله يمتد الاصطفاف من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، محدثاً اختراقات تطول المناطق كلها، كما تطول الطوائف جزئياً". ويدلّل على صحة حكمه هذا "ولو في حدود نسبية" بحقيقة "ان بعض قدامى اليساريين الذين فكروا ذات مرة في الانقلاب على نظام الطوائف، وجدوا انفسهم ينتهون في الخانة الحريرية وطاقمها". وأخيراً فإن الحريري، بحسب صاغية، "بالقياس الى منافسيه من اقطاب السياسة اللبنانية، يبدو الاقل سورية، بالضبط لأنه الاكثر امتلاكاً لمشروعٍ لبناني من طرازٍ ما". على هذه الصفات يستقيم مديح الحريري. اما سبب هجائه فلأنه لا يذهب في هذه الاتجاهات حتى نهاياتها. والحق كان الحريري يستوجب المديح ويستجلبه لو انه يتمتع بهذه الصفات او بعضها على الاقل. وفي العودة الى مشروع الحريري اللبناني "من طراز ما" ينتبه الكاتب الى المعوقات التي تمنعُ هذه اللبنانية من التحقق. فيميل بعضها الى معارضة حرّاس الذاكرة، وبعضها الآخر الى عقلية الحرب. لكنه حين يصل الى مناقشة شأن من الشؤون الاكثر خطورة، كمسألة الحرب الدائرة في جنوبلبنان، فإنه يؤدي، بحسب رأيه، الى تكريس الحريرية في الموقع السنّي باعتبار ان المقاومة شيعية. وهكذا فلنا ان نتصور ان حلاً سلمياً بين لبنان واسرائيل، قد يؤدي الى اختراق حريري واسع للطائفة الشيعية، تجعل من الرجل شبه فؤاد شهاب آخر. لكن الكاتب لا يتساءل عن السبب الذي يجعل الحريري، وهو رئيس الحكومة، يُمعن في سياسته الاقتصادية المؤدية الى تعاظم حجم الدين العام، والموغلة في الانشاء والتوسيع واعادة الاعمار، في بلدٍ تدور فيه حربٌ قاسية على مبعدة اقل من ثمانين كيلومتراً من قلب العاصمة. بل يذهب الكاتب الى تنبيه السياسة الحريرية لكون "الاعتبارات السياسية والامنية لا تزال تشكّل عنصراً طارداً للاستثمار في بلدٍ كلبنان". فإذا كان الحريري يتمتع بالصفات التي ذكرت من قبل، فكيف له ان يغفل عن امرٍ بهذه الخطورة والجدية. فيسعنا القول مع الكاتب، ان ذلك مرده دوران الحريري في "فنجان" السياسة السورية الضيّق. لكن هذا السبب لا يكفي وحده لتفسير هذه الحمى العمرانية. الا اذا كان الحريري يتمتع بصفة اخرى غير التي ذكرها الكاتب الا وهي "الغباء". والارجح انه لا يتمتع بها، على الاقل في ما خص الاقتصاد والسياسة الاقتصادية. فهو لا يغفل عما يجري في الجنوب، وهو لهذا السبب يقوم بجولاته المكوكية شرقاً وغرباً. وللسبب عينه، تأخذ الصحف تطميناته على محمل الجد، ولا تتفحصها او تناقشها. فما الذي يحاول الحريري تجنيبه نار الحرب؟ الارجح انه ليس لبنان. فبحجة الحرب الدائرة في الجنوب، ما زالت الكهرباء تنقطع بانتظام هناك، وما زال التقنين في ساعات التغذية مستمراً من دون اعلان، وما زالت الخدمات الاساسية غير متوفرة في معظمها. فيقع الجنوبيون بين مطرقتين او بين مطرقة وسندان. وهكذا يظهر الحريري اكثر لبنانية من غيره من الطاقم الحاكم. لكن الامر لا يقف عند هذا الحد. فالناظر الى بيروت اليوم بعد غياب قصير، كحال صاغية، لا بد وأن يذهله حجم "الانجازات" العمرانية على هذا الصعيد. فإذا كان كل هذا البنيان في العاصمة موضوعاً ومعد لخدمة اللبنانيين، وتصريفاً لشؤونهم، فهذا والله سَرَف لا سَرَف بعده. الارجح ان الحريري يبني جزيرة هادئةً مطمئنة لتجارةٍ متعددة الجنسيات، يدفع اثمانها اللبنانيون على كل الصعد. فيمعن في تحميل اللبنانيين الاعباء المالية المترتبة على بناءِ هذه الجزيرة. وفي الوقت نفسه يأمن شر اعتراضهم وشكواهم وتذمرهم. اذ تقوم الادارة السورية حاجزاً بينهم وبينه. فيؤدي تضخم حجم العمالة السورية الرخيصة الاجر الى ضرب ما تبقى من الابنية النقابية في البلد، ومنع تشكلها من جديد. اما ما بقي منها متمتعاً ببعض اعصاب الممانعة، فتقوم السياسة السورية بلجمه واحتوائه. ويؤدي التسليم الحريري، في السياسة الخارجية والامن، الى سورية، الى تحميل غيره تبعة القمع ومسؤوليته. فيظل نظيف الكف مغلوباً على امره مثلما رآه صاغية، ومثلما يريدنا ان نراه. وتقوم الاداة الامنية والسياسية السورية بمنع الاعتراض من بلوغ الحدِّ الذي قد يؤدي الى اهتزاز صورة الحريري في السلطة. وهكذا يتحمل اللبنانيون اعباءَ المغامرة الحريرية، فيما يضطلع بمهمة البناء، توظيفاً ويداً عاملة، جهاز الحريري الضيّق والعمّال المهاجرون، ولا يستطيع اللبنانيون الذهاب في الاعتراض بعيداً لأن الهراوة الاقليمية فوق رؤوسهم. ولنا ان نتحدث بعد كل هذا عن تميّز الحريري ولبنانيته المزعومة. وحين يتحدث صاغية عن النبرة الجديدة في خطاب الحريري وجهازه، ينسى ان قدامى اليساريين كانوا مسؤولين عن الفكر الذي ادى الى هذه الحرب اللبنانية - اللبنانية. اللهم الا اذا كان مجرد التحاقهم بجهاز الحريري يكفي للتنصل من تبعات الحرب ومسؤولياتهم عنها، حين يقبل الحريري توبتهم الصادقة. ثم ما دامت الحرب لبنانية، على الاقل في بعض جوانبها، مستمرة، فأين الحريري منها؟ ام ان صاغية يرى سبب الحرب تفلُّت بعض زعران الازقة وميليشياتها من كلِّ قيد، ولا يراها حدثاً تاريخياً ينبغي معالجة اصوله وقراءة مسبّباته ونقدها؟ او انه يرى الحريري غير لبناني اصلاً وسياسة ودوراً؟ بين مقال صاغية وهذا الرد بعض الوقت. وفي الاثناء دافع نائب الرئيس السوري، السيد عبدالحليم خدام، عن موقف الحريري في شأن سلسلة الرتب والرواتب في وجه السيد نبيه بري. ثم اطلاق سراح سهى بشارة، فحضرت ضيفاً دائماً على شاشة تلفزيون "المستقبل"، وطمأن الحريري اللبنانيين استناداً الى اتصالاته الدولية الغامضة، ان لا خطر اسرائيلياً على لبنان. وهذا غيضٌ من فيض، لكن الردَّ لا يأخذ كل هذه الحوادث الدالة حُجةً يحتج بها. لأن مديح لبنانية الحريري وضعف سوريته بدا منذ زمن حجة ساقطة في لبنان. * شاعر وصحافي لبناني