شكل "حزب العمل الشيوعي" في سورية منذ تشكيله ارهاصاته الأولى عام 1972 في جامعة حلب إلى حين تفكيك آخر شبكاته في أوائل عام 1992، نوعاً من منظمة شبابية راديكالية، تنتمي إلى فضاء الظواهر اليسارية الجديدة التي انتشرت طبعاتها الماركسية غير المسفيتة بعد نكسة حزيران يونيو 1967. إذ كانت الماركسية الجديدة أو غير المسفيتة زياً ايديولوجياً سياسياً رائجاً بين الشبيبة الراديكالية في السبعينات لا سيما في الجامعات السورية. وقد تميز هذا الحزب بقدرته على إعادة بناء نفسه، وإحاطة دوره بكثير من الخطابة والاستعراض والكلمات الكبيرة. وهو ما يعكس أوهامه "الطبيعية" النخبوية عن نفسه في تثوير الأحزاب الشيوعية السورية، التي بينت التجربة أنها أثرت فيه، وكونت لديه اتجاهاً مسفيتاً، أكثر مما أثر فيها. وتشير نتائج تحليلنا لتركيبة العضوية في هذا الحزب، إلى أنه باستثناء ما نسبته 15 في المئة من الوسط الإسلامي المديني، بما فيه الأكراد والشركس، فإن معظم الأعضاء الآخرين تحدروا من أبناء الشرائح الدنيا في المناطق الريفية المهمشة، التي شكلت في الخمسينات والستينات خزان الحركات الراديكالية، ووقودها الأكثر حيوية واشتعالاً. ويفسر ذلك جزئياً النزعة العصيانية والتمردية لشبان الحزب، على منظومة التقاليد والقيم الاجتماعية السائدة، التي عززها استلهامهم لكتابات ويلهلم رايخ عن السياسة الجنسية. وتميزوا عن كافة التنظيمات السياسية السورية بالحجم الكمي والنوعي للفتيات المتمردات في صفوفهم. تشكل الحزب في إطار "حلقات ماركسية" بدأت عام 1971 في جامعة حلب، وانتشرت في جامعة دمشق، وحملها الطلاب أو الخريجون إلى محافظاتهم، ولعب أحد رواد هذه الحلقات الذي سيلمع اسمه في الجو الجامعي والسياسي في السبعينات، وهو المهندس الكهربائي الشاب فاتح جاموس، دوراً حاسماً في ربط الحلقات المستقبلة وتشبيك الخيوط في ما بينها، إذ أثمر نشاطه في أواخر عام 1974 عن عقد أول اجتماع موسع لمندوبي الحلقات نتج عنه ما سمي ب "دراسة شباط 1975" التي قدمت الإطار الايديولوجي العام لتوحيد الحلقات المختلفة في شكل استعراض للتيارات الماركسية المختلفة ونقدها. ومهد إقرار إطارها العام إلى انعقاد المؤتمر التوحيدي للحلقات الماركسية في آب اغسطس 1986، وانبثاق "رابطة العمل الشيوعي" عنها. وقد أقر المؤتمر دليلاً نظرياً للرابطة سمي ب "الخط الاستراتيجي". ويتألف من 31 كراساً، كان محررها الأساسي طالب الطب النابه في جامعة دمشق هيثم العودات مناع، الذي سيلمع اسمه لاحقاً في مجال منظمات حقوق الإنسان في العالم، وهو ابن محام اعتقل في أيار مايو 1970 لصلته القيادية بتنظيم سري موالٍ للقيادة القومية العراقية. وتعالج الكراسات رأي الرابطة في القضايا الدولية والعربية والفلسطينية والداخلية ومسائل الوحدة العربية والأقليات وغيرها. وعلى رغم أنها ما انفكت طوال نشاطها تؤكد على هدفها ببناء "أمة عربية اشتراكية واحدة"، إلا أنها تبنت مفهوماً للأمة، يتلخص في أن العرب يشكلون قوميات وليس أمة، وأن تطورهم يسير باتجاه تشكيل أمم مصرية وسورية وعراقية عربية وهلم جرا، كما أقرت مبدأ حق تقرير المصير للأكراد، الأمر الذي جعل بعض الراديكاليين الأكراد يجدون محلاً لهم فيها. وانفردت الرابطة عن جميع المنظمات اليسارية بطرح اسقاط النظام. تحدر رواد الرابطة منذ أيام الحلقات إما من حركة الاشتراكيين العرب أكرم الحوراني أو من البعثيين الشباطيين جماعة صلاح جديد التي سيطرت على الحزب والدولة إثر حركة 23 شباط/ فبراير 1966 في سورية. وقد تم توسعهم الفعلي في الأوساط الشباطية إلى درجة أنهم تمكنوا عام 1978 من قضم معظم كوادر تنظيمها السري في جامعة دمشق. ولم يؤثر انضمام الشباطيين إلى ما سمي ب "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي أعلن في آذار مارس 1980 على علاقتهم الجيدة معهم، بل اعتبروا أن التنظيم الشباطي يقع ما بينهم وبين التجمع. ومع أن الرابطة لم تعتبر نفسها منذ البداية حزباً شيوعياً، بل حالة فكرية وسياسية ماركسية ضاغطة على الحزبين الشيوعيين اللذين يقودهما كل من بكداش ورياض الترك، فإنها قدمت نفسها ك "مشروع نواة لتأسيس حزب شيوعي ثوري"، وقيّمت "المكتب السياسي" رياض الترك كحزب شيوعي "أكثر ثورية" من الحزب البكداشي "الاصلاحي"، على حد تعبيرها، إلا أنها اعتبرت "ثورية" المكتب السياسي "ناقصة ما دام يتمسك ببرنامج المؤتمر الرابع، وبمقولة التطور اللارأسمالي، ويشارك في مؤسسات الجبهة والدولة. من هنا بدأ التقارب الفعلي ما بين الرابطة والمكتب إثر انسحاب هذا الأخير من الجبهة في أوائل عام 1976، وتبنيه خطاً تصعيدياً سياسياً، إذ فتح عضوها القيادي الفاعل فاتح جاموس حواراً مع مندوب قيادي من المكتب، بهدف الاندماج معه، إلا أن المكتب، على ما يبدو، ارسل مندوبه للاستطلاع من دون أي تفويض. وتوقف الحوار كلياً ما بين الطرفين، إثر اكتشاف المكتب محاولة الرابطة اختراقه، حيث أصدر المكتب قراراً بقطع أي حوار حزبي مع أعضاء الرابطة يتخطى الصفة الشخصية. وقد أصاب ذلك "الرابطة" بصدمة، حيث انتقلت إلى مواقف عدائية صريحة من المكتب. إلا أنه وإثر حملتي آذار 1977 وأيار 1978 طرح منظّر الرابطة هيم العودات مناع عدم جدوى استمرار الرابطة، واقترح حلها والانضمام إلى المكتب. ووجد نفسه وحيداً في لجنة القيادة، حيث انضم مع بضعة كوادر إلى المكتب. أدى خروج مناع من الرابطة والتحاقه بالمكتب إلى بروز دور أصلان عبدالكريم، وهو شركسي من قرية دير العجل في منطقة السلمية ذات العواطف اليسارية الجديدة. وارتبطت به توجهات الرابطة نحو "التسفيت"، حيث أخذت بعد عام 1978 تتبنى مواقف "سوفياتية" خالصة في القضايا العالمية. وفتحت حواراً عميقاً مع كتلة يوسف نمر المنشقة عن رياض الترك عام 1978، وكتلة مراد يوسف المنشق في كانون الأول ديسمبر 1979 عن بكداش، وحاولت فتح قناة لها مع السوفيات عن طريق السفارة اليمنية الجنوبية وبعض المنظمات الفلسطينية اليسارية. وقررت في آب اغسطس 1980 فتح علاقة حوارية مع البكداشيين من دون أية شروط تحت شعار "دحر التحالف الرجعي الأسود" إلا أن العلاقة لم تتجاوز الحوار مع بعض أعضاء المنطقيات البكداشية وبشكل فردي. إبان ما يعرف بأزمة الثمانينات في سورية، جمدت الرابطة شعارها ب "اسقاط النظام" وطرحت شعار "دحر التحالف الرجعي الأسود". وحاولت أن تنتسب إلى "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي أعلن في آذار 1980، إلا أن المكتب السياسي وضع فيتو على ذلك، فظلت الرابطة خارجه. وتم إبان تعبير السلطة عن رغبتها في الحوار مع المعارضين، الافراج عن معتقلي الرابطة، ودخلت السلطة معهم في حوار بوساطات غير مباشرة أدارها محمود الايوبي نائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية. واعتبرت الرابطة حين تطورت إلى حزب العمل أن "التجمع الوطني الديموقراطي" "متأثر بدرجة مختلفة بموقف الحركة الدينية وهو يدور في فلكها بشكل أو بآخر. ووصل الأمر ببعض أطرافها كالمكتب السياسي إلى حد طرح تحالف مع الاخوان المسلمين". لقد أصبح عداء الرابطة للمكتب بقدر ما تبنت مواقف أكثر ايجابية من بكداش. من هنا تصف نشرة داخلية لها في تشرين الثاني نوفمبر 1980 رياض الترك ب "الإصلاحي" وب "التحالف والتعاون مع الاخوان المسلمين". وحين أصدر ميشيل عيسى عضو المكتب السياسي بياناً يحمّل الترك مسؤولية التعاون مع الاخوان، فإن الرابطة قامت في كل مكان بتوزيعه. وعقدت الرابطة في آب 1981 مؤتمراً لها في منزل زاهر الخطيب، الأمين العام لرابطة الشغيلة في لبنان وحليف سورية اليوم، وحضر المؤتمر 35 مندوباً، تمخض عنه انتخاب لجنة مركزية 17 عضواً ومكتب سياسي 5 أعضاء، وبذلك تحولت الرابطة من أداة لتثوير الأحزاب الشيوعية إلى حزب شيوعي جديد. وقاطع الجناح التروتسكي، الذي بات ضعيفاً بعد سيطرة أصلان على التوجهات "المسفيتة" في الرابطة، الانتخابات ولم يشارك في قوام اللجنة المركزية فخرج فعلياً من الرابطة. خلال أزمة "فتح" تحالف الحزب مع معارضي عرفات، وشكل معهم "اللجان الشعبية" التي نشطت بكشل علني في مخيم اليرموك في دمشق، وقاتل بعض أعضائه في أواخر 1983 ضد عرفات، وحقق الحزب صعوداً مرموقاً في الثمانينات، نتج عن غض السلطة نسبياً النظر عنه وتفكيك المعارضة اليسارية الأساسية، مع ملاحظة أن أقصى رقم وصل إليه في حجم العضوية هو 400 عضو، وان حجم أعضائه عام 1980 لم يتجاوز 250 عضواً، إلا أن قيادته لتظاهرة آذار 1986 في عيد النوروز الكردي أدت إلى تلقيه ضربة محكمة وإن لم تكن قاضية. وتمت الضربة القاضية على خلفية اعتقال الحزب لأحد المعاونين التنظيميين الأساسيين في منزل في دمشق بتهمة إفشاء أسرار الحزب وكشفه أمام أجهزة الأمن. وتم تعذيبه، وقتله بشكل بطيء، وتقطيع أوصاله عضواً عضواً ومن ثم التمثيل به. لم يبق طليقاً من كامل قيادة الحزب سوى الشاب عبدالعزيز الخير الذي حاول إعادة بناء ما تبقى من الحزب، وإصدار نشرته "الراية الحمراء". وقد استهلم الخير منظورات عملية البيروسترويكا السوفياتية الجارية يومئذ، فحول مسار الحزب الذي تميز تقليدياً بربطه ما بين الديموقراطية والاشتراكية، ورفضه لأي تعاط مع المفاهيم الديموقراطية، حيث شكل "لجنة الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان" في عام 1989 والتي فككت في كانون الأول 1991 بموجب قانون "الجمعيات السرية"، كما استغل الفوضى التي حصلت في الحزب الشيوعي السوري بكداش في دمشق، وشكّل "تجمع الديموقراطيين الثوريين" الذي لم يستمر. فسار الحزب فعلياً، الذي جففت التطورات السياسية بشكل تلقائي ينابيعه، في طريق الانحلال والتلاشي، ليصبح من الناحية العملية جزءاً من تاريخ "منجز" و"مكتمل". * كاتب سوري.