تنشر «الحياة» على خمس حلقات فصولًا من كتاب الصحافي الأميركي جون لي أندرسون «رجلنا في بغداد» الذي يتناول فيه بعض خفايا الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات الجانبين العراقي والأميركي إعادة ترتيب الوضعين السياسي والأمني في البلد، في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة. تتناول الفصول أدوار شخصيات محورية في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والأحداث التي واجهتها والمساعي الداخلية والخارجية لتطويق أخطار الحرب الأهلية. يصدر الكتاب باللغة العربية قريباً عن مؤسسة «شرق غرب للنشر- ديوان المسار» في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو اليوم الذي صدر فيه حكم الإعدام بحق صدام حسين، كان جلال طالباني الزعيم الكردي ورئيس العراق يقوم بزيارة رسمية الى باريس. وقد أقام في فيلا (لو موريس) الرئاسية الفارهة في فندق (لويس السادس عشر) المذهب الباذخ الذي يقع في جادة (ريفولي) المطلة على حدائق (تويليري). تابعت صدور حكم الإعدام مع الطالباني في الفيلا التابعة له وذلك من خلال شاشة تلفزيون بلازما كبيرة لقناة العربية الفضائية. جلس طالباني على الكرسي، وحين نظرت إليه لأرى رد فعله لم يكن تعبيره يخونني بشيء. ففي الحال وبعد بضع كلمات مبهمة نهض طالباني وسار باتجاه غرفة نومه. وهرع أحد مساعديه على أطراف أصابعه وراءه، وكان من بين الحاشية التي تسافر معه دائماً، ثم عاد المساعد بعد لحظة ليقول إن طالباني كان يجلس على كرسي ذي مساند ويسرح في تفكير عميق. حكم الإعدام على صدام وضع طالباني في موقف مربك. فصدام دين بتهمة القتل الجماعي لمئة وستة وأربعين شخصاً في قرية الدجيل الشيعية عام 1982. وإن أعدِم سيفلت من المحاكمة الثانية عن حملة الأنفال عام 1988 التي راح ضحيتها أكثر من مئة وستة وثمانين ألف كردي. ومما يسجل لطالباني أنه كان يعارض عقوبة الإعدام، ولكن طبقاً للدستور العراقي فإن أحد واجباته هو المصادقة على أحكام الإعدام. وفي أحد تصريحاته قال إنه حلّ هذه المشكلة فهو يحترم أي قرار للقضاء العراقي. مع ذلك، كان في وضع مربك. طالباني الذي يبلغ الثالثة والسبعين يشتهر بحنكته السياسية وحس الفكاهة لديه وتفاؤله الذي لا حدود له وعدم قدرته على الاحتفاظ بالسر. وهو يُعرف باسم «مام جلال» الذي يعني العم باللغة الكردية. وهذا اللقب هو للتحبب والتمييز. ولطالباني شخصية زئبقية مع مزاج عالٍ للمناورة. بقي في الميدان السياسي العراقي الى حد كبير بسبب قدرته على ابتزاز خصومه وأحياناً حلفائه. وعلى مدى السنوات كان عقد صفقات مع صدام حسين والخميني والرئيسين بوش (الأب والابن). إنه الشخص الوحيد في العالم الذي يمكنه الادعاء في شكل لا ريب فيه ولا يمكن الاعتذار عنه أنه قبّل خدي وزيرة الخارجية الأميركية (السابقة) كوندوليزا رايس والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. ويشير طالباني الى الرئيس (جورج دبليو بوش) على أنه «صديق طيب»، لكنه يعتبر أن ماو تسي تونغ نموذج للدور السياسي. وقال لي عدنان المفتي، أحد الأصدقاء القدامى المقرّبين من طالباني: «لا أحد مثله. فبإمكان مام جلال تنفيذ سياستين مختلفتين في آن». وأخبرني موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني: «يصعب عليك أن تحسبه على أية جهة. فلو كنت إسلامياً فسيأتيك بآيات من القرآن، ولو كنت ماركسياً لتحدث لك عن النظرية الماركسية اللينينية والديالكتيك وديكارت. له قدرة ممتعة للحديث بلغات في آن». وهنا ضحك الربيعي: «ولكن بكلمات محدودة جداً. له العديد من القصص ويعرف الكثير من النكات. إنه شخص كريم في شكل استثنائي. فهو ينفق ليومه من دون أن يفكر في الغد». في الحرب الحالية كان بعض صداقاته المتناقضة مصدر إزعاج له. فقد كانت إيران واحداً من أقوى الحلفاء للأكراد، وكان طالباني خطط ليطير من باريس الى طهران. إلا أنه أجّل الرحلة فجأة بطلب من حكومة بوش. وإلا كان وصل الى طهران في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) ولكانت صورة الحليف العراقي لأميركا قبل يوم من انتخابات الرئاسة غير مريحة بالنسبة الى البيت الأبيض. في بغداد يعيش طالباني في قصر من الطابوق الأصفر على الساحل الشرقي من نهر دجلة خارج المنطقة الخضراء. ومنذ نيسان (ابريل) 2003 استولى طالباني على القصر الذي كان يعود الى برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام والذي كان رئيساً لجهاز الاستخبارات وحكِم مثل صدام بالإعدام لدوره في مذبحة الدجيل (أعدم برزان في الخامس عشر من تشرين الثاني، وكان إعدامه عنيفاً لأن حبل المشنقة قطع رقبته). أما مكاتب الرئاسة فكانت قريبة، وفي قصر كان يعود الى ساجدة زوجة صدام. كان القصر نهب ودمّر بعد الغزو الأميركي عام 2003 ولكن طالباني استعاده. وزرت القصر مرتين بعد إطاحة صدام حسين ووجدت أن أرضه تعلوها النفايات والمخلفات. والغريب وجود آلات حديدية في غرفة النوم الرئيسة. تم تأثيث القصر كما في السابق بقطع أنتيك فرنسي. وعلى رغم أن المكاتب الرسمية الرئاسية لطالباني تقع ضمن المنطقة الخضراء، إلا أنه نادراً ما يزورها. ويقع مجمع طالباني على الجزء الشمالي من أعمدة جسر الجادرية. أما على جهة الجزء الجنوبي فكان هناك بيت عبدالعزيز الحكيم حليفه السياسي والقائد الشيعي للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. ويقع بيت الحكيم في دار طارق عزيز نائب رئيس الوزراء في عهد صدام، وتتم حراسة المقتربات الى جانب مكاتب طالباني في شكل مشدد من قبل البيشمركة الكردية (كلمة بيشمركة تعني بالكردية الذين يواجهون الموت) حيث يخضع لإمرة طالباني قرابة خمسين ألفاً من هذه القوات وهي ضمن حزبه، الاتحاد الوطني الكردستاني، بينما كان يحرس بيت الحكيم رجال الميليشيا من منظمة بدر، الجناح العسكري لحزبه. وهناك حماية مشتركة من الطرفين عبر النهر، وعلى امتداد نصف ميل من شارع يؤدي الى المنطقة الخضراء. وفي ما يتعلق بالقضايا الأمنية والسياسية، فإن كلا الزعيمين وميليشياتهما يعملان في شكل وثيق على رغم أن الأكراد يبدون أكثر علمانية، والشيعة أكثر تديناً، ما يطرح تناقضاً صارخاً في الأسلوب. وخلال أسابيع انقضت في صحبة طالباني لم أره أو أرَ أياً من مساعديه يؤدي الصلاة. زوجة طالباني، «هيرو» لا تعيش معه في بغداد، بل في السليمانية حيث تدير مؤسسة ومحطة تلفزيون وتنشر صحيفة. وقبل سنوات مضت علّمت (هيرو) نفسها استخدام كاميرا فيديو وصوّرت بها معارك البيشمركة مع الجيش العراقي. ولها من طالباني ولدان: بافل الذي يدير جناح مقاومة العصيان في حزب والده، وقوباد الذي يمثل حكومة إقليم كردستان في الولاياتالمتحدة. في بغداد، وفي صباح أحد الأيام دعاني طالباني الى جناحه الخاص. كان الوقت مبكراً وكان لا يزال مرتدياً سروالاً فضفاضاً وقميصاً مخططاً بالازرق والأصفر... أشعل طالباني سيجاراً (يفضل السيجار الطويل المعروف باسم تشرشل). وقبل يوم فجّر انتحاريان نفسيهما في مركز لتجنيد الشرطة خارج المنطقة الخضراء ما أدى الى مقتل 38 من المتقدمين كمجندين. كانت تلك آخر حادثة اتفق الجميع على وصفها بأنها تصعيد في الحرب الطائفية، إلا طالباني الذي قال بعناد: «لا أعتقد بأن العراق على شفا حرب أهلية. فيوماً بعد يوم يتقارب القادة السنّة والشيعة وهذه ليست مبالغة. ان مشكلة العراق الرئيسة ليست الطائفية بل الحرب الإرهابية التي يشنها البعثيون والقوى الأجنبية مثل القاعدة». ودون أن يفقد اتزانه أضاف طالباني: «الوضع أصبح أسوأ بسبب تهور الأميركان وسذاجتهم، وأعتقد بأن الشخص المسؤول الرئيسي هو (وزير الدفاع السابق) دونالد رامسفيلد الذي استقال». بعد فطور نزل طالباني الى الطابق الأرضي لإنجاز مهماته اليومية. كان في انتظاره طاقمه الذي يمارس طقوساً كل صباح، وضمنه وفيق السامرائي رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في عهد صدام والذي انشق عنه وهرب الى (مناطق نفوذ) طالباني أواسط التسعينات، وهو يعمل الآن لديه مستشاراً للأمن الوطني ويدير فريقاً أمنياً يشمل الكثير من العسكريين المحنكين من جنوب أفريقيا. وبموجب البروتوكول فإن نوري المالكي رئيس الوزراء هو الذي يأتي الى طالباني وليس العكس. والمالكي هو رئيس الوزراء الثالث منذ العام 2004، بينما بقي طالباني في منصبه وليس للمالكي سبيل للتواصل مع القادة الأميركيين أو الأجانب، وغالباً يجب أن يتحقق ذلك من خلال طالباني. في العلن طالباني يحاول أن ينزل عند رغبة المالكي ويبدو أنه يريد له النجاح. وتم تداول تقارير تفيد بأن للبيت الأبيض مأخذاً على المالكي، وأن إياد علاوي رئيس الوزراء السابق هو المرشح المفضل لدى واشنطن باعتباره «الرجل القوي» ليحل محله. سخر طالباني وقال لي: «علاوي! انه لا يستطيع السيطرة حتى على عائلته». وأضاف: «المالكي يمكن أن يكون رجلاً قوياً، إن ساعدناه». ثروة الرئيس ان أحد مصادر قوة طالباني هو ثروته. ويعتقد بأنه مع منافسة القديم مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان جمع ثروة هائلة تقدر بملايين الدولارات كضرائب على النفط المهرب من العراق عبر كردستان بين عامي 1991 و2003، حين كان البلد خاضعاً لعقوبات الأممالمتحدة. وطالباني ينفق المال كثيراً على شكل هدايا وشراء الولاءات، بافتراض أن أغنى العرسان في العراق هو الذي يفوز بأفضل فرصة لكسب العروس كما يقال. أخبرني بعض مساعدي طالباني عن رجال في حاشيته يشك في كونهم استفادوا من عقود حكومية حوّلوها الى أصدقائهم. وفي هذا الأمر فإن حلقة طالباني ليست غير اعتيادية. فمحمود عثمان وهو عضو برلمان كردي قريب جداً من طالباني يتذمر من فساد الحكومة وجبنها الأخلاقي قائلاً: «كيف تتوقع الحكومة أن يكون لها احترام وهي منغلقة؟ فالزعماء يعيشون في قصور صدام وفي المنطقة الخضراء ولا يخرجون منها ولرئيس الوزراء والرئيس أموال طائلة يصرفانها كما يشاءان بالملايين أو أكثر، كل شهر. أعتقد بأن الفساد مستشرٍ ومنتظم ويأتي من أعلى. بدأ ذلك حين جاء القادة السياسيون وضمنهم قادة الأحزاب الكردية الى بغداد واستولوا على البيوت بأنفسهم. كل ذلك هو ضد الواقع إذ تمنح أموال التقاعد الى عائلات الجنود أو رجال الشرطة القتلى والتي لا تتعدى مئة دولار في الشهر». وإحدى أكبر المشاكل التي تواجه كل الفئات في الحكومة العراقية – وكذلك الأميركيين – هي الحالة المزرية للقوات المسلحة العراقية. فالكثير من ترسانة العراق دمر في غزو عام 2003، وتم حل جيشه من قبل سلطة الائتلاف الموقتة. وما بقي من معدات نهبت، ويعتقد ان طالباني وبارزاني هما المستفيدان الكبيران. فحالما سقط صدام أرسلا قوات البيشمركة لنهب الأسلحة الثقيلة بما فيها عشرات الدبابات وعادوا بها الى كردستان. أما العصابات المسلحة والمسلحون فنهبوا الكثير مما ترك. بعد لقاء مجلس الأمن الوطني، تحدثت مع نائب رئيس الجمهورية عادل عبدالمهدي، وهو عضو علماني في حزب الحكيم. وكنت التقيت عبدالمهدي قبل سنة في تشييع جنازة أخيه الذي قيل انه اغتيل على أيدي السنّة. وقال: «نجتمع هنا ولكن ليس جميع الحاضرين هم دعاة اللاعنف، في الوقت ذاته هناك أصحاب الشوارع الذين يمتلكون قدراً كبيراً من القوة والسلاح ويعرفون ما يريدون فعله. وبعض أعضاء الحكومة يحبون هذا الوضع، ويعتقدون أن بإمكانهم الاستفادة منه لمصالحهم السياسية». طالباني وحليفه الحكيم لا يعتبران أن ميليشياتهما تشكل مشكلة كالتي تجسدها ميليشيا الصدر. فمنذ عام 2003 حاولا إقناع الأميركيين بالسماح لميليشياتهما بأن تكون تحت قيادة موحدة كي تسهل محاربة المسلحين بحرية أكثر. لكن الأميركيين عارضوا ذلك خشية التسلل الإيراني الى المجموعات الشيعية. مسؤول في حزب الحكيم قال لي: «بدلاً من أن يدعونا نعمل ضد البعثيين والإرهابيين جعلونا نجلس على الجدار، وهذا منح الآخرين – جيش المهدي وما شابه – القوة في الشارع». وأضاف: «المشكلة هي أن الشيعة الشباب لم يعودوا ينصتون الى المرجع، ولا الى تنظيماتهم السياسية. انهم يريدون الانتقام فحسب». وجاءت نقطة التحول بالنسبة الى الشيعة في شباط (فبراير) الماضي حين دمرت الانفجارات مرقد الإمام حسن العسكري في سامراء. وقال المسؤول: «عليك ان تفهم ان هجمات سامراء كانت بالنسبة الى الشيعة كهجمات الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة الى الأميركيين». بعد سامراء، نفذت ميليشيات الصدر أعمالاً انتقامية ضد المدنيين السنّة، وقاد أحد رجال الصدر البارزين في المدينة ويدعى «أبو درع» فرق الموت التي استهدفت السنّة واغتالت أحد محامي صدام. ولكن حين سألت المسؤول الأمني العراقي البارز، وكان شيعياً حول كيفية كبح هذه النشاطات، أثار جوابه تساؤلات. وأشار الى أن «أبو درع» لديه أقارب في مدينة الصدر و «سأذهب وآتي بعائلته وأصدقائه. بعبارة أخرى سأجعلهم رهائن. ثم سأجلس مع مقتدى وأقول: ان لم تسلمه سأعبث بمدينة الصدر ومقتدى لا يفهم أي شيء سوى القوة». هنا ابتسم المسؤول الأمني. عمل طالباني في السياسة منذ العام 1946 حين كان في الثالثة عشرة، والعراق كان محكوماً من العائلة الملكية الهاشمية. انضم الى التنظيم الطالبي الكردي السري، وهذا التنظيم كان جزءاً من حركة الاستقلال الكردية التي بدأت تأخذ شكلها خلال انهيار الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حين فشلت الدول الأوروبية المنتصرة في اعطاء الاكراد دولة. وترك تقسيم الامبراطورية العثمانية الاكراد منتشرين بين العراق (حيث يقدر عددهم بأربعة ملايين كردي، أي ما بين 15 و 20 في المئة من سكان العراق) وسورية وتركيا وإيران. اما كردستان الكبرى كما يتصورها الانفصاليون فتضم اجزاء من كل هذه الدول. في الثامنة عشرة من عمره كان طالباني أصغر عضو في اللجنة المركزية في الحزب الديموقراطي الكردي الذي سانده الاتحاد السوفياتي وكان بقيادة الملا مصطفى بارزاني (والد مسعود بارزاني). درس القانون في بغداد (عدا فترة انقطاع قضاها مختفياً) وأكمل خدمته الإلزامية في الجيش العراقي. ثم عاد والتحق عام 1961 بالانتفاضة المسلحة التي قام بها الملا مصطفى بارزاني. وبعد ثلاث سنوات انفصل طالباني عنه لينضم الى مجموعة انفصالية يقودها ابراهيم أحمد (والد زوجته) لاحقاً. بعد الانقلاب البعثي عام 1968 عقد طالباني صفقة مع صدام حسين الذي كان نائباً آنذاك للحصول على حقوق أكثر للأكراد، وللحصول على دعمه في محاربة بارزاني فقط ليتصالح مع بارزاني حين غيّر صدام ميوله. كانت تلك بداية لسلسلة من الانقسامات ضمن الثورة الكردية، يتحمل طالباني مسؤولية كبيرة إزاءها علماً انها قوّت صدام لفترة. مع «الجبهة الشعبية» كان طالباني ماركسياً ثم ماوياً حيث «جذبته أفكار (ماو) في ما يتعلق بالحرب الشعبية من أجل القتال في الجبال ضد الديكتاتورية». وكان سافر الى الصين عام 1955 على رأس وفد عراقي للطلاب الاشتراكيين. ويتذكر تلك الفترة فيقول: «التقيت بشو ان لاي، رئيس الوزراء وقبلته، ورأيت الرئيس ماو ولكن ليس عن قرب». كما كان منحازاً الى القضايا العربية القومية المناهضة للاستعمار، وخلال رحلاته في الستينات أتيحت له صلات مهمة مع جمال عبدالناصر والملك حسين ومعمر القذافي وياسر عرفات والرئيس حافظ الأسد. (في مكتب طالباني صورة واحدة على الجدار هي صورته مع حافظ الاسد، وقال: كان الأسد طيباً معي جداً. في اواسط السبعينات قضى طالباني فترة في بيروت يعمل مع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، كانت تلك فترة شائكة لا يتحدث عنها سوى القليل، الا ان الاكراد القريبين منه يشيرون الى انه كان آنذاك متطرفاً جداً واصبح متورطاً بالمؤامرة الفلسطينية لخطف طائرة أميركية في أوروبا. وقيل انه تخلى عن دور فيها حين أخبره أحد المعارف بأن موساد يخطط لاغتياله. روى لي طالباني: «كنا نعتبر الولاياتالمتحدة عدواً للشعب الكردي العراقي». وخلال الثمانينات رأت الولاياتالمتحدة ان الاكراد مثيرو مشاكل وأنهم بمثابة مخلب لسورية وايران. في تركيا حليف اميركا في الناتو، كان الانفصاليون الاكراد يشنون حرب عصابات لا هوادة فيها رد عليها الجيش التركي بحملة قاسية لمقاومة التمرد، وقتل آلاف الاكراد المدنيين. وفي ذروة الحرب العراقية – الايرانية تحالف طالباني مرة اخرى مع صدام ثم عارضه وتحالف مع ايران. فكان التحرك التالي لصدام هو «حملة الأنفال» التي أبادت آلاف القرى الكردية خصوصاً في الاراضي التابعة لطالباني. في مدينة حلبجة وبين 16 و 17 آذار (مارس) 1988 قتل أكثر من خمسة آلاف مدني كردي حين ألقت طائرات حربية غازات كيماوية قيل ان بينها غاز الاعصاب والخردل والسارين والتابنون وفي اكس. وعلى رغم ان هذه الهجمات اصبحت في ما بعد حجة ادارة (جورج بوش الابن) لإطاحة صدام، الا ان ادارة ريغان التي كانت تدعم صدام في حربه مع ايران اهتمت قليلاً بذلك. وحين أذيع خبر حلبجة لام البيت الأبيض ايران. وبعد حملة الانفال عاش طالباني متنقلاً بين دمشقوطهران. قال: «كنا نحاول أن تكون لدينا علاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة، لكنها في ذلك الوقت كانت متحالفة مع صدام ومع حكومات تركيا والأقطار الأخرى. حتى حين غزا صدام الكويت فإن وزارة الخارجية الاميركية لم تكن مستعدة لتنصت اليّ. ذهبت الى الولاياتالمتحدة لكنهم رفضوا حتى مقابلتي». بعد هزيمة صدام في حرب الخليج الأولى اوائل عام 1991 انتفض الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال، وقاد طالباني قواته في السليمانية وكركوك. ومع مراقبة أميركية لهذا الوضع، أطلق صدام جيشه ضدهم. وهرب مئات الألوف من الأكراد وسط برد الشتاء القارس، ما أثار أزمة انسانية. وأعلنت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها «منطقة آمنة» في الشمال وبدأ طالبان وبارزاني (اللذان تصالحها موقتاً) بشروط التفاوض لتحقيق تسوية مع صدام. وهناك صورة سيئة الصيت لطالباني وهو يقبّل خد صدام حسين. قال لي: «كان الشعب الكردي يواجه خطر الإبادة، صدام كان مؤدباً جداً خصوصاً معنا. جاء الى الباب ليستقبلنا وقبّلنا. كان ودوداً في اللقاء». وكشفت المحادثات كيف تبادل طالباني ما سماه «الكلمات الخشنة» مع طارق عزيز في شأن حلبجة. وقال طالباني انه حين التقى صدام في ما بعد اعتذار الأخير عن افتقار عزيز للكياسة ولكن من دون التعبير عن الأسف لما حصل، وقال: «أنا أفهم مشاعركم حول حلبجة والأنفال». كما التقى طالباني ابن عم صدام، علي حسن المجيد، المعروف ب (علي الكيماوي) (أعدم) بسبب دوره في الهجمات وخلال محاكمة المجيد في بغداد، وفي شريط بث عن المحاكمة سمع أنه كان يناقش خططه في استخدام الأسلحة الكيماوية. وفي حديث آخر وصف المجيد طالباني ب «الشرير لأنه كان يريد هدنة ليوم واحد كي يثبت نفسه على أنه منقذ للأكراد). وفي اللقاء وبحسب ما رواه طالباني، قال له علي حسن المجيد «أنت تبالغ – العدد الذي قتل في الانفال ليس 182 ألفاً بل فقط 106 آلاف» وهنا ضحك طالباني ساخراً. وحين تطور النطاق الامني للأكراد الى منطقة حظر للطيران، تراقبها الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية، فإن نطاقاً كردياً حقيقياً للحكم الذاتي خارج سلطة صدام برز وتقاتل للسيطرة عليه طالباني وبارزاني. وكان احد اسباب النزاعات عائدات النفط المهرب. الحرب الكردية عام 1994 نشبت حرب أهلية بين جيشي طالباني وبارزاني، وفي خضم هذا الاقتتال قدم الأول مساعدة لقاعدة للمخابرات الاميركية ولأحمد الجلبي. وحين وقع الرئيس بيل كلينتون «قانون تحرير العراق» عام 1998 ووعد بتقديم الدعم لمجموعات المعارضة العراقية، ذهب طالباني وبارزاني الى واشنطن لتسوية خلافاتهما. آنذاك كان أكثر من مئة الف من الاكراد قتلوا من الطرفين. يدرك العراقيون أن بلدهم ليس مصدر القلق الوحيد لأميركا مع ايران. فهناك البرنامج النووي الايراني ودعم ايران ل «حزب الله» و «حماس». مسؤول أمني شيعي كبير قال إن طالباني لو حصل على تنازلات، على الولاياتالمتحدة أن تتابع المفاوضات لأن ايران ستستفيد من ذلك وستحاول فرض القضية النووية عليهم، لكن تلك قضيتهم». وأخبرني احد كبار المسؤولين الأكراد انه كان على ايران «أن توضح ان العراق والولاياتالمتحدة لن يأتيا الى المفاوضات خاليي الوفاض، بل عليهما ان يتعاملا بالطريقة نفسها من خلال أقلياتهم الطائفية». وسمّى الآذريين والبلوش وبالطبع الاكراد. وقال علي أن أعير اهتماماً الى حزب الحياة الحرة الكردي وهو جماعة كردية ايرانية شنت حرب عصابات داخل ايران، وقيل انها تحظى بالدعم السري من الولاياتالمتحدة. وزاد: «انها تعمل من داخل اراضي مام جلال». كانت طهران باردة مكفهرة في السابع والعشرين من تشرين الثاني، حين وصل طالباني والوفد المرافق على متن طائرة من طراز «بوينغ 67» طارت به من باريس. وكان على متنها أيضاً العديد من الوزراء. استيقظ طالباني صباح اليوم التالي لزيارة ضريح آية الله الخميني، ثم التقى الرئيس محمود أحمدي نجاد والقائد الأعلى آية الله علي خامنئي. أخبرني بعض المصادر المقربة من طالباني انه طلب اثناء محادثاته تغييراً في السياسة الإيرانية، وفي شكل خاص «سيطرة» إيران على ميليشيات الصدر، والتحالف بدلاً من ذلك مع الحكومة، وإقناع حلفائها ومؤيديها بمن فيهم سورية و «حماس» و «حزب الله» بأن يفعلوا الشيء ذاته. ثم طلب طالباني ان تباشر إيران اتصالات مع القوات المتعددة الجنسية في العراق وتعمل مع الحكومتين العراقية والأميركية في خطتهما الأمنية لبغداد. وربما كانت القضية الأكثر جدلاً من وجهة النظر الأميركية – ويفترض ان الأميركيين يعرفون بها – اقتراح طالباني تبادل بغداد وطهران المعلومات الاستخباراتية وأن تساعد إيران في تدريب وتجهيز القوات الأمنية العراقية. قال أحد العراقيين الذين حضروا الاجتماع ان طالباني أخبر خامنئي ان العراق يقف الآن على مفترق طرق «فإما البناء وإما الهدم، وهو يحتاج الى مساعدة ايران». ومضى قائلاً: «القائد الأعلى قال انه يتفهم ذلك وسيقوم بكل ما في وسعه. في المقابل أراد من العراقيين ان يأخذوا زمام السيطرة على أمنهم من الأميركيين. شعر المسؤولون في وفد طالباني ان المحادثات كانت تسير في شكل جيد. أخبرني أحدهم ان الرئيس تحدث عن العنف في العراق ما جعل خامنئي يكرر: «كم هذا فظيع، نحن نصلي لأجلكم». قاطعه طالباني قائلاً: «ما نحتاجه هو الدواء». فأجاب خامنئي: «أنا سأقدم صلواتي وهو (مشيراً الى أحمدي نجاد) سيقدم الدواء». في وقت لاحق، في مؤتمر صحافي قال نجاد: «العراق أشبه ببطل جريح». فقال طالباني الذي وقف مبتسماً الى جانبه: «بوسعنا فقط الأمل بشفائه». ضحك الحاضرون، وكانت تلك واحدة من لحظات مام جلال المميزة. وأضاف نجاد: افضل طريقة لدعم العراق هي الحكومة المنتخبة ديموقراطياً». ومهما بدا ذلك غير متجانس مع الظروف الفعلية، إلا ان المرافقين لطالباني أخذوا ذلك على انه اشارة أخرى الى ان الإيرانيين كانوا مستعدين للمساعدة. أخبروني انها كانت المرة الأولى التي يتفق فيها الإيرانيون في شكل علني مع الحكومة العراقية الحالية. جاء إليّ وزير عراقي بعد ذلك وبدا متحمساً، قال: «أترى؟ أخبرتك ان الأمر أكثر من كونه رمزياً!». وبعد وقفة قصيرة انحنى المسؤول وهمس في أذني في شكل مثير: «منحنا هؤلاء الناس أسلحة!». في تلك الأمسية سألت مسؤولاً عراقياً كبيراً هل يعتقد بأن الإيرانيين سيقومون بذلك بالفعل، أجاب: «لنرى، انت غير قادر على التكهن بالأمور مع هؤلاء الناس». * غداً حلقة ثالثة