الحرب قبل كل شيء هي مسألة التكاليف والمنافع. كانت الحرب ولا تزال احدى اشكال العلاقات بين الدول، فكل دولة تسعى الى ان تكون قوية وذات هيمنة لا بد لها ان تمر بتجربة الحرب. فاذا خرجت منتصرة فانها تفرض نفسها كقوة لا على الدولة المهزومة فحسب وانما امام الدول الاخرى ايضاً، خصوصاً تلك التي تقع ضمن مدارها الجغرافي - السياسي. وتبقى علاقة القوة حتى حرب اخرى. والمنتصر هو الذي يفرض شروط السلام وطبيعة العلاقات في فترة ما بعد الحرب. ولا يستطيع المهزوم في اكثر الاحوال الا القبول بالشروط المفروضة عليه. ولو كان المهزوم هو المنتصر لما فعل غير ذلك. هذا المفهوم عن الحرب قديم لم يتغير في العصر الحديث. ما تغير هو طريقة الحرب ذاتها. فاذا كانت تتطلب في العصور الكلاسيكية تهيئة الرأي العام وتعبئة الجيش ثم دفعه الى ساحة القتال، فانها، ومنذ الحرب العالمية الثانية، قد تصل الى تعيين المنتصر والمهزوم من دون ان يدخل الجيش في مواجهة حاسمة مع العدو. والحرب الباردة كانت واحدة من الحروب المعاصرة، فالمعسكر الاشتراكي انهار من دون ان تدخل جيوشه في مواجهة عسكرية مع جيوش الغرب الليبرالي او العكس. ولا احد ينكر بأن المعسكر الاشتراكي كان هو الخاسر. وارتضى تلك النهاية من دون استعمال ما لديه من الاسلحة النووية لتدمير الجانب الآخر. العراق خاض قبل سنوات حرباً معاصرة ولكن بذهنية وتكتيك كلاسيكيين وأسلحة يشبهها المتخصصون بأسلحة الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب العالمية الأولى. خصوصاً اذا قورنت بالاسلحة التي استعملها الاميركيون. ويمكن اجراء المقارنة نفسها في ما يتعلق بالطريقة والذهنية التي ادار الاميركيون وحلفاؤهم فيها الحرب. وبشكل آخر، يمكن تشبيه حرب صدام الاخيرة بحرب عنترة بن شداد حاملاً سيفه ليحارب الدبابات المتقدمة من بعيد والتي تصعب حتى مشاهدتها. او حرب المكوار والطوب، كما يقول العراقيون. مثل هذه الحرب واضحة من مفهوم التكاليف والمنافع. انها حرب وهمية بالنسبة للضعيف، كانت ولا تزال. اي ان النتائج جلية قبل الدخول في المواجهة. ومن يؤمن بحروب صدام كحروب حقيقية، تلك التي يذهب اليها المحاربون مؤمنين باحتمال الوصول الى بعض المنافع او النتائج الايجابية، وعدد من يؤمن بذلك كثير، يجدر بهم العودة الى تكتيك الكر والفر المعروف في التاريخ العربي وعند الشعوب التي مرت بمرحلة البداوة. لكن البدو المحاربين كانوا اكثر وضوحاً في فهم قانون الحرب ممن يؤمن بأن صدام حارب ولا يزال يحارب الاميركيين. البدو لم يكونوا يهاجمون الا اذا تيقنوا من ان هناك فرصة للفرار. اما صدام فانه كرّ على الكويت لكنه لم يرد ان يفر طمعاً بالغنيمة وظناً منه انه سيترك هناك. ولكن، يبدو ان ليس امامه، بعد ان انسحب ووقع ما ارادوا له ان يوقع، فرصة للفرار. فعليه ان يطبق تماماً ما يريده منه اعداؤه الذين انتصروا عليه، كما ينص قانون الحرب. فخسارته كانت حقيقية. اما حربه ومقاومته فهما وهميتان، الا على من يصعب عليه النظر الى المسائل كما هي. ولا عيب في ان يحتاج الانسان الى الايمان بالاوهام، ما دام الايمان لا يضر بأحد ويوفر الطمأنينة والراحة العقلية والنفسية. لكن النظام العراقي شن حروباً حقيقية منذ ثلاثين عاماً. اولها وأعتاها هي التي يشنها على العراقيين انفسهم وبكل اتجاهاتهم وانتماءاتهم. كان ولا يزال نجاحه في هذا المجال غير قابل للشك. فصدام هو الذي دفع بجيش العراق وشعبه الى ساحة حروبه الشخصية والتي لم يكن للعراقيين فيها اية منافع. فقادت الى ما يزيد عن مليون قتيل وأنجبت مئات الألوف من المعوقين جسدياً، اما المشوهون نفسياً فعددهم لا يمكن ان يقدر. وحتى اولئك الذين عاشوا في كنف السلطة وذاقوا من طيباتها لم ينجوا من آلة الموت. لأن ما حصلوا عليه لم يكن بلا مقابل. كا عليهم ان يقتلوا في انفسهم الشيء الكثير من الانسانية ويربوا فيها روح العدوانية والعنف، وكذلك روح الخضوع والخنوع المطلقين. فهم ايضا وبشكل من الاشكال ضحايا مع كونهم من حظيرة الجلادين. الشهادات التي اخذت تنتشر ما بين فترة وأخرى تدل على الحال البائسة لأولئك الذين ركبوا قطار النظام. ودفعت حروب صدام عددا هائلاً من العراقيين الى الهروب من العراق والتسكع في دول اخرى طلبا للقمة العيش او الاستمرار في الحياة بعيدا عن الآلة القامعة للدولة العراقية. ناهيك عما يقال حول النساء اللواتي لم يعد لديهن شيء لبيعه غير انفسهن. اما الحرب الاخرى التي قادها صدام وانتصر فيها فكانت ضد الشعب الايراني، لا الدولة الايرانية وحكومتها. فهناك ايضا ما يقرب من مليون قتيل وجريح ومعوق نتيجة الحرب التي دامت ثماني سنوات. بدأت لأن صدام اراد ان يسترجع ما تركه لايران في اتفاقية آذار مارس عام 1975 التي وقعها بنفسه مع شاه ايران. ثم تصور ان ضعف السلطة المركزية في ايران فرصة لشن حرب خاطفة يخرج منها بعد ايام بمنافع مختلفة. فاذا به يقوي النظام الايراني ويقتل من الايرانيين تلك الاعداد الهائلة ويشرد اكثر من مليون انسان من ديارهم، منهم اغلبية عربية. وحربه الاخرى كانت على الشعب الكويتي. حيث قتل منه من رفض التعاون وغنم ما استطاع اخذه خلال ستة اشهر واحرق ما لم يستطع اخذه حين اجبر على الخروج. وحربه التي انتصر فيها ايضا كانت ولا تزال على الشعب العربي وعلى ثرواته وسمعته. فخلال حربيه هدر المليارات تحت القنابل وعرض ممتلكات لا يمكن تقديرها للدمار. وجعل من المنطقة مختبراً لتجارب الاسلحة الحديثة. واضطرت الدول الغنية الى صرف اعتماداتها ورساميلها. فلم يستفد غير الغرب من تلك الأموال العربية. ولم تنتج من حروبه منافع تذكر للقضية الفلسطينية. وأخذ مئات الألوف من العمال العرب العاملين في العراق او في دول الخليج يعودون الى بلدانهم لمواجهة البطالة والفقر. ووضع العراق تحت ديون ينبغي للعراقيين ان يعملوا اكثر من ثلاثين عاماً لتسديدها. مع كل هذا هناك من يرى في حروبه الوهمية حروباً حقيقية فيقفون معها باسم العروبة او باسم العداء لاسرائيل ولأميركا، ويشهرون سيوف الخطابة ناشرين التهديدات هنا، والنصائح والاحكام هناك، مدعين انتماءات لاخفاء ولاءات اخرى. لكنهم يلتقون مع الاميركيين في كونهم لا يريدون انهاء نظام صدام وحروبه. ما يأسف له العديد من العراقيين هو ان العديد من العرب اختاروا ان يخوضوا حرباً وهمية، ضد اميركا وعبر نظام صدام، حتى آخر انسان عراقي. تماماً مثلما اختارت بريطانيا العظمى خلال الحرب العالمية الثانية ان تحارب حتى آخر جندي هندي. * استاذ مساعد في جامعة باريس.