الأرجح أن ثمة مبالغات كبيرة في التعاطي الإعلامي العربي مع المخاطر المتصلة بكارثة مفاعلات فوكوشيما داتشي اليابانية التي ضربها زلزال هائل تلاه تسونامي مُدمّر. ولا يتردد بعض هذا الإعلام في إثارة الذعر، بالقول إن الأشعة ستختلط مع كل الأعشاب ومياه البحار، وبكميات كبيرة تترسب في لحوم الماشية والأسماك وغيرها. وهذا الرعب يشكّل مشهداً تكرر سابقاً، وثبت أنه تضخيم للمخاوف، وأحياناً اتجار بها. وربما كان مفيداً، وبنبرة واقعية، تذكّر الفارق بين المخاوف المضخَّمة التي رافقت كارثة تشيرنوبيل في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وبين ما أسفرت عنه الأمور فعلياً. وتتناقض هذه الحال من التهويل الكوارثي في الإعلام العربي، مع التصرف الهادئ والحذر والمبني على الوقائع الذي يظهر في تعامل الدول الكبرى مع مشكلة مفاعلات فوكوشيما. فمثلاً، لم تعطِ الولاياتالمتحدة أهمية كبيرة لسحابة الأشعة الذرية التي طارت صوبها انطلاقاً من تلك المفاعلات. ولا يتردّد موقع «الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم» بتقديم نصيحة بعدم إلغاء رحلات الاستجمام لمن يريد السفر إلى جزر هاواي، مُشيراً إلى ان مستويات الأشعة الذرية التي ربما تصل إلى تلك الجزر، لن تشكّل أي ضرر على الصحة العامة، حتى في حال تحقّق أسوأ السيناريوات بصددها. ويرجع سبب تدني القوة الإشعاعية في تلك السحابة من الأشعة، إلى أنها ستعبر المحيط الهادئ (وهو محيط مائي يزيد حجمه عن إجمالي اليابسة على الأرض بأضعاف)، قبل أن تصل إلى أطراف جزر هاواي وجوارها! والحال أن الدول المحيطة باليابان أيضاً لم تلجأ إلى أي إجراءات خاصة، لأن الأمر يتعلق بصدور إشعاعات منخفضة الدرجة الى حدّ كبير. ولن تحصل المخاوف التي لا يتردد الإعلام العربي، خصوصاً الأقنية الفضائية، في تبنِّيها وتسخينها من دون تبصّر! في ميزان التأني علمياً إذن، تؤثر الإشعاعات المنبعثة من مفاعلات فوكوشيما الملتهبة التي لم تبرّدها أطنان من المياه، ضمن مسافة لا تزيد عن بضع مئات من الكيلومترات، بحسب ما أعلنت الولاياتالمتحدة على لسان غريغوري جاكسكو، رئيس «لجنة الطاقة الذرية» في الكونغرس أخيراً. وبالتزامن مع خطوات يابانية، مثل منع مياه الصنابير في طوكيو عن الأطفال الرُضع ونصيحة سكانها بعدم تناول الخضر الغامقة اللون، أحجمت أميركا والاتحاد الأوروبي عن استيراد بعض المنتجات الزراعية والحيوانية من اليابان، خصوصاً تلك الآتية من المناطق المعرضة لنشاط التلوث بالأشعة المنبعثة من فوكوشيما. وعمد هذان الطرفان أيضاً إلى فرض رقابة منهجية على الأسماك والمأكولات البحرية، بهدف رصد مدى تركيز الأشعة الذرية في تلك المنتجات. ولم تقع أميركا والاتحاد الأوروبي في التهويل والتضخيم، بل إنهما يتخذان من الخطوات ما يتلاءم مع المعطيات المتغيّرة للموقف بالنسبة الى مفاعلات فوكوشيما. محاكاة افتراضية للكارثة في سياق التعامل بروية علمية مع كارثة فوكوشيما وآثارها، أطلقت الولاياتالمتحدة مشروعاً لصنع محاكاة افتراضية على كومبيوتر عملاق، بهدف الحصول على نسخة رقمية من الانفجارات والتفاعلات التي تجري في قلب مفاعلات فوكوشيما، وتالياً الحصول على معلومات دقيقة عن الإشعاعات النووية التي تصدر منها. وكذلك أصدرت جامعة مانشستر في بريطانيا نتائج دراسة قادها الاختصاصي ريتشارد ويكفورد، خلصت الى أنه حتى لو شرب طفل رضيع في طوكيو مياه الصنابير الملوّثة ذرياً، فإن مقدار الأشعة التي يتعرض لها في الوقت الحاضر لا تزيد عما تتعرض له أجساد البشر طبيعياً من الإشعاعات التي تصل الى الأرض من الفضاء باستمرار. في السياق نفسه، وضعت «الوكالة اليابانية للسلامة الصناعية والذرية» كارثةَ مفاعلات فوكوشيما على الدرجة الخامسة في مقياس الكوارث الذريّة، الذي يتكوّن من سبع درجات. وعند الدرجة الخامسة، تترافق الكارثة مع صدور كميات كبيرة من الأشعة النووية، إضافة الى احتمال حدوث وفيات كثيرة. وبهذا، صار هذا الحادث موازياً لحادث انفجار مفاعل «ثري مايلز آيلند» في ولاية بنسلفانيا عام 1979. وكذلك أضحت هذه الكارثة اليابانية أقل بدرجتين من انفجار مفاعل «تشيرنوبيل» في أوكرانيا عام 1986. وكذلك تقل كارثة فوكوشيما عن انفجار مفاعل «كيشتيم» في روسيا عام 1957، بمقدار درجة مفردة. وقد ألقى سرب من الطائرات المتخصصة في الإطفاء ما يزيد على خمسين طناً من المياه على المفاعلات الملتهبة في فوكوشيما. ويرى خبراء في «اللجنة الأميركية للطاقة الذريّة» أن المشكلة الأبرز تكمن في حدوث تصدّع في قعر البركة المائية في المفاعل الرابع، ما يجعل إعادة ملئها بالمياه مهمة شبه مستحيلة. وتنهض البِرك المائية في المفاعلات الذرية بمهمة امتصاص الأشعة التي تصدر عن احتراق اليورانيوم في قلب المفاعل. وفي هذه المفاعلات، يؤدي احتراق اليورانيوم المنخفض التخصيب نسبياً إلى صدور كميات كبيرة من الطاقة، تستخدم في تسخين المياه في أنابيب ضخمة، لتتحوّل بخاراً، ثم يندفع البخار ليحرّك توربينات تتولى توليد الكهرباء. ولذا، يُعتبر نفاد الماء من البِرك من أسوأ السيناريوات في هذه الكارثة، لأنه يعني فقدان القدرة على السيطرة على الإشعاعات المنبعثة من المفاعلات، إضافة الى الارتفاع المطرد للحرارة، ما يساعد على انصهار قضبان اليورانيوم المخصّب في هذه المفاعلات أيضاً. تضمّ اليابان 54 مفاعلاً ذرياً، تعطيها 30 في المئة من حاجاتها الكهربائية. في العقد الذي تلا إلقاء القنبلتين الذريّتين على هيروشيما وناغازاكي، منعت قوات الاحتلال الأميركي نشرَ أي معلومات عن آثار الأشعة الذريّة. وفي العام 1954، قرّرت اليابان الشروع في برنامج نووي للبحوث، مُعلنة أنها تسعى للحصول على طاقة نظيفة مئة في المئة. وجاء تبنيها المفاعلات الذريّة ضمن هذا المسعى. الآثار البيولوجية للأشعة الذرية تقاس المخاطر البيولوجية للأشعة الذريّة بوحدات تسمى «سيفرت» Sievert، وغالباً ما يستعمل القياس الصغير منها، («ميكروسيفرت» SVμ وهو واحد على مليون من السيفرت) في قياس مدى امتصاص الأنسجة البيولوجية للأشعة الذرية. وفي معظم البلدان، يعتبر التعرض للأشعة الذرية آمناً إذا بقي ضمن حدود خفيضة، وتحديداً إذا لم يزد عن عشرين ميكروسيفرت في السنة لمدة 5 سنوات، شرط ألا ترتفع الكمية عن خمسين ميكروسيفرت إلا لسنة وحيدة. ويطبّق هذا المعيار على العاملين في المؤسسات التي تتضمن أشعة ذرية، مثل العاملين في المفاعلات الذرية ووحدات الأشعة في الطب النووي والقاطنين قرب منشآت ذرية وغيرها. وبصورة عامة، تتضمن الأشعة الذرية مزيجاً من الموجات الكهرومغناطيسية، ومجموعة من المُكوّنات الذريّة التي تحمل شحنات كهربائية، مثل جزئيات ألفا وبيتا. وتضرب هذه الموجات والمُكوّنات الخلايا الحيّة، فتعرّضها لما يُشبه عملية الحرق بالنار، إضافة الى إلحاق أذى مباشر بالحمض الوراثي في نواة الخلايا، بمعنى إحداث خلل في الجينات التي تتحكّم بتركيب الأنسجة وعمل أعضاء الجسم كافة. وتولّد الأشعة الذرية نوعين أساسيين من الآثار البيولوجية. ينجم النوع الأول من التعرض لكمية كبيرة من الأشعة النووية لفترة قصيرة، ما يؤدي الى تغيّرات في خلايا الدم، وغثيان وتقيّؤ (بعد ساعتين) يليها إسهال شديد، ثم يتساقط الشعر، ويحدث نزيف داخلي يؤدي الى الموت خلال فترة تتراوح بين بضع ساعات (في حال الجرعة الضخمة جداً) وأسبوعين. ويتمثّل النوع الثاني في التعرّض لكميات قليلة من ال «سيفرات» لفترة طويلة. وتنجم عنها تغييرات متنوّعة في الجسم، مثل التهاب الرئتين وتليّفهما، وظهور أورام خبيثة في الغدة الدرقية والعظام والدم. وفي الحالين، تظهر أعراض اخرى مثل الالتهاب في الجلد مع ظهور بثور متنوّعة فيه. وتتحدث بعض المراجع العلمية عن فرضية «الاستنهاض الإشعاعي» Radiation hormesis. وتفيد هذه الفرضية بأن التعرض لكميات صغيرة جداً من الأشعة الذرية، يعطي آثاراً إيجابية تتضمّن زيادة قوة الحمض الوراثي وتفعيل قدرته على التصدي لما يُضر به، وإعادة إصلاح الأجزاء المتضررة فيه. ويؤدي هذا الاستنهاض إلى رفع فعالية الحمض الوراثي، ما يقيه من السرطان والأمراض المزمنة، إضافة الى جعله منيعاً حيال الأشعة الذريّة! ومن الصعب التأكّد من مدى صحة هذه الفرضية المثيرة للجدال. [email protected]