وفي حين انضم «الحزب الشيوعي اللبناني» الرسمي إلى تحالف 8 آذار الموالي لسوريا، التفت زمرة شيوعية أخرى حول محمد علي مقلد، وانتقدت قيادة الحزب الرسمية على موقفها المؤيد لسوريا. كما انتقدت «حركة اليسار الديمقراطي»، لإضعاف اليسار بعد انشقاقها عن «الحزب الشيوعي اللبناني». (51) وبعد اغتيال الصحافي سمير قصير، وهو أحد مؤسسي «حركة اليسار الديمقراطي»، ثم اغتيال جورج حاوي الأمين العام السابق ل «الحزب الشيوعي اللبناني» في 2 و21 يونيو 2005 على التوالي، وقع نزاع وتنافس شديدان حول إرثهما السياسي من قبل أسرهم و»حركة اليسار الديمقراطي». (52) ولم يتمكن «الحزب الشيوعي اللبناني» و»حركة اليسار الديمقراطي» أن يوقفا عملية تفكك وتفتت اليسار، حيث فشل كلاهما في جذب شباب أقصى اليسار، (53) وأثبتت انتخابات عام 2009 فشل كلا الحزبين. (54) وعندما تسبب الربيع العربي في مظاهرات ضد الطائفية في لبنان، لم يتمكن النشطاء اليساريون، الذين لعبوا دوراً قيادياً في المظاهرات، من الاستفادة من ذلك الزخم بسبب التناقضات الداخلية وتداعيات الأحداث في سوريا. (55) وبعكس لبنان، كانت سوريا هي أول دولة عربية يصل فيها نائب شيوعي إلى البرلمان. (56) وتحت حكم البعث، حصل شيوعيون على مناصب وزارية أيضاً، منذ عام 1966 ولاحقاً. وأيد الاتحاد السوفياتي المشاركة الشيوعية في «الجبهة الوطنية التقدمية»، منذ عام 1972، تحت تبرير «التنمية غير الرأسمالية». (57) وكانت قضية فلسطين واحدة من الأسباب الرئيسية لأول انشقاق كبير داخل «الحزب الشيوعي السوري» في عام 1972، بين زعيم الحزب خالد بكداش وجناح رياض الترك المعارض، (58) الذي كانت مجموعته تسمى «الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي»؛ لأنها ادعت تمثيل موقف الأغلبية داخل المكتب السياسي للحزب. وعندما تدخلت سوريا في الحرب الأهلية اللبنانية لمنع انتصار القوى اليسارية المؤيدة للفلسطينيين في عام 1976، أصبح جناح الترك أكثر انتقاداً للنظام السوري، وعندما طالب بالديمقراطية تعرّض للحظر. وبزغت مجموعات أخرى راديكالية ماركسية وناصرية واشتراكية انشقت من جميع أطراف «الجبهة الوطنية التقدمية» في السبعينيات، وعارضت سياسات الأسد. ونتج عن ذلك تاريخ طويل، مارست فيه الدولة السورية استمالة وملاحقة الشيوعيين والماركسيين. وكان معظم أعضاء اليسار الراديكالي خارج «الحزب الشيوعي السوري» الرسمي ضحايا لقمع الدولة للجماعات السرية اليسارية والإسلاموية في مراحل زمنية مختلفة خاصة في الثمانينيات، وقضى كثيرٌ منهم عقوبات لمدد طويلة في السجن. وأفرج عن معظمهم في التسعينيات وشاركوا بنشاط في ربيع دمشق (2000 - 2001)، وأسهموا سياسياً - بطريقة أو أخرى - في الانتفاضة التي بدأت في مارس 2011. (50) وعلى مدى السنوات العشر الماضية، طالبت جماعات معارضة بالدمقرطة، وإلغاء قوانين الطوارئ، والإفراج عن السجناء السياسيين. وعبّر الشيوعيون المؤيدون للدولة عن شكوكهم حول «التغيير الديمقراطي»، مجادلين بأنه من المستحيل معرفة من سيستفيد من الديمقراطية؛ (60) ولكن هناك في المعارضة من يزعمون أن فهم الديمقراطية سطحي في المجتمع السوري، وداخل المعارضة. (61) وفي مقابلات أجريت في عام 2003، جادل الماركسي السابق لؤي حسين ثمانية مثقفين حول الفرضية القائلة بأن مصطلح «ديمقراطية» قد تحوّل إلى مجرد «عصا سحرية» لتحقيق كل شيء في الخطاب السياسي المعاصر؛ بل حل محل مصطلحات أخرى مثل الاشتراكية أو الشريعة!! (62) ومن بين آخرين، أكد المفكر السوري (الراحل) صادق جلال العظم هذا الانطباع. وللأسف - يقول العظم - اختزل الكثير من الناس الديمقراطية في «حكم الأغلبية»، وحتى أعضاء المعارضة اعتقدوا أن حق المناقشة ينبغي أن يكون مقيداً؛ لأن هدفهم هو مواجهة النظام بجبهة متحدة. (63) وبالرغم من أن «الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي» والتجمع الوطني الديمقراطي، وهو ائتلاف من جماعات المعارضة، طالباً بالفعل بالديمقراطية في أواخر السبعينيات وفي عام 1980، فقد شكّك عالم الاجتماع السوري محمد جمال باروت في ما إذا كانت هناك حقا أحزاب ديمقراطية في سوريا. (64) وافترض باروت أن الطلب على الديمقراطية نتج أساساً من نية لاستبدال النظام. (65) أصوات فردية: من الجماعية(*) إلى التحرر وعدم الانتماء بالنسبة إلى كثير من الماركسيين، أدى انهيار الشيوعية السوفييتية إلى خيبة الأمل وإلى نوع من فرط النشاط. وأحدثت مرحلة البيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، التي دشّنها غورباتشوف عام 1987، المزيد من الحرية الفكرية والنقد الذاتي، (66) وحتى منتصف التسعينيات امتلأت صفحات مجلات يسارية مثل «الطريق» و»النهج» بمواد تشرح أن الماركسية لا تزال مناسبة للعصر وتوضح الدور الجديد الذي يمكن أن تلعبه. وكانت هذه مسائل لم يتم التطرق لها سابقاً على صفحات تلك المجلات. وأصبح من الممكن، بعد تلاشي الرقابة الذاتية الماركسية، كتابة مواد جديدة. وعند حديثه عن نمط الكتابة الجديد في أعماله الفنية والمسرح، اعترف الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس، المعجب سابقاً ببريخت، بأنه يشعر للمرة الأولى بأن «الكتابة تعني الحرية والبهجة». (67) ... ... ... هوامش المترجم: (*):الجماعية: (Collectivism) ملكية جماعية أو سيطرة الدولة على الإنتاج. (العيسى) يتبع ** ** ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء